01/09/2019 - 14:54

جرافيتي الجدار... تضامن يُسلّع المعاناة

جرافيتي الجدار... تضامن يُسلّع المعاناة

 

قد يبدو جدار الفصل العنصريّ سطحًا شهيًّا للرسم لفنّاني الجرافيتي. فلننظر إليه متجرّدين من السياسة والإنسانيّة لوهلة؛ جدار أصمّ بارتفاع يطاول عشرة أمتار، وطول يجاوز - حال انتهائه - 700 كيلومتر، لونه أسمنتيّ بلا روح، خالٍ من العيوب الإنشائيّة والتشوّهات، مع إطلالة جميلة لأراضٍ مصادَرة من أصحابها، لدواعٍ أمنيّة من جهة، ومخفيّ أو معالَج بطرق مختلفة ليختفي من الجهة الأخرى.

 

هل تصل الرسالة؟

كثير من الفنّانين الدوليّين يقعون في هذا الفخّ، مَنْ يظنّون أنّ ترك رسائل مناهضة للاحتلال في شرقيّ الجدار، من شأنه إيصال رسالة تضامنيّة، غافلين عن أنّ مَنْ يتلقّى هذه الرسائل هم أنفسهم مَنْ يقع عليهم نير البطش الاحتلاليّ، ومَنْ يجب أن تصله الرسالة يجلس مستمتعًا غربيّ الجدار، لا يأبه في أقلّ تقدير بما يحدث شرقيّه، بل غيرهم أيضًا من الفلسطينيّين، ممّن أغرتهم "هيبة" الجدار، من فنّانين وناشطين، حتّى جاء وزير الثقافة الحاليّ في السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، ليترك بصمته بلون ذهبيّ أمام أحد أهمّ رموز الاستغلال الرأسماليّ لمعاناة الفلسطينيّين، شعارًا كان ذا فاعليّة في مكان آخر، وربّما على جدار آخر، ولكن قبل ما يزيد على 20 سنة!

نجح بانكسي في اجتذاب مَنْ يبحثون عن خلاص من معضلتهم الأخلاقيّة الذاتيّة، بالوقوف إلى جانب مَنْ هم أقلّ حظًّا بالحرّيّة وأوفر حظًّا بالظلم؛ وذلك من خلال تسليع معاناة أهل المنطقة

منذ عام 2007، وفي باكورة إنشاء الجدار، تسلّلت رسمات لم يُعرف صاحبها آنذاك؛ فتاة تحمل بلالين لتصعد إلى جانب الجدار الغربيّ، فئران تحاول نقبه كما كان في سدّ مأرب، فتًى مع ألعاب شاطئ مع مشهد بحريّ، ستارة مرفوعة خلفها مشهد طبيعيّ وأمامها مقعدان وطاولة صغيرة وغير ذلك، كان من شأن هذه الأعمال تسليط الضوء عالميًّا على جدار الفصل العنصريّ، وهذا ما شكّل إغراء لممارسي الفنّ العامّ، ليسافروا لوضع بصماتهم أيضًا عليه.

حتّى مدّة قريبة، كنتَ إذا بحثتَ عن الجدار أو "The Wall" في محرّك بحث، تظهر لك نتيجتان: إمّا جدار الفصل العنصريّ، وإمّا ألبوم "The Wall" لفرقة "Pink Floyd" الّذي صدر عام 1979، حتّى جاء ترامب لينافس النتائج بجداره مع المكسيك، فضلًا عن فيلم هوليووديّ عن جنديّ أمريكيّ في العراق، أُنتج عام 2017.

 

فندق بانكسي

ذاك الّذي بدأ - أو بدؤوا - الجرافيتي في 2007 على الجدار، استغلّ تلك الموجة من الشهرة حين وقع بفخّها، بصفته صاحب المبادرة الأولى، فأنشأ بانكسي فندقًا شمال بيت لحم، على بعد بضعة أمتار من بوّابة بيت لحم نحو القدس، يُدعى "The Walled Off Hotel" أو "الفندق المسوَّر"، واعدًا الزائر بأسوأ إطلالة في التاريخ، متناسيًا ربّما أو متجاهلًا الرسالة الحقيقيّة للجرافيتي فنًّا عامًّا، مُناوئًا ومناهضًا لسلطة رأس المال أو السلطة المتحكّمة.

أمّا البيان الّذي ينشره موقع الفندق، فيدعو فيه الطرفين المختلفين إلى زيارة المكان واحتساء بيرة ليناقشا اختلافاتهما، وكأنّ الصراع الفلسطينيّ في هذا الفندق قد غدا مجرّد سوء فهم

نجح بانكسي في اجتذاب مَنْ يبحثون عن خلاص من معضلتهم الأخلاقيّة الذاتيّة، بالوقوف إلى جانب مَنْ هم أقلّ حظًّا بالحرّيّة وأوفر حظًّا بالظلم؛ وذلك من خلال تسليع معاناة أهل المنطقة، واستحال الاختناق مالًا في جيوب المستثمرين من خلال زيارات الزائرين وإقاماتهم، وقد دشّن بانكسي في الفندق صالة عرض لاستقبال الفنّانين، ومتحفًا موجّهًا إلى الزائر غير الفلسطينيّ، ليرى بشاعة الفصل العنصريّ وانتهاكات الاحتلال للضفّة الغربيّة، في جولة مدّتها تتراوح بين 10 و20 دقيقة، بتعرفة رمزيّة تبلغ نحو 4 دولارات، ليخرج بعدها الزائر يمارس حياته الطبيعيّة، مكملًا تخطيط رحلته. والجولة بطبيعة الحال مجّانيّة للفلسطينيّ الّذي سيزداد اختناقًا بسبب المقتنيات الفجّة الّتي سيراها في الفندق، فهي الّتي تواجهه يوميًّا في حياته العاديّة.

 

ذكريات للبيع

رافق إنشاء ذلك الفندق ظهور سوق كاملة على امتداد الشارع أمام الجدار، تبيع مشتقّات ذكريات معاناة أهل المنطقة تحديدًا - وعموم فلسطينيّي الضفّة الغربيّة عمومًا - من الجدار، بأعمال فنّيّة بأيدي فلسطينيّين استغلّوا الزائر المتضامن البسيط، لإيهامه بجدوى هذه الزيارة، وبمتاجر لبيع مستلزمات الجرافيتي، ليترك الزائر ذاته بصمته، بأنّه أنجز ما عليه من تضامن، وقد تحرّر بفضله فتًى آخر من اعتقال، أو قد انسحب المحتلّ من مستوطنة أخرى، وكلّ ذلك طمعًا ببضعة دراهم يأتي بها الرجل الأبيض، ليحمد الله على نعمة حرّيّته، بعد المشهد الأسمنتيّ المغطّى حاليًّا بتواقيع ورسومات ورسائل سطحيّة، للتضامن ونبذ الحرب وصناعة الحمّص بدل الجدار، وخلاف ذلك من تسخيف وتسفيه لمعاناة تجلّت بأبشع صورها.

ربّما في المستقبل، وحين يزول الاحتلال وتاليًا الجدار، سيكون هذا التسليع في مكانه، لكنّه لن يكون استثمارًا للمعاناة بقدر ما سيكون استثمارًا لممارسات سلطات احتلاليّة منزوعة الإنسانيّة

أمّا البيان الّذي ينشره موقع الفندق، فيدعو فيه الطرفين المختلفين إلى زيارة المكان واحتساء بيرة ليناقشا اختلافاتهما، وكأنّ الصراع الفلسطينيّ في هذا الفندق قد غدا مجرّد سوء فهم أو خلاف بين جارين تربطهما صلة قرابة، وهذا ما يظهر جليًّا في الأعمال المنتشرة في بهو الفندق وغرفه، وأنّ ما يحدث بين هذين الجارين بالإمكان حلّه على فنجان قهوة سادة!

 

"الجميع مرحّب به"

لا أنكر ذكاء المستثمرين بالرسالة "المبطّنة" الّتي وضعوها في مدخل الفندق، لربّما هي الرسالة اللطيفة الّتي يريد العالم سماعها، للتعايش اللطيف بين كلّ البشر، متناسين التاريخ أوّلًا، ومتجاهلين ما يحدث يوميًّا على الأرض الّتي يزورونها ثانيًا، ولك عزيزي القارئ أن تفهمها كما يحلو لك: "الجميع مرحَّب به".

ربّما في المستقبل، وحين يزول الاحتلال وتاليًا الجدار، سيكون هذا التسليع في مكانه، لكنّه لن يكون استثمارًا للمعاناة بقدر ما سيكون استثمارًا لممارسات سلطات احتلاليّة منزوعة الإنسانيّة، سيكون حقًّا لأهل الأرض، لاستغلال ما خلّفه الاحتلال، لإعادة جزء ممّا دمّره.

 

 

حمزة أبو عيّاش

 

 

فنّان متعدّد الوسائط. درس الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنيّة - نابلس. شارك في العديد من المشاريع والمعارض الجماعيّة، بالإضافة إلى مشاركته في أعمال مسرحيّة، تمثيلًا وإنتاجًا. يهتمّ بفنّ الجرافيتي، وتحديدًا الحروفيّات.

 

 

التعليقات