03/10/2021 - 12:31

نبوءة بالموت: صورة لحياة محمّد الجولاني وفنّه

نبوءة بالموت: صورة لحياة محمّد الجولاني وفنّه

من أعمال الفنّان الراحل محمّد الجولاني

 

"ما الّذي يعنيه الموت بالضبط؟ إنّه لا يعني غياب الأشخاص، بل يعني أن تستيقظ وتجد جثّة الشخص مُضْرِبَة عن الحركة... إضراب ساخر وعصيان مدنيّ فرديّ مفتوح وغير قابل للتفاوض... ليس للميّت ما يخسره... لم يَعُد يخيفه قانون ولا أمراض ولا أوبئة ولا مجاعات ولا فقر ولا غنًى، لم تَعُد تخيفه جيوش ولا أسلحة ولا سموم. حتّى الموت نفسه لم يَعُد بإمكانه إخافته، ببساطة شديدة لأنّه مات وانتهى الأمر، مات فهزم حتّى الموت، مات، كمَنْ وجد حلًّا أبديًّا لنفسه؛ حلًّا نهائيًّا لكلّ الأسئلة والأجوبة الّتي بلا طعم وبلا معنًى وبلا هدف... لا يمكن عاقلًا ترك الراحة الأبديّة بعد أن ذاق حلاوتها، والعودة إلى قرف الحياة وقلقها ورهابها".

 

 «الموت»، محمّد بنميلود

قبل ثمانية أشهر من وفاته، نشر الفنّان محمّد الجولاني نصًّا طويلًا عن الموت، على صفحته على فيسبوك. لم يكن يعرف حينذاك، أنّه سيختبر الموت بنفسه خلال فترة قصيرة. توفّي الجولاني في 2 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2020، عن عمر يناهز 37 عامًا. كان الجولاني ذو الوجه الطفوليّ، والابتسامة الكبيرة الدافئة، والعينين اللامعتين المفعمتين بحبّ الحياة، يخفي روحًا تائهة. وفي بحثه عن معاني الأشياء، كان يحاول إيجاد إجابات تساعده على فهم نفسه وشغفه بالفنّ؛ فهو لم ينفكّ، خلال حياته القصيرة وبإصرار، عن محاولة فهم دوره فنّانًا؛ فراح يطرح أسئلة حول جدوى الفنّ، راسمًا نفسه في لوحاته أثناء عمليّة البحث عن إجابات.

كان الجولاني ذو الوجه الطفوليّ، والابتسامة الكبيرة الدافئة، والعينين اللامعتين المفعمتين بحبّ الحياة، يخفي روحًا تائهة. وفي بحثه عن معاني الأشياء، كان يحاول إيجاد إجابات تساعده على فهم نفسه وشغفه بالفنّ...

في أحد أعماله الفنّيّة، وهي أكثر الأعمال الّتي نشرها زملاؤه بعد رحيله، صوّر الجولاني نفسه وهو يغادر باب مرسمه، وبجواره انعكاس شبحيّ لجسده، وكتب في وصف العمل عام 2017: "هأنذا أخرج من عملي لأكتب عنه. أبتعد وأنظر إلى شبحي يدير ظهره لورشته اليوميّة، فأرتبك. أرتبك وأمدّ يدي إلى اللوحة لأعيدني إليها، دون أن أدري ما الّذي أريده بالضبط؛ أهو وصف الشكّ حين كان فكرة أم وصف الشكّ حين اكتمل وصار شكلًا؟ أأحاول في هذا العمل إحياء التوازن بين الواقع والخيال، أم أحاول قتله وتحطيمه، أم أنّ ديغاس كان محقًّا حين قال: يرى الشخص ما يرغب في رؤيته، وهذا الزيف هو ما يشكّل الفن؟".

 

قُدْسُه

وُلِدَ الجولاني في القدس عام 1983، وحصل على البكالوريوس في «الفنون الجميلة» من «جامعة القدس» عام 2009، وكان طالب ماجستير في «الفنون المعاصرة في «أكاديميّة بتسلئيل للفنون» عندما توفّي. درّس «الفنون البصريّة» في «جامعة القدس»، وفي «مدرسة الفرندز» في رام الله، وحصل على الجائزة الثانية في «مسابقة إسماعيل شمّوط للفنون الجميلة» عام 2016، وأقام ستّة أشهر عام 2018 في مدينة الفنون في باريس.

كان الجولاني فنّانًا مقدسيًّا بامتياز، ينتمي إلى القدس جسديًّا وروحيًّا. رسم المدينة الّتي أحبّها من منظوره الخاصّ؛ ففي «معرض يوم عاديّ» (2016)، صوّر الجولاني القدس من خلال سلسلة من الأعمال الفنّيّة الّتي عكست أحد أيّامه «العاديّة»، في مدينة مليئة بالتناقضات. ركّز المعرض، المصحوب بتسجيلات صوتيّة لضوضاء المدينة، على الإيقاع اليوميّ لحياة الناس وأهل المدينة، بدلًا من التركيز على حجارتها الصامتة ومشاهدها المقدّسة الّتي تظهر في المخيّلة عند الحديث عن المدينة: إيقاع من الملل ومن الحبّ والحميميّة، يقضّها التفتيش الأمنيّ ​​والحواجز والاعتقالات، والشعور اللانهائيّ بأنّ ثمّة ما سيحدث.

البلاط الزخرفيّ العربيّ الملوّن، وكراسي المقاهي التقليديّة، رمزان استخدمهما الجولاني عند تصوير المدينة في أعماله المختلفة، إضافة إلى الحمار. تتّحد الرموز الثلاثة، وتكون في لوحات معيّنة، معًا أو بشكل منفصل، وكأنّها تريد أن تبلغنا رسالة. قد يكون في البلاط الملوّن محاولة تصوير لتاريخ القدس وعراقتها، والغنى التاريخيّ الّذي تمثّله المدينة. أمّا كراسي المقهى التقليديّة، فهي تعكس حياة رتيبة مليئة بالتكرار والملل والانتظار، وخاصّة عندما تتكرّر في عدد من اللوحات، أو عندما يرسمها مرتّبةً بعضها فوق بعض، وكأنّه نهاية يوم في مقهًى أو إيذان بانتهاء اليوم، بينما يظهر الحمار في كثير من أعماله وكأنّه يذكّر بالصبر، وهو يمثّله.

عرض الجولاني فنّه في أحياء القدس، من خلال مشاريع عدّة، كان أحدها ضمن تدخّل شارك فيه في «معرض قلنديا الدوليّ» (2018)، تحت عنوان «على السطح». وساهم الناس بمساعدة الجولاني في إعداد الجدران وأسطح المنازل في البلدة القديمة؛ ليلوّنها بألوان زاهية نابضة بالحياة، جالبًا الفنّ والفرح إلى عتبة منازل أهل القدس الّذين يشكّلون نسيج المدينة، ويعيشون مهمّشين فيها، وكأنّ الاهتمام بالأماكن المقدّسة طغى على الاهتمام بهم وبصمودهم في المدينة.  

 

«ما زال واقفًا»

في مشروعه الأخير، في أوائل صيف 2020، وبتكليف من «المعهد الفرنسيّ» في القدس، رسم مذكّراته في الجائحة، والعزلة الّتي شعر بها داخل العزلة الّتي كان يشعر بها أصلًا. تألّفت مشاركته من سلسلة من ثلاثة أعمال فنّيّة، تحتوي الثانية الأولى بينما تحتوي الثالثة الأولى والثانية؛ فقد وضع الجولاني نفسه في وسط الأعمال الثلاثة، مرتديًا كمامة، وكاشفًا عن إحدى عينيه، ومغطّيًا الأخرى بضربات فرشاة ثقيلة. تكشف عينه الموجّهة نحو المشاهد عن نظرة ثاقبة حادّة يشوبها القلق.

عرض الجولاني فنّه في أحياء القدس، من خلال مشاريع عدّة، كان أحدها ضمن تدخّل شارك فيه في «معرض قلنديا الدوليّ» (2018)، تحت عنوان «على السطح». وساهم الناس بمساعدة الجولاني في إعداد الجدران وأسطح المنازل في البلدة القديمة...

 

بينما رسم في اللوحة الثانية نفسه وهو يتأمّل اللوحة الأولى؛ في ما رسم في اللوحة الثالثة نفسه وهو يرسم اللوحة الثانية. لقد سمح هذا لسلسلة اللوحات بالعمل معًا كانعكاسات مرايا وصور متكرّرة لا نهاية لها، وكأنّه أراد التعبير عن العزلة حلقةً زمنيّة مفرغة لا تنتهي.

أعمال الجولاني مشاريع حميمة نابعة من تجربته فنّانًا شابًّا، يشكّل همّه جزءًا من هموم جيله وقلقه وطموحاته، في مدينة تُرِكَت وحدها لمصيرها في ظلّ احتلال وحشيّ. قد يلخّص تمثاله «ما زال واقفًا» لرجل واقف بساق واحدة، ويفتقد أجزاء كبيرة من جسده، كيف شعر وفهم حياته والمسيرة الصعبة لجيله من الفنّانين، الّتي تطلّبت الكثير من العمل والجهد، والبحث عن الذات وعن أساليب مميّزة من التعبير، لكنّه أراد من خلال العنوان أن يؤكّد المثابرة والتصميم في الرحلة إلى المستقبل.

محمّد الجولاني، لروحك السلام.

 

مترجَم بتصرّف من نصّ نُشِر بالإنجليزيّة في «فصليّة القدس»، الصادرة عن «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة»، العدد 84، شتاء 2020.

 


رنا عناني

 

 

 

كاتبة وناقدة فلسطينيّة. مؤلّفة كتابي الأطفال "جداريّة الحلّاج العجيبة" و"صاروخ إلى الفضاء"، كما شاركت في تأليف "عمارة قرى الشوك" مع سعاد العامري.

 

 

التعليقات