22/10/2021 - 18:59

الجُرْحُ يضمّده الجَرْح: خالد حسين يحكي أطراف غزّة المبتورة

الجُرْحُ يضمّده الجَرْح: خالد حسين يحكي أطراف غزّة المبتورة

من معرض «أفتقدك بشدّة» لخالد حسين | غزّة، 2021

 

"كلّ ما نراه يخفي شيئًا ما لا نراه، ونحن نتوق دائمًا إلى فهم المخفيّ وراء ما نراه".

رينيه ماجريت[1]

 

ما لا نراه

خلال مسيرات العودة وكسر الحصار، الّتي بدأت عام 2018، واستمرّت نحو عام، هيمنت قضيّة مبتوري الأطراف على حديث الناس في غزّة؛ ففي عام المسيرات الّتي كانت تُقام أسبوعيًّا على الشريط الاحتلاليّ الفاصل لقطاع غزّة عن الأراضي المحتلّة منذ عام 1948، كان يمكن زيارة أيّ مكان يقدّم الخدمات للجرحى في القطاع، وملاحظة المشهد البارز دون حاجة إلى تدقيق في النظر: أطراف مبتورة، رُكَب مغطّاة بشاش أبيض، جرحى يتحلّقون حول بعضهم بعضًا، ويفصل بين كلّ جريح وآخر عكّاز.

كان هناك أيضًا شيء أقرب إلى النقمة العامّة على الواقع، وسير الأحداث على الأرض. في عام 2019، شاعت تسمية «حيّ المبتورين» لوصف حيّ وسط القطاع، يقع فيه مركز تابع لمنظّمة «أطبّاء بلا حدود»، وصفًا لتكدّس الجرحى المستمرّ أمام المركز، في انتظار تقديم علاجاتهم والكشف الدوريّ على إصابتهم.

 

من أعمال «أفتقدك بشدّة» لخالد حسين، 2021

 

كان لكلّ واحد تأويله وقراءته الخاصّة للمشهد وتقييمه. يقول الفنّان التشكيليّ خالد حسين، وكان "لا بدّ من أن أقرأ أنا المشهد، وأعبّر عنه من زاويتي. صحيح أنّ أصحاب الأطراف المبتورة موجودون في كلّ مكان، لكنّ جزءًا كبيرًا من هؤلاء الضحايا يقبعون في بيوتهم، يجترّون آلامهم الجسديّة والنفسيّة، بعيدًا عن عيون الآخرين، وكانت تلك النقطة الّتي أودّ أن أنقلها إلى الجميع؛ فالجرح لا يضمّد إلّا بالجرح، ويمكن المعرفة في شيء نجهله، أن تصبح جرحًا، يشعرنا بآلام غيرنا".

 

الطرف الشبح

كان الاقتراب بشكل وثيق من أصحاب الأطراف المبتورة، وسماع قصصهم الّتي لم تُرْوَ هدف حسين. وفي سبيل ذلك، عالج مشروعه الّذي استغرق إنجازه مدّة عام في معرض بمقرّ «محترف شبابيك» - «دائرة الفنون البصريّة» التابعة لـ «الاتّحاد العامّ للمراكز الثقافيّة» في غزّة، في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، الحالة الّتي يعيشها أصحاب الأطراف المبتورة، بدءًا من صدمة الإصابة، ثمّ الاختلال الّذي تُحْدِثُه، وصولًا إلى الاعتدال بعد رحلة شاقّة في أنسنة السقوط، وما يتضمّن هذه الرحلة من آلام نفسيّة وجسديّة غير ظاهرة للعيان.

التحدّي الأبرز لحسين، كان استنطاق الطرف الشبح وقصّته المختبئة عن العيون. وهو مصطلح طبّيّ يُطْلَق لوصف الإحساس بألم الإصابة في الطرف المبتور الّذي يرافق صاحبه لفترة طويلة، رغم شفاء جرح العمليّة.

في قصّة نقلها لنا، كان حسين (46 عامًا) جالسًا مع شابّ خلال بحثه في المشروع، حدّثه الشابّ أنّه بعد أن بُتِرَتْ قدمه وُضِعَت في ثلّاجة الموتى، وكان طوال الوقت يأمل في أن يعود النبض والحياة إليها، لكنّ الشابّ استيقظ من جرحه، دون أن تتحقّق آماله، وقرّر أن يذهب للمشاركة في دفن ساقه.

في هذه اللحظة، كان ثمّة شيء لا يمكن أن يُرْوى؛ شيء عالق في ذهن الشابّ، ولسانه معقود عن نطقه، كيف يمكن أن يدفن إنسان ما جزءًا منه؟ أن يسير في جنازة طرف من أطرافه؟ ما الشعور الّذي يعتصر بداخله خلال ذلك؟ وبينما نهض للعودة، لم ينتبه أنّه بات الآن بقدم واحدة، همّ بالوقوف، لكنّه سقط. كان ذلك أوّل شعور يختبره الشابّ في حياته الجديدة، حياة ما بعد البتر.

 

«صندوق المرآة»

أحد المحرّكات الّتي دفعت حسينًا للتركيز على المشروع، هو التهميش الفنّيّ الّذي عاشته قضيّة أصحاب الأطراف المبتورة، فعلى ضرورتها، يقول: "ظلّت بعيدة عن متناول الفنّانين في مختلف المجالات الفنّيّة"، مُضيفًا "ربّما هول المسألة، كان المانع الأساس".

 

من أعمال «أفتقدك بشدّة» لخالد حسين، 2021

 

تركّزت القواعد الّتي سعى حسين إلى معالجتها واستعراضها، في مشروعه الّذي أُطْلِقَ عليه «أفتقدك بشدّة»: الطرف الشبح، والأزمة النفسيّة الّتي يعيشها الجرحى، ورحلة العلاج وفقره في غزّة. في زاوية العلاج، حاول حسين، إظهار جزء من آلام الجرحى النفسيّة؛ فأحد أسباب الألم الطويل الّذي يرافقهم، هو ألم وهميّ، يسكن أدمغتهم إثر الإصابة، فبعد عمليّة البتر، تفقد مناطق في النخاع الشوكيّ والدماغ المدخلات من الطرف المبتور، وتتكيّف مع التغيّر بطرق مختلفة، ويصدر إثر ذلك الدماغ، إشارات حسّيّة مؤلمة.

في محاولة لتجاوز هذا الألم، يخضع الشخص لأساليب علاج مختلفة، بينها ما يُعْرَف بعلاج «صندوق المرآة»، وهو سلوك من سلوكيّات العلاج النفسيّ لتجاوز إشارات الألم الّتي تسكنهم بعد البتر.

تطوّر هذا السلوك قديمًا، وتذكر بعض المصادر إلى أنّه ظهر بشكل بارز في القرن الـتاسع عشر، وهو عبارة عن صندوق زجاجيّ، توضع فيه القدم السليمة، فتنعكس على الطرف المبتور، وعند النظر إليها يشعر الشخص بأنّه لا يعاني من فقد في الطرف الّذي يؤلمه؛ وهو ما يعطي إحساسًا داخليًّا بالطمأنينة، وعلى الأثر يزول الألم بعد رحلة طويلة من الخضوع للعلاج.

 

صراخ في الوجوه

يضمّ مشروع «أفتقدك بشدّة»، سبعة أعمال تسبح في فضاء واسع لفكرة واحدة، اعتمد في تنفيذها الفنّان حسين على النحت، وبمعالجة متأثّرة بفنّ التركيب، والفنّ المفاهيميّ[2]، الّذي يعتمد في أساسه على الفكرة، نتيجةً أساسيّةً من طرح العمل الفنّيّ.

ويُعْرَف في الفنّ المفاهيميّ أنّ الفكرة لها الأسبقيّة عن باقي العناصر في المشروع؛ لذلك، كان مجرّد طرح موضوع ذوي الأطراف المبتورة أمرًا مهمًّا؛ إذ يشير حسين إلى أنّ ثمّة سطحيّة إلى حدّ ما، في تعامل المجتمع مع القضيّة؛ لذا كان الأمر يستحقّ الصراخ في وجوه الناس لأجله: أن ثمّة حاجة إلى أن يصبح الجميع أكثر حساسيّة تجاه الأشياء حولهم، وتجاه الحكاية المخبّأة.

 

من أعمال «أفتقدك بشدّة» لخالد حسين، 2021

 

كذلك، كان مشروع حسين محاولة لإظهار حجم المعاناة الّتي يتكبّدها ذوو الأطراف المبتورة في المجتمع ونظرته إليهم، عدا أزمة العلاج الّتي يخوضون مآسيها وحدهم.

وكان حسين حريصًا على أن ينظر إلى هذه القضيّة، من منظور فلسطينيّ، باعتبار القضيّة وجهًا من أوجه المعاناة الفلسطينيّة، وكون المسألة ترتبط جوهريًّا بالاحتلال وتبعاته، وكان ذلك الهدف الضروريّ الّذي سعى حسين إلى إبرازه. إلى جانب أن يكون المشروع، شاهدًا على قمع الاحتلال الدمويّ لمسيرات العودة السلميّة، وتذكيرًا بوحشيّة الاحتلال، وما خلّفه عنفه من المآسي الظاهرة، أو تقبع خلف ستار الواضح من الأشياء.

 

عن خالد حسين

فنّان تشكيليّ، حاصل على درجة البكالوريوس في التربية الفنّيّة، وعضو مؤسّس لمجموعة «كيان رفح»، العاملة في مجال الفنون البصريّة.

 يشير حسين (46 عامًا) خلال حديثه معنا، إلى أنّه يحاول خلال السنوات الأخيرة، تطوير أدوات معاصرة وجديدة تساعده في استخدام فنّ النحت والتركيب، بصفتها وسيطًا لإنتاج أعمال فنّيّة مبتكرة.

لحسين العديد من المشاركات في معارض وورش فنّيّة محلّيّة ودوليّة.

 


[1] رينيه ماجريت (1898 – 1967): فنّان سرياليّ بلجيكيّ، وأحد روّاد الحركة السرياليّة في القرن العشرين.  

[2] تعزو الأبحاث ظهور الفنّ المفاهيميّ إلى رائدي الحركة السرياليّة في القرن العشرين، الفرنسيّ مارسيل دوشامب والبلجيكيّ رينيه ماجريت.


 

عمر موسى

 

 

 

صحافيّ من غزّة. خرّيج قسم الإعلام في جامعة الأزهر. يكتب في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

 

التعليقات