22/11/2021 - 13:06

«ركام» ميسرة بارود... محاولة أخيرة لرفع البيوت المقصوفة

«ركام» ميسرة بارود... محاولة أخيرة لرفع البيوت المقصوفة

ميسرة بارود في معرضه، «ركام» | عمر موسى

 

يُعَرَّف الركام عادة على أنّه حالة طارئة وعاديّة في حياة المجتمعات الطبيعيّة، وربّما ليس خياليًّا القول إنّه لا يرتبط في كثير من الأوقات بخلفيّة مادّيّة أو شعوريّة تستدعي الأسف، بل على العكس، قد يكون مدعاة إلى الأمل حين يكون الركام فيها جثمانًا لنهوض آخر مُراد.  

لكن كيف يمكن تعريف الركام بوصفه دلالة سعي الاحتلال لنسف وجود الفلسطينيّ؟ وكيف يمكن اجتراح تعريف غزّاويّ للركام في ظلّ عدوان الاحتلال المستمرّ على القطاع؟ كانت هذه الأسئلة الّتي سعى الفنّان التشكيليّ ميسرة بارود إلى إثارتها واستعراضها في مشروعه الفنّيّ الّذي أنجزه مؤخّرًا بعنوان «ركام».

 

محاولة أخيرة

عام 2014، وبعد انتهاء عدوان الاحتلال الّذي استمرّ 51 يومًا، خرج الفنّان ميسرة بارود، برفقة ابنته ريتا؛ لتفقّد ملامح المدينة بعد الحرب. كانت محطّته المقصودة «حيّ الشجاعيّة»، شرق مدينة غزّة. كان بارود يتمشّى وتحاصره أسئلة ريتا ابنة الـ 12 عامًا، حول المباني المهدّمة وقصص أصحابها؛ إذ كان «حيّ الشجاعيّة»، أحد أبرز الأحياء الّتي شهدت أقسى مجازر الاحتلال خلال العدوان.

"لم أستطع استكمال الجولة، فغادرت المكان، إلى مرسمي، ووجدت شيئًا ما في نفسي يحثّني على رسم البيوت والمباني، لا أعرف ما الّذي كنت أفعله حقيقة، لكن بدا أنّه إعادة تشكيل لبيوت الحيّ المهدّمة..."

كان الدمار الّذي لحق به يفوق كلّ تخيّل. يقول بارود عن رحلته الأولى إلى الحيّ: "وأنت تتجوّل، كان من الصعب أن تتجاوز المأساة الّتي تقف خلف الركام، توقّفت الحرب، صحيح، لكنّ اشتعالًا يوازي اشتعال الحرب، شبّ داخلي بعد الجولة".

رغم هول المشاهد الّتي عايشها الغزّيّون في العدوان، يقول بارود: "لم أستطع استكمال الجولة، فغادرت المكان، إلى مرسمي، ووجدت شيئًا ما في نفسي يحثّني على رسم البيوت والمباني، لا أعرف ما الّذي كنت أفعله حقيقة، لكن بدا أنّه إعادة تشكيل لبيوت الحيّ المهدّمة، محاولة أخيرة لرفعها، قبل سقوطها النهائيّ من الذاكرة".

وجد بارود نفسه منخرطًا في مشروع لمّا يكن يعرف ملامحه بعد، وأنجز 10 لوحات، بدا أنّها مختلفة كثيرًا عن أسلوبه المعتاد، كما يقول: "كان الكثير من التفاصيل الّتي كنت أحرص عليها في مشاريعي، لكن هنا الأمور اختلفت. لا أعرف لماذا، ربّما كانت خصوصيّة معيّنة للمشروع، أو لنقل شيئًا كان يريد المكان أن يحكيه بيدي رغمًا عنّي".

 

عدوان 2021: نقر على الذاكرة

في 15 أيّار (مايو) الماضي، وفي خضمّ عدوان الاحتلال على غزّة، كان قرع الاحتلال على سطح «برج الجلاء» بصواريخ طائراته المسيّرة؛ تمهيدًا لتدميره، نقرًا على ذاكرة بارود: "10 لوحات كانت من المشروع الّذي بدأت فيه بعد عدوان 2014، إضافة إلى 40 لوحة أخرى لي، و20 لوحة لفنّانين عرب، كانت في مرسمي الخاصّ بـ ‘برج وطن‘ الملاصق لـ ‘برج الجلاء‘"؛ يقول، مستدركًا: "أوّل الأمر كان موضوع أنّ لديك شيئًا تودّ إنقاذه من الدمار، أمرًا تشترك فيه مع الكثير من الناس، في برجَي ‘الجلاء‘ و‘وطن‘؛ إذ كان الكثير من الناس يتسابقون لإجلاء أشيائهم قبل مسحها بالصواريخ".

يحكي بارود أنّه هرع دون دراية لإنقاذ لوحاته من المرسم. كانت المهلة الّتي أُعْطِيَت قبل تدمير البرج ساعة، هنا قال في نفسه إنّه سيصل إلى البرج قبل انتهاء المهلة، ثمّ في لحظة مضت الساعة كأنّها ثانية، وعدل بارود عن قراره، بعد أن استجرّت ذاكرته الحقيقة الّتي تاه عنها، وهي حقيقة "أنّنا نعيش عدوانًا همجيًّا، طال الأطفال والشيوخ وكلّ لحم حيّ، وبصراحة كنّا نقف في وضع لا تَأتمن فيه لساعة أنّك ستبقى حيًّا، وها أنا أفكّر في إنقاذ لوحة. آه! كم سخرت حين فكّرت في ذلك!"، كما يقول.

العمل الّذي يتكوّن من 25 لوحة بالمعنى العدديّ، هو لوحة واحدة متكاملة، تحاول رواية قصّة واحدة، وأنّ التفكير في عرضه بالطريقة التقليديّة، شيئًا أبعد من أن يكون بيئة مناسبة للمشروع.

بعد يوم من تدمير «برج الجلاء» زار بارود مرسمه في «برج وطن»، فتح باب المرسم، وكان المشهد "تذكيرًا آخر بانعكاس الحرب في داخلنا"، يقول، مكملًا: "ارتدادات الانفجار في كلّ مكان، الشبابيك متكسّرة، اللوحات بعضها معلّق والآخر نصف معلّق، وما تبقّى من ورق ولوحات كلّها مبعثرة على الأرض".

"ما أخذتش ولا إشي من المرسم"، يقول؛ إذ شعر بأنّ إنقاذ اللوحات شيء من الترف في ظلّ العدوان، ولا سيّما أنّ زيارته إلى المرسم كانت بعد فجر دامٍ إثر المجزرة الّتي ارتكبها الاحتلال في «شارع الوحدة»، بعد أن دمّر ثلاث بنايات على رؤوس أصحابها، وراح ضحيّتها ما يزيد على 37 شهيدًا ونحو 50 جريحًا.

يروي بارود: "ليلة المجزرة، خرجنا إلى الشوارع بعد نداءات استغاثة؛ في محاولة منّا لمساعدة طواقم الإنقاذ: كان المشهد فوق كلّ قدرة على التخيّل، جثث تحت الركام، وصراخ، وجرحى وعتمة، والآن سأحمل لوحة معي!".

بعد أن توقّف العدوان، خرج بارود مرّة أخرى برفقة ابنته، وكان الأمر كمشهد معاد من عدوانات سابقة. هنا، بدا أنّ شيئًا يلحّ عليه لإكمال مشروعه الّذي بدأه عام 2014: قال: "لم يكن مجرّد قرار، بدا أنّ الأمر كان أكثر إلحاحًا من كونه قرارًا شخصيًّا، وبعد نحو 7 أعوام من بدء المشروع، أنجزته".

 

إعادة تمثيل

قبل أن يتحوّل مشروع بارود إلى معرض، كان ثمّة نقاش يدور بينه وبين ذاته، حول آليّة العرض؛ فالعمل الّذي يتكوّن من 25 لوحة بالمعنى العدديّ، هو لوحة واحدة متكاملة، تحاول رواية قصّة واحدة، وأنّ التفكير في عرضه بالطريقة التقليديّة، شيئًا أبعد من أن يكون بيئة مناسبة للمشروع.

خلص بارود إلى أنّه لا يمكن عرض اللوحات إلّا بنفس المشهد الّذي كان أساسًا لبدء المشروع، وأن يعكس المعرض بيئته: القصف، والدمار، والقتل. لذا؛ كان لا بدّ من زيارة المعرض، الّذي أقيم في «المعهد الفرنسيّ» في غزّة، في أيلول (سبتمبر) الماضي؛ لفهم المشروع ودلالاته بشكل دقيق، هناك كان يمكن أن ترى مشهديّة معادة للقصف: جزءًا من الأعمال كان معلّقًا بشكل طبيعيّ، وجزءًا آخر من اللوحات مفكّكة أو خارجة من الإطار، وآخر ملقًى على الأرض.

كان يمكن أن ترى مشهديّة معادة للقصف: جزءًا من الأعمال كان معلّقًا بشكل طبيعيّ، وجزءًا آخر من اللوحات مفكّكة أو خارجة من الإطار، وآخر ملقًى على الأرض.

كان المعرض أقرب إلى مكان قُصِفَ للتوّ، هكذا حاول بارود إعادة تمثيل المشهد الأوّل للأماكن بعد القصف.

جزء من سعي بارود في إنجاز المشروع، كان متعلّقًا بنقد تموضع الركام في الخطاب الرسميّ. يشير الفنّان إلى أنّ "معنى الركام في خطابنا يعكس شيئًا بالغًا من القسوة بحقّ أنفسنا"؛ فالركام نتيجة نهائيّة لـ "روح أُزْهِقَتْ وجسد جُرِحَ ومتعلّقات ثمينة وعزيزة أُحْرِقَتْ أو دُمِّرَتْ، وخوف ورعب لا ينتهي".

كلّ ذلك، يجب أن يرافقنا في حديثنا عن الركام، لا أن نختصر معنى الركام على أنّه نتيجة بسيطة، يقول بارود: "إنّ الحجارة والبقايا المفتّتة، جزء من مشهد العذاب والسلب المستمرّ إثر الاحتلال. لذا؛ كان لا بدّ من نقد هذا التجاوز، الّذي نمارسه بحقّ أنفسنا؛ فمعنى الركام أوسع كثيرًا من مجرّد حجارة مكوّمة".

 

عن بارود

وُلِدَ الفنّان التشكيليّ ميسرة بارود في غزّة عام 1976، وهو محاضر جامعيّ في «الكلّيّة الجامعيّة للعلوم والتكنولوجيا»، و«كلّيّة الفنون» في «جامعة الأقصى»، حاصل على درجة البكالوريوس في «الفنون الجميلة» من «جامعة النجاح الوطنيّة»، والماجستير من «كلّيّة الفنون» في الزمالك.

لبارود خمسة معارض شخصيّة، هي: «ريتا والبندقيّة»، الّذي أقيم في غزّة عام 2004، ومعرض «فسفور أبيض في ميلاد إيلياء»، الّذي أقيم في القاهرة والجزائر وغزّة عام 2009، ومعرض «وميض» الّذي أقيم في الجزائر عام 2009، ومعرض «قوارب الملح» في بيت لحم عام 2019، ومعرض «وجود» الّذي أقيم عبر موقع «أرت سكوب – أونلاين» عام 2021.

 ثنائيّة الأسود والأبيض، تستحوذ على أفكاره وأعماله، وأنّه يحاول عبر هذه الثنائيّة، صياغة المعاناة الإنسانيّة...

شارك بارود أيضًا في أكثر من 40 معرضًا جماعيًّا، محلّيًّا ودوليًّا. يشير بارود خلال حديثه إلى فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، إلى أنّ ثنائيّة الأسود والأبيض، تستحوذ على أفكاره وأعماله، وأنّه يحاول عبر هذه الثنائيّة، صياغة المعاناة الإنسانيّة بِبُعْدٍ فنّيّ مختلف.

يهتمّ بارود بمعالجة القضايا الإنسانيّة العالميّة بشكل عامّ، والفلسطينيّة بشكل خاصّ.

 


 

عمر موسى

 

 

 

صحافيّ من غزّة. خرّيج قسم الإعلام في جامعة الأزهر. يكتب في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

 

التعليقات