01/03/2022 - 13:49

بيكاسو – رودان: فنّانان في معرض، ومعرض في متحفَين

بيكاسو – رودان: فنّانان في معرض، ومعرض في متحفَين

من معرض «بيكاسو - رودان»

 

إضاءة لعالَم الآخر

معرض «بيكاسو... رودان» الّذي يشترك في تنظيمه لأوّل مرّة «متحف رودان» و«متحف بيكاسو» في باريس، هو حوار متشابك وثريّ ومباشر بين أعمال الفنّان الفرنسيّ أوغست رودان (1840-1917) وأساليبه وعوالمه، والفنّان الإسبانيّ بابلو بيكاسو (1881-1973) الّذي عاش قسمًا كبيرًا من حياته في فرنسا. يقدّم المعرض الضخم والشيّق نظرة جديدة لفنّانَين عبقريَّين، مهّدا وفتحا الطريق إلى الحداثة في الفنّ، تُعْرَض أعمالهما بالتجاور والتقابل في المعرض؛ من أجل إفساح المجال لمقارنة مباشرة ومقاربة عينيّة من قِبَل الزوّار الّذين يتوافدون بالآلاف من سيّاح وفرنسيّين.

وُزِّعَ المعرض إلى ثيمات فنّيّة مختلفة؛ ففي «متحف بيكاسو» نجد الأعمال موزّعة في صالات عدّة، كلّ صالة تُعالِج وتقارب ثيمة معيّنة من أعمال الفنّانَين. إحدى الصالات، على سبيل المثال، مخصّصة لأعمال الكولاج لدى كلٍّ منهما، بينما نجد صالة أخرى مخصّصة لأعمال النحت، رغم أنّ رودان نحّات عظيم ولديه الكثير من المنحوتات الّتي أصبحت أعمالًا فنّيّة خالدة، بينما بيكاسو شكّلت أعماله الفنّيّة من المنحوتات قسمًا قليلًا. ويستمرّ المعرض هكذا دواليك إلى أن يصل الزائر إلى الصالة الثالثة عشرة. نجد في مقدّمة كلّ صالة نصًّا توضيحيًّا يشرح طبيعة الأعمال المعروضة فيها، والثيمة الّتي تدور حولها المقارنة الفنّيّة.

فكرة المعرض مثيرة، وشديدة الجاذبيّة، قادرة على تحريك جمهور عريض؛ لأنّها تعتمد في الأساس على اسمين كبيرين شكّلا قامات عالية في الفنّ العالميّ. وبالتأكيد، ثمّة بعض التقاربات والتشابهات في أعمالهما، وبعض التأثيرات.

أمّا الأعمال المعروضة في «متحف رودان» للفنّانَين، فهي تتعلّق بأزمة التمثيل، وعرض أعمال بيكاسو ’الرودينيّة‘ الّتي أنجزها بداية القرن، الّتي تعبّر عن الشعور بالوحدة، والكآبة، واليأس، وهي تعكس تأثّره برودان و"صدى مباشر لمعالجته التعبيريّة"، كما يؤكّد أحد قيّمي المعرض.

فكرة المعرض مثيرة، وشديدة الجاذبيّة، قادرة على تحريك جمهور عريض؛ لأنّها تعتمد في الأساس على اسمين كبيرين شكّلا قامات عالية في الفنّ العالميّ. وبالتأكيد، ثمّة بعض التقاربات والتشابهات في أعمالهما، وبعض التأثيرات. لكن إن كان هدف المعرض الرئيسيّ إقناع الزائر، من خلال المعاينة المباشرة وتجاور الأعمال الفنّيّة، بأنّ هناك تقاربات خاصّة بين الفنّانَين، فالزائر يستطيع أن يلمس أيضًا بعض الاختلافات، من خلال مشاهدته للأعمال وتوفّر الفرصة لمقارنتهما المباشرة؛ فالشيّق والمثير في هذا المعرض أنّه يمنح المشاهد رؤية جديدة، بشكل ممتع، لاستكشاف أعمال هذين الفنّانَين، عبر إضاءة كلٍّ منهما لعالم الآخر. ولا بدّ في الحقيقة من أنّ هذا المعرض احتاج إلى جهد كبير، وإلى خبراء ومختصّين بأعمال الفنّانَين العظيمين، فالاختيار لا يخلو من الدقّة والبحث المتأنّي لطبيعة الأعمال الفنّيّة المعروضة وأشكالها.

توضّح فيرونيك ماتيوسي، واحدة من منظّمي المعرض، أنّ الفكرة تتمثّل في "الجمع بين فنّانَين استثنائيَّين غيّرا قواعد التمثيل السائد في عصرهما، وابتكرا أسلوبًا جديدًا؛ فهما يتشاركان في الكثير من الأشياء؛ الإدمان على العمل، وغزارة الإنتاج، والقدرة على تجديد نفسيهما، وتجديد تاريخ الفنّ في عصرهما، خلال فترتين مختلفتين عاشا فيها أوقاتًا عصيبة؛ فعاش رودان مرحلة التصنيع وعالمًا يتسارع في جميع المجالات، بينما عاش بيكاسو خلال الحربين العالميّتين. وفي مواجهة هذه الاضطرابات "تبنّى كلٌّ منهما سلوكًا مشتركًا: ابتكار طرق جديدة للنظر إلى الواقع وزعزعة التقاليد". ولهما نفس العلاقة بعمليّة الخلق الفنّيّ، فكانت مشاغلهما مختبرات للتجريب الفنّيّ، بحيث طوّرا طرق التشكيل الفنّيّ، عن طريق الكولاج Assemblage، وعمل سلسلة أعمال فنّيّة Séries ، واستخدام الموادّ المهملة Récuperage.

 

التجميع لا شبع

ولدى الفنّانَين رغبة حاسمة في عدم التخلّي عن التشكيل، ورفض إعادة إنتاج حقيقيّ للواقع. رودان مثلًا يحرّر نفسه من "أشكال التمثيل الطبيعيّ لعصره؛ من خلال ابتكار طريقة جديدة تتضمّن معالجة المادّة والأسطح لترجمة التعبير والعاطفة"، فما يهمّه هو سيكولوجيّة الإنسان، الّتي يعبّر عنها "من خلال معالجة شديدة التعبيريّة للمادّة".

يجمع الفنّانان أشياء من الطبيعة والفروع والحجارة والأصداف، وكلاهما صنع تشكيلات فنّيّة من أوراق الشجر، يدمجان أحيانًا هذه العناصر في إبداعاتهما، فمثلًا "يجمع رودان فرعًا من شجرة الهولي أو البلّوط وشخصيّة أنثويّة، بينما يجمع بيكاسو في تركيبة فنّيّة صغيرة جدًّا فروعًا من شجرة مع ورقة وفراشة". كلاهما جامع لا يشبع، لديهما قطع من الفنّ البدائيّ، بعضها من الفنّ اليونانيّ- الرومانيّ، الأصنام السيكلاديّة، والفنّ الأتروسكيّ كما نجد لدى رودان، والفنّ الأفريقيّ والإيبيريّ عند بيكاسو. هذا الذوق للفنّ البدائيّ يتوافق لدى كليهما "مع الذوق الواضح بشكل متزايد لتبسيط الأشكال ونقاء الخطوط"، كما ترى فيرونيك ماتيوسي.

 

 

تجميع الأشياء والعناصر المنحوتة مع الرسومات، يُعَدّ إحدى ممارسات الفنّانَين، وهو نهج فنّيّ مقصود. وبالنسبة إلى كليهما "لا يكون الانتهاء من العمل أبدًا غاية في حدّ ذاته، لكنّه شكل من التوقّف المؤقّت خلال عمليّة ذات صيرورة دائمة"، حسب شرح كتالوج المعرض. كلاهما يتّخذ السلسلة شكلًا فنّيًّا لبعض الأعمال. يقول بيكاسو، نقلًا عن الفنّان الفرنسيّ براساو عام 1964: "يمكنك فقط متابعة العمل الإبداعيّ حقًّا من خلال سلسلة فيها كلّ التنوّعات".

وممّا يختلف فيه الفنّانان، كما يرى القيّم على المعرض، هو أنّه لدى رودان "نوع من مديح الرغبة، والتعبير عن الابتهاج"، بينما لدى بيكاسو "حركة غاضبة بشكل متزايد، وتفسير متفاقم جدًّا للجنس"، ولديه أيضًا "الحبّ يتحوّل إلى صدام أو مواجهة"، في حين أنّ المواجهة لدى رودان "أكثر استثنائيّة ودائمًا ما تكون شاعريّة للغاية". ولدى رودان "تظلّ الشخصيّات أسرى دراما واحدة، وهي نفس الدراما، فهناك نوع من الاتّحاد في المحنة".

 

مقارنات متعسّفة

تشير المراجعات الفرنسيّة، الّتي تناولت هذا المعرض، إلى أنّ بعض الزائرين قد يشعرون بالضياع أمام المقارنات الشكليّة المربكة في بعض الأحيان، "لكنّنا ندرك أنّنا هنا في مختبر للأشكال، وفي مكان حيث يتدفّق الخلق، مليء بالشظايا المُعاد تكوينها باستمرار، ممّا ينتج أعمالًا غير مكتملة، ورسومات توضيحيّة لدفقات الإبداع. فإذا كانت الروابط بين الأعمال تفتقر أحيانًا إلى الأدلّة المرئيّة، فذلك لأنّنا يجب أن ننظر إلى الإيماءة أو الحركة الفنّيّة في بُعْدِها الحيويّ، وحتّى الغريزيّ"، ثمّ إنّ المعرض فضلًا على إثارته وقدرته على جذب الزائرين "يهدف إلى أن يكون شاعريًّا، ويكشف عن أوجه شبه غير متوقّعة لمَنْ يستطيع فكّ رموزها، قد يمتعض البعض من منهج المقارنة الّذي يبدو تعسّفيًّا قليلًا، لكنّه يسعد الراغبين في إعادة قراءة عمل هذين العبقريَّين بشكل غير مسبوق".

بينما تقول الناقدة الفنّيّة سارة أهلر ماير "إنّه معرض رائع، مع بعض الأقسام الرائعة والمرحة، ومع ذلك فإنّ المشروع يجيب عن القليل ممّا هو مرغوب فيه؛ فبعض المقارنات بعيدة المنال، خاصّة أنّها تنحصر دائمًا في الملاحظة البسيطة. صحيح أنّ الأسلوب الفنّيّ والأعمال الفنّيّة لدى بيكاسو ورودان متشابهة أو متقاطعة في بعض الأحيان، لكن العوامل والعلاجات متباعدة لدرجة أنّ المقارنات تبدو سطحيّة أحيانًا ومتعسّفة".

 

شروحات فنّيّة موجّهة إلى الأطفال

وممّا يميّز المعرض أنّنا نجد توضيحات وشروحات فنّيّة مكتوبة بلغة مبسّطة للأطفال، كما نرى في هذه المقارنة بين عمل نحتيّ لرودان وعمل من البرونز لبيكاسو: "على يمينك قارن بين العمل الفنّيّ ’رأس بيكادور‘ ذي الأنف المكسور لبيكاسو، وبين العمل الفنّيّ ’رأس الشاعر بودلير‘ المنحوت من قِبَل أوغست رودان، ماذا تلاحظ؟ ستجد أنّ سطح كلٍّ منهما ليس ملسًا، هناك فجوات ونتوءات؛ فملامح بيكاردو حزينة، مثل بودلير، عيناه مجوّفتان وشفتاه مجعّدتان؛ فقد كان بيكاسو، من خلال منحوتاته الأولى، يتمعّن كثيرًا في أعمال رودان، وكان مثله لا يحاول تمثيل الشكل الحقيقيّ بشكل مطابق، لكن يسعى من خلاله للتعبير عن شعور أو صفة".

تقول الناقدة الفنّيّة سارة أهلر ماير "إنّه معرض رائع، مع بعض الأقسام الرائعة والمرحة، ومع ذلك فإنّ المشروع يجيب عن القليل ممّا هو مرغوب فيه؛ فبعض المقارنات بعيدة المنال...".

ولرفع التكلفة والتخفيف من اللغة الرسميّة لأنّها نصوص موجّهة للأطفال؛ توظّف التوضيحات هنا ضمير المخاطَب ‘tu‘ أي ’أنت‘، بينما تستخدم الفرنسيّة عادةً حين يكون الكلام موجّهًا إلى أشخاص لا نعرفهم ’vous‘، وهي ضمير المخاطب بصيغة الجماعة يقابله بالعربيّة ’أنتم‘. ونجد في كلّ صالة توضيحًا مبسّطًا من خلال توصيفات بسيطة، تستطيع أن تتلمّسها عين الطفل، بحيث يستطيع رؤية الفروقات، وفهم أساليب التحليل الفنّيّ، حتّى وإن كانت في أبسط أشكالها.

 

فرصة للّقاء

الطريف أنّ رودان كان معروفًا في فرنسا حين وصل إليها بيكاسو شابًّا، ففي عام 1900 نظّم رودان معرضًا فنّيًّا شخصيًّا في باريس، وكان معرضه الاستعاديّ الأوّل الّذي تضمّن لوحات وصورًا ومنحوتات، وقد زاره بيكاسو؛ ففي بداية القرن العشرين كان تأثير رودان كبيرًا في جيل الفنّانين آنذاك، حتّى أنّه ظهرت بعض التأثيرات في أعمال بيكاسو في تلك السنوات الأولى من وصوله إلى باريس، لكن ليس من المؤكّد أنّهما تلاقيا، وهذا المعرض الثنائيّ المعروض في متحفيهما فرصة للّقاء والحوار المباشر، بحيث يخرج كلّ زائر بانطباع خاصّ، من خلال مقارنات شخصيّة ممتعة، لفنّانَين مذهلَين في معرض واحد، ومعرض واحد في متحفَين.

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

التعليقات