22/11/2022 - 13:29

سلمان نوّاتي... الألم والأمل في «الصراع»

سلمان نوّاتي... الألم والأمل في «الصراع»

لوحة للفنّان سلمان نوّاتي من معرض «الصراع»

 

وُجِدَ الفنّ للتعبير عن وعينا، وذواتنا، ومشاعرنا، وخواطرنا، وتخيّلاتنا؛ فنحن في حاجة إليه لينوب عن صرختنا، وآهاتنا، وفرحنا، وسعادتنا، وليكون المكوّن الفعليّ لوجودنا، ويمثّل ’هويّتنا‘، وعالمنا، وهذا ما حاول الفنّان الفلسطينيّ سلمان نوّاتي أن ’يصوّره‘ للناظرين، ساعيًا إلى ’تمثيل‘ واقعنا، بأدوات تأسيسيّة لمفهوم ’الصراع‘؛ إذ نجح في تشكيل معالمه، وجذب متلقّيه من خلال تلك الأدوات الملوّنة، والمؤطّرة بعناصر جماليّة تثريها، وتجعلها ’علامة مرئيّة‘ يتذوّقها المشاهد.

 

’رقعة الشطرنج‘ بوصفها إمكان صراع

 تتمثّل تلك الأدوات بـ ’رقعة الشطرنج‘ الّتي تُعْتَبَر العامل القبليّ لافتعال الصراع؛ ففعل الجلوس، وتحريك قطعها، برسم ابتسامة مضمّنة للشرّ، عبارة عن فعل تحذيريّ لصراع ما. لذلك، ورد في مقال نُشِرَ باللغة الإسبانيّة نقش فنّيّ يجمع لينين وهتلر، وهما يلعبان الشطرنج، وبغضّ النظر عن حقيقة التكوّن التخيّليّ للنقش، أكان تصويرًا لواقع حدث فعلًا أم لا، فإنّ فكرة جمع شخصيّتين، مفتعلتين للشرّ، للقيام بهذه اللعبة، ’توثيق‘ فعليّ للعلاقة الثنائيّة بين اللعبة والصراع. وعليه، فإنّ وجود رقعة الشطرنج، بأشكالها المختلفة في لوحات نوّاتي، تعبير استعاريّ مباشر لفكرة ’الصراع‘ الّتي تقوم عليها لوحاته كلّها، المعروضة في المعرض الرقميّ «صراع» الّذي نشرته مجلّة فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، في شهر أبريل (نيسان) من هذا العام. 

اللافت أنّ رقع الشطرنج المختلفة، الّتي اسْتُحضِرَت في لوحات المعرض، تخلو من قطعها المعروفة، في إشارة من الفنّان إلى أنّ عامل الصراع موجود، لكنّ فاعليّته لم تتحقّق فعليًّا، أو تحقّقت وانتهت؛ فبما أنّ ساحة القتال فارغة من المقاتلين، يسهل تحويلها إلى ساحة نعبّر فيها عن سعادتنا، والتقاء أرواحنا، والمضيّ قدمًا نحو الحياة. لذلك، كسر سلمان نوّاتي فاعليّة ذلك الصراع بتصوير الآلات الموسيقيّة المختلفة، وأشهرها: البيانو والعود، لتحقيق ما أطلق عليه آدورنو ’الأسلوب المتأخّر‘، الّذي "يحدث في الوقت الّذي يتنازل فيه الفنّ عن حقوقه لصالح الواقع"، وهو التنازل الظاهر في القوى الذاتيّة للموسيقيّين، الّذين سخّروا مواهبهم لمواجهة ذلك الصراع.

 

الفيل ضدّ الموسيقيّ

تفسّر محاولات نوّاتي التعبيريّة ’الهويّات الشخصيّة‘ لأبطال لوحاته، وذلك في حركاتها الانفعاليّة، وإظهار كيفيّة مقابلتها لمكوّنات الصراع؛ ففي اللوحة الأولى، يصوّر الفنّان الفلسطينيّ فعل المواجهة بين الفيل الهائج والموسيقيّ، وهو تصوير مبنيّ، في الأساس، على رمز تركيبيّ، يجمع بين الواقع والمتخيّل؛ الواقع المتمثّل في مضمار الفيل نفسه، الّذي يعكس الحقبة الترامبيّة (فترة تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة)، على اعتبار أنّ الفيل شعار الحزب الجمهوريّ الّذي كان حاكمًا في ذلك الزمن، أي زمن فعل الرسم نفسه، ويظهر الفيل الواقف على رقعة شطرنج كبيرة متّصلة بالبيانو هائجًا، ومحاولًا صرع الموسيقيّ، بعد فظائعه في قتل الآخرين وإذلالهم.

 

لوحة الفنّان سلمان نوّاتي

 

 تجلّى ذلك من خلال الشخصيّات ’المظلّلة‘ المتطايرة، والشخصيّات الواقفة أسفل الرقعة، الّتي تظهر عليها ملامح الخنوع، والعذاب، والألم، بالإضافة إلى وجود أموات، وشبه أموات، باستثناء الموسيقيّ ’المستهدَف‘، الّذي يجلس على إحدى قطع الشطرنج، يواصل عزف ألحانه بثقة وعزيمة واضحتين على وجهه، وحركة رأسه، وطريقة جلوسه.

تمثّل هذه اللوحة المركزيّة الفعليّة للصراع، ليس بتمثيل ’الحركات الفاعليّة‘ الّتي يؤدّيها الفيل فحسب، وإنّما في نتائج تلك الحركات وآثارها المتجلّية حتّى في الألوان القاتمة الّتي وظّفها الفنّان، بالإضافة إلى استحضار ’الشخصيّات‘ المظلّلة، الّتي يمثّل وجودها داخل هذا الإطار رمزًا مباشرًا إلى الألم، والعذاب، والرحيل، كما يقول فكتور ستوييكتا في كتابه «موجز تاريخ الظلّ». ووجود الفيل على رقعة الشطرنج تعبير تصويريّ مباشر للهيمنة، وانفراديّة الصراع، وما ’هيئة‘ الموسيقيّ إلّا إصرار على مواجهة ذلك الصراع بالعزف، والتشبّث بما تبقّى من مقوّمات الحياة. وربّما تأثّر سلمان نوّاتي بهذا المعنى برسومات الفنّان الفلسطينيّ صالح المالحي، الّذي جمع في عدد من لوحاته ثنائيّات الألم والفرح، ومنها، على سبيل المثال، تمثيل موسيقيّ يضرب على أوتار العود، وهو يبتسم، وبجانبه جثث، وأشباه موتى. وتعكس هذه الأضداد الفنّيّة الواقع، وتصوّر تكامليّة الحياة، وتحمُّل مصاعبها، والعيش، رغم الحزن، على أمل تحرّر الذات المقهورة.

 

الموسيقيّ والقناع

أمّا في اللوحة الثانية، فيواصل سلمان نوّاتي تصوير ’الإنسان الموسيقيّ‘، الّذي يعزف على أوتار العود، وتتّسم هذه اللوحة بالرمزيّة الكلّيّة، المتجسّدة في كلّ مكوّن فنّيّ فيها؛ فهي لوحة متناقضة في تعابيرها الخارجيّة؛ إذ تجد فيها مشاهد انعكاسيّة لحالة الحرب، وذلك في القناع الّذي يرتديه الموسيقيّ، ومشاهد الفرح الظاهرة على وجوه الأطفال الّذين يلعبون، والسعادة على محيّاهم، ولحظات التأمّل المتجلّية في مشهد المرأة الّتي ترسم مشاهد غامضة، لم تتّضح معالمها الجماليّة، وقطّة بيضاء اللون، يشير وجودها إلى الطمأنينة.

 

لوحة الفنّان سلمان نوّاتي

 

إنّ عناصر هذه اللوحة تقابليّة، تعكس ’حالة الفنّان الداخليّة‘، وتتيح ’فضاء‘ للاطّلاع على المعاني الخفيّة الّتي تستوطن ذاته، المعاني المتجسّدة في ’الأمل‘، و’السعي‘ الدائم نحو المطلق.

تكمن المركزيّة الجماليّة لهذه اللوحة في ’تداخل‘ عناصرها ومكوّناتها التعبيريّة، وتجلّى ذلك في فكرة ’ملازمة‘ الأطفال للقناع وآلة العود، وهما المكوّنان المتضادّان اللذان يشيران إلى ’القصديّة الدلاليّة المباشرة‘ للعمل الفنّيّ؛ فالطفولة الحاليّة تعيش المكوّنين معًا: مكوّن السلم، أي الموسيقى، ومكوّن الصراع/ الحرب، أي القناع، أطفال يعيشون على أصوات ترنيمات العود، وآخرون يعيشون على أصوات القنابل، وصراخ المكلومين.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.

 

 

التعليقات