08/06/2023 - 14:41

فنّ جهينة قندلفت... موروث وحداثة

فنّ جهينة قندلفت... موروث وحداثة

للفنّانة الفلسطينيّة جهينة قندلفت

 

تعبّر جهينة قندلفت في لوحاتها عن موضوعات عدّة تتعلّق بالإنسان وحياته، وتركّز على تصوير الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة الفلسطينيّة بكثير من الحميميّة اللونيّة والبصريّة. من هذه الموضوعات: الهويّة الفلسطينيّة، والتعايش الدينيّ، وظاهرة القتل في المجتمع، والممارسات الاستعماريّة الصهيونيّة، والسلم والسلام المجتمعيّان، والمرأة الفلسطينيّة العاملة والفاعلة، والماضي والمستقبل، والتراث والحداثة، والمعاناة والحزن في مقابل المقاومة والأمل، والموت والولادة.

 

المدينة المفقودة

تبرز اللوحة رقم (1) عراقة المدينة الفلسطينيّة وقِدمها وأثرها في التشكيل النفسيّ للإنسان الفلسطينيّ وحياته، كما تجمع رموز الحياة الفلسطينيّة؛ حيث ترسم جهينة القدس القديمة بكنيستها وجامعها؛ في رمزيّة للتعايش بين الأديان. كما استخدمت الألوان الأزرق والأحمر والبنّيّ والرماديّ دلالة على التنوّع، ليس فقط التنوّع اللونيّ بل التنوّع الاجتماعيّ أيضًا؛ إذ يشكّل المجتمع الفلسطينيّ مجتمع التجاور والالتقاء الاجتماعيّ، الّذي يتعايش فيه المسيحيّ إلى جوار المسلم بهويّة واحدة، هي الهويّة الفلسطينيّة، وبهذا تكون قد أبرزت إحدى أهمّ خصائص الحياة الاجتماعيّة الفلسطينيّة. كما يظهر الأفراد - في هذه اللوحة - على شبابيك بيوتهم وكأنّهم ينتظرون مصيرًا ما.

 

للفنّانة الفلسطينيّة جهينة قندلفت، لوحة رقم (1)

 

تُلاحَظ في لوحات قندلفت الحياة السلميّة الفلسطينيّة، الحياة الّتي فقدها الفلسطينيّون بعد الاستعمار الّذي يحاول أن يدمّر ملامح الحياة الاجتماعيّة، كما نلاحظ في اللوحة رقم (2).  

يظهر الخراب والتدمير في الخلفيّة، ويظهر الطفل الّذي يشير بيده إلى ضرورة إنقاذ الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة من ممارسات القتل المتفشّية، ومن ممارسات الاستعمار على السواء. كما يظهر في اللوحة أيضًا ثلاث حمامات بيضاء، ترمز إلى مفهوم السلام الّذي تحتاج إليه الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة.

 

جهينة قندلفت، اللوحة رقم (2)

 

ما تجدر الإشارة إليه أنّ جهينة استطاعت أن تصوّر المعاناة الّتي تطول حياة الفلسطينيّين، وليس وجود الطفل في هذه اللوحة إلّا تعبيرًا عن هذه المعاناة. كما استطاعت أن تصوّر البراءة من خلال ملامح الطفل، وأن تصوّر الحزن الّذي يسيطر على طابع اللوحة من خلال الحمامات البيضاء؛ إذ نجد أنّ كلّ حمامة من هذه الحمامات تعبّر عن حزن ما، ثمّ يأتي اللون الأزرق البعيد الموجود في خلفيّة اللوحة، الّذي يتموضع بشكل فوضويّ، ليعلن انسداد الأفق بسبب الدمار الّذي لحق بالحياة الاجتماعيّة والسياسيّة الفلسطينيّة، هذا من جهة. من جهة أخرى، قد يعبّر الطفل عن ولادة جديدة محاطة بالسلام، وهو ما ترمز إليه الحمامات الموجودة، لا سيّما الحمامة الّتي على يسار الطفل، والّتي تتلطّخ بالأزرق، الّذي يعني انتقال ما تبقّى من هذا اللون الموجود في خلفيّة اللوحة إلى مقدّمتها، بحيث تُظْهِر الفنّانة هنا رغبتها في ضرورة تأمّل ولادة الحياة من جديد، وعودة السلم والأمان للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة الفلسطينيّة.

 

الدور الاجتماعيّ والفولكلور

تركّز قندلفت أيضًا على تصوير التقاليد الاجتماعيّة الفلسطينيّة؛ حيث تصوّر المرأة الفلسطينيّة في لباسها الفلكلوريّ الّذي يرمز إلى خصوصيّة الأزياء الفلسطينيّة، ودورها الجندريّ المنوط بها في عكس طابع الحياة الاجتماعيّة، إضافة إلى رسمها للمرأة العاملة كما تظهر في اللوحة رقم (3).

وجود جرّة الماء على رأس المرأة دليل على فعاليّتها وموقعها في الحياة الاجتماعيّة الفلسطينيّة. تمتلئ اللوحة باللون الأزرق الّذي يمثّل دلالات متعدّدة ومختلفة، هذا اللون هو الفاعل الأساس في إظهار الطبيعة الاجتماعيّة الوادعة في الحياة الفلسطينيّة، قبل أن يدمّرها الاستعمار.

 

جهينة قندلفت، اللوحة رقم (3) 

 

نلاحظ أيضًا مجموعة من الرموز الخاصّة بالحياة الفلسطينيّة، حيث تظهر الأحجار الّتي بُنِيت منها البيوت، وكذلك رُصِفت منها الطرقات، والّتي تعطيها الفنّانة لونًا أزرق يمثّل دلالات متعدّدة عن الفلكلور. كما تقدّم لمحة، ولو معتادة، عن طبيعة الحياة الاجتماعيّة والتقاليد والأدوار الّتي استخدمها الإنسان الفلسطينيّ في حياته الاجتماعيّة قديمًا، والّتي ما زالت حتّى اليوم حاضرة في المدن الفلسطينيّة، وذلك بوضعها إرثًا اجتماعيًّا وأنثروبولوجيًّا يمكن أن يساعدنا في فهم طبيعة الحياة الاجتماعيّة مثلما تفعل في اللوحة رقم (3).

 

جهينة قندلفت، اللوحة رقم (4) 

 

في اللوحة رقم (4) نجد ثلاث نساء؛ كلّ واحدة منهنّ تحمل طفلًا، وإذا أخذنا بالاعتبار المشاركات اللونيّة في هذه اللوحة استطعنا أن نضع يدنا على ملامح الحياة الاجتماعيّة؛ تبدو النساء حزينات إلى درجة اختفاء ملامح إحداهنّ (على يسار اللوحة)، حيث تظهر عيناها وأنفها، ويختفي فمها بمسحة لونيّة بيضاء. في حين أنّ الأخريات واضحات المعالم - من ناحية البورتريه/ ملامح الوجه – إلى درجة ضياع معالم الجسد في اللوحة، حيث لم يبقَ منها سوى الألوان.

تركّز الفنّانة على اللون الأزرق الّذي ترتديه المرأة الّتي تظهر على يسار اللوحة، تلك الّتي تظهر عذاباتها وأوجاعها نتيجة المعاناة الّتي طالت حياة المرأة بعامّة، ووجودها الاجتماعيّ بخاصّة؛ لنجد أنّ المرأتين على يمين اللوحة ووسطها قد اتّشحتا بثياب يخلو منها اللون الأزرق؛ لتظهر ألوان أخرى وكأنّ هناك انفصالًا تامًّا في تاريخ معاناة المرأة الفلسطينيّة. لهذا الانقطاع دلالة سيميائيّة لا واقعيّة، حيث لا يوجد انقطاع بين الماضي والمستقبل في حياة هذه المرأة، وفي معاناتها المستمرّة.

وإذا أضفنا تموضع الأطفال في اللوحة، استطعنا أن نعرف كيف تعبّر الفنّانة عن المعاناة اليوميّة للمرأة في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة؛ إذ تريد المرأة أن تحافظ على حياة أبنائها من ممارسات الاستعمار الإسرائيليّ، لكنّها لا تستطيع أن تفعل ذلك، فلا يبقى لديها سوى تقديم الأمومة، لكنّ ظهور الأطفال بملامح بسيطة، وضياع الملامح الأخرى، يهدّد إمكانيّة تحقيق الأمومة في واقع اجتماعيّ يتفشّى فيه قتل المرأة. كما لا يمكن للمتلقّي أن يفهم فقدان حرارة الألوان، وظهور الألوان الباردة والباهتة، إلّا بوصفها تعبيرًا عن الحزن الّذي يملأ حياة المرأة الفلسطينيّة، ليس فقط على مستقبلها، بل أيضًا على مستقبل أولادها ومجتمعها ووطنها.

 

التشكيل الحديث 

تركّز الفنّانة جهينة على المرأة الفلسطينيّة في أعمالها التشكيليّة أيضًا من خلال العودة إلى الزيّ الفلكلوريّ، لكن إذا تمعّنّا أيضًا في اللوحة رقم (5)، نجدها تقوم على الخلط بين ما هو فلكلوريّ، وما هو اجتماعيّ، وما هو حداثويّ. تظهر المرأة في اللوحة من دون غطاء الرأس، واستخدمت الفنّانة اللون الأخضر الفاتح المشوب بالأبيض كي تكوّن شَعْرَها، في ما تنظر المرأة إلى الحمامة بابتسامة وشعور بالألفة بينهما والألوان أيضًا؛ إذ تكون الحمامة جزءًا من التفاعل اللونيّ الّذي تقيمه الفنّانة في درجات اللون الأخضر، الّتي تتراوح بين الأخضر الغامق والأخضر الفاتح. تظهر تلك الألوان طبيعة للمرأة الفلسطينيّة تميل إلى المقاومة والأمل بحياة تفتقدها، وتفصح عن وجود علاقة بين رمزيّة المرأة الأموميّ وبين رمزيّة الحمام السلميّ.

 

جهينة قندلفت، اللوحة رقم (5)

 

إضافة إلى أنّ الفنّانة تُدخل في اللوحة عناصر التشكيل الحديث، عندما تضيف أشكالًا هندسيّة قد تعبّر عن رغبة في انتظام الحياة الاجتماعيّة، وجعلها حياة تليق بالإنسان الفلسطينيّ عمومًا، وبالمرأة الفلسطينيّة على وجه الخصوص.

تظهر الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في بُعْدِها اللونيّ والفنّيّ عند جيهنة قندلفت بوصفها موضوعًا قابلًا للمعالجة من حيث الطرح التشكيليّ، وقد أبرزت الفنّانة في أعمالها هذا البُعْد من خلال عودتها إلى الفلكلور الفلسطينيّ والرموز الفلسطينيّة، خاصّة ما تشير إليه المرأة في حضورها اللونيّ والتشكيليّ، الّذي يُفْصِح عن رغبة عميقة في تغيير الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ، سواء بالعودة إلى الماضي من خلال استحضار أشكال الحياة الاجتماعيّة الفلسطينيّة القديمة، أو من خلال تقديم المرأة تعبيرًا عن الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة المستقبليّة، وعن رؤية تنمّ عن رغبة فنّيّة في تصوير واقع هذه الحياة.

 


 

لبابة صبري

 

 

 

محاضرة في «جامعة بيت لحم»، وباحثة متخصّصة في سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الفنّ والأدب والمسرح، تعدّ رسالة الدكتوراه حول أنثروبولوجيا ممثّلي «مسرح الحكواتيّ» في القدس.

 

 

التعليقات