02/02/2021 - 13:03

«إيتوس»... لكلّ منّا حجابه

«إيتوس»... لكلّ منّا حجابه

من مسلسل «روح» (إيتوس)

 

لربّما من فوائد جائحة كورونا (Covid-19) والحجر المنزليّ، أنّها سنحت لنا أن نشاهد المسلسلات؛ فالمسلسلات تتطلّب وقتًا، أحيانًا أسابيع طوالًا لكي نتابع جميع حلقاتها، بينما الفيلم فترته الزمنيّة محدودة.

كنت من بين المحظوظين، ونتيجة توصيات عديدة من أصدقاء أثق بذوقهم وأذهانهم المتّقدة، شاهدت مسلسل «روح» (إيتوس) على «شبكة نتفليكس».

يطرح المسلسل العديد من إشكاليّات البشر، وتناقضاتهم النفسيّة والفكريّة: المتديّن والعلمانيّ، القرويّ والمدنيّ، المتعلّم وغير المتعلّم، الغنيّ والفقير، المرأة والرجل، العصريّ والمحافظ، النساء والرجال، الخارج والداخل.

المسلسل في 8 حلقات، يمكن تصنيفه دراما اجتماعيّة ونفسيّة. صدقًا، وبلا مبالغة، عندما بدأت بمشاهدة الحلقة الأولى لم أستطع التوقّف لمدّة 8 ساعات متتالية، حتّى أنهيت جميع حلقاته، واستُنْزِفْت من شدّة الألم والدهشة.

يطرح المسلسل العديد من إشكاليّات البشر، وتناقضاتهم النفسيّة والفكريّة: المتديّن والعلمانيّ، القرويّ والمدنيّ، المتعلّم وغير المتعلّم، الغنيّ والفقير، المرأة والرجل، العصريّ والمحافظ، النساء والرجال، الخارج والداخل.

جميع شخصيّات المسلسل والتناقضات تقاطعت، تباينت وتنافرت، لتنسج معًا لوحة فنّيّة متقنة ورائعة الجمال.

 

مَرْيَم

يسرد المسلسل حكاية مريم، فتاة ريفيّة الأصل، ترتدي الحجاب، انتقلت للعيش على أطراف المدينة، مع أخيها وزوجته المصابة بحالة اكتئاب شديد وولديه، ابنه الّذي لا ينبس بكلمة وابنته، في منزل متهالك كحياتهم المستنزفة.

مريم تعاني من حالة إغماء وفقدان للوعي، عندما يُطْرَح أمامها موضوع الزواج وكلّ ما يتعلّق به، وهي ذات وجه معبّر، تقودنا خلال 8 حلقات في رحلة داخليّة وخارجيّة، إلى عوالم تركيّة تشبهنا كثيرًا، وتشبه تناقضات مجتمعنا الفلسطينيّ.

نتنقّل مع مريم بين عملها في التنظيف في منزل شابّ وسيم وعازب، يسكن في منزل عصريّ جدًّا، ألوانه قاتمة كحياته الّتي يحاول أن يملأها بعلاقات جنسيّة عابرة، إن دلّت تدلّ على عجزه النفسيّ، على التواصل الاجتماعيّ والعاطفيّ مع النساء، تبيّن لنا لاحقًا أنّه أيضًا من مهاجري القرى إلى المدن.

 

 

بعدها نتعرّف على أخي مريم، الشابّ العصبيّ العنيف، وزوجته البائسة الحزينة الّتي تحمل سرًّا ما، السرّ قتلها داخليًّا وأنهكها حتّى تآكلت، ولم يَعُد بمقدورها العناية بأطفالها أو بنفسها. تُقْدِم على الانتحار، لكنّها تنجو من الموت، لكن لا تنجو من الحياة وشرورها.

 

أدقّ التفاصيل

على الرغم من أنّ الحلقات ذات إيقاع بطيء أحيانًا، بسبب الأحداث المتكرّرة، الروتينيّة، الّتي تبدو هامشيّة وغير مهمّة، مثل خلع الأحذية قبل الدخول إلى المنزل، وانتعال حذاء البيت (شحويطة)، أو صنع القهوة، وشرح طريقة صنعها، حتّى أنّ مريم روت للمعالِجة النفسيّة، بإسهاب ووصف دقيق، عن كمّيّة القهوة ومدى سخونة الماء، إلّا أنّ هذه التفاصيل ساعدت في رسم الروتين اليوميّ القاتل للشخصيّات.

التصوير المدهش والجماليّ لأدقّ التفاصيل، للطبيعة الخلّابة، للجمال، للقبح، للروتين اليوميّ، لوجوه أبطاله، جاء ليخدم التغلغل في العوالم الداخليّة والخارجيّة لأبطاله، ساعدنا كثيرًا على التقرّب منهم، حتّى التماهي معهم.

الإضاءة، والتصوير، والموسيقى، والإخراج، وأداء الممثّلين، والسيناريو المحكم والمركّب، كلّها تناغمت معًا لتصنع تحفة بصريّة ونفسيّة بديعة.

قوّة المسلسل تكمن في قدرة كاتب السيناريو والمخرج على طرح الصورة النمطيّة والأفكار المسبقة، لدينا نحن البشر، عن المختلف عنّا، ثمّ كسر هذه الصورة النمطيّة.

مجازات جمّة وتناقضات كثيرة حَبَكَت الأحداث: لقاء العوالم المتديّنة والعلمانيّة، والريفيّة والمدنيّة، والغنيّة والفقيرة، والنساء والرجال، والخارج والداخل، والمحافظة والعصريّة إن صحّ التعبير، تقاطعت وتنافرت، التقت وابتعدت، حتّى وصلت في النهاية إلى الفهم والإدراك والتصالح مع الذات ومع الآخر.

 

صورة نمطيّة مكسورة

يبدأ المسلسل بلقطة قريبة لوجه مريم، وهي تتحدّث رويدًا رويدًا. كادر التصوير يتّسع لنراها تجلس أمام محلّلة نفسيّة، وتشركها في قصّتها بتفاصيل حياتيّة تبدو للوهلة الأولى تافهة. المحلّلة النفسيّة تبدو غير مرتاحة للقائها بمريم، لاحقًا سوف يتبيّن لنا أنّها فعلًا لم تشعر بالراحة لعلاجها مريم؛ لأنّ مريم فتاة محجّبة وريفيّة وبسيطة.

المحلّلة النفسيّة هي أيضًا تتلقّى علاجًا نفسيًّا لدى محلّلة نفسيّة أخرى، تربطهما علاقة صداقة شخصيّة، وهنا يدخل صراع من نوع آخر، هو أخلاقيّات مهنة العلاج النفسيّ.

عائلة مريم عائلة بسيطة، مؤمنة، يذهبون إلى شيخ لاستشارته في قضاياهم النفسيّة. الشيخ الهادئ يقطف أزهارًا من حديقته، ويهديها إلى زائريه.

في بداية لقائنا بالشيخ وورداته، ينتابنا شعور بالتعالي عليه، مثل ما شعرت الطبيبة النفسيّة تجاه المختلفين عنها. إنّ هؤلاء الجهلة بدل أن يتلقّوا العلاج يزورون الشيوخ، لكن رويدًا رويدًا يتبيّن لنا أنّه إنسان بمعنى الكلمة، وليس تاجر دين. موت زوجته وتمرّد ابنته عليه جعلاه يتغيّر، بل يتقبّل ابنته الّتي قرّرت أن تكشف حجابها؛ فهي تعيش حياة مزدوجة، حياة عصريّة، لا تخلو من الشرب والسهر، كغيرها من بنات جيلها، وحياة معلنة أمام والديها بارتدائها الحجاب.

 

 

قوّة المسلسل تكمن في قدرة كاتب السيناريو والمخرج على طرح الصورة النمطيّة والأفكار المسبقة، لدينا نحن البشر، عن المختلف عنّا، ثمّ كسر هذه الصورة النمطيّة. حتّى ياسين أخو مريم، الرجل العصبيّ العنيف، يتبيّن لنا أنّه رجل محبّ، حاول بكامل جهده بطريقته الخاصّة، الّتي ربّما نختلف معه في طريقة معالجته للمشكلة، لكنّه حاول، حتّى عصبيّته وعنفه نستطيع أن نفهم مصدرهما، فنتعاطف معه ونحبّه.

 

نتعرّى

بنت الشيخ في نهاية المسلسل تركت المكان برأس مكشوف، ووجه عارٍ، قرّرت أن تزيل حجابها، والمقصود ليس غطاء الرأس فحسب، بل الحجاب الّذي بنته بينها وبين والدها، وما الحجاب إلّا حقيقتنا نحن البشر.

لم تقتصر إزالة الحجاب فقط على بنت الشيخ؛ فكلّ شخصيّة استطاعت أن تتعرّى من حجابها، الرجال قبل النساء، فزوجة أخي مريم أخذت ابنها، وسافرت وحدها معه إلى قريتها لتواجه ماضيها، عادت بعد هذه المواجهة إنسانة أخرى، غمامة الحزن انقشعت، حتّى ابنها الّذي كان عاجزًا عن أن يسمع صوته، أخيرًا انطلق لسانه وبدأ بالتحدّث.

في الحلقة الثامنة الأخيرة، بعد عودة زوجة ياسين وابنه من القرية، وفي مشهد ليليّ، جلس وزوجته يتحدّثان عمّا حدث في القرية، وسألته لِمَ لم يخبرها بالحقيقة، بكت وبكى. اختار المخرج لأوّل مرّة أن ينظر ياسين مباشرة إلى عدسة الكاميرا والدموع تملأ عينيه، الألم يعتصر قلبه. هذه الالتفاتة إلى الكاميرا ما هي إلّا التفاتة التدجين، فأشاح بوجهه عن زوجته على الرغم من أنّه قال لها: "احكي لكي نبكي معًا"، على إثر هذه الالتفاتة، لم يَعُد ياسين كما كان، ولا زوجته، فعادت إليها الحياة والأمل والطاقة.

 

الثورة على النفس

المسلسل عرض أمامنا العديد من الشخصيّات المركزيّة والثانويّة، وأدخلنا في عوالم ومتاهات، لكنّه لم يغفل للحظة عن أن يُدْخِلَنا في متاهات الشخصيّات النفسيّة، والاجتماعيّة، وصراعه مع نفسه، ومع المحيط، وعالج كلّ شخصيّة على حدة، تعلّمنا عنهم ومنهم جميعًا، استطعنا أن ندخل بيوتهم وعوالمهم النفسيّة المظلمة والمتناقضة، عرّاهم نفسيًّا واجتماعيًّا، استطعنا التماهي معهم جميعًا، خلافًا لمسلسلات عربيّة جمّة، الشخصيّات فيها مسطّحة، سوداء وبيضاء، شرّيرة أو طيّبة، لا تركيب في الشخصيّة، لا لون ولا صراع لديها؛ فكلّنا يحمل في طيّاته تناقضات، وجوانب مظلمة وأخرى مضيئة.

لم تقتصر إزالة الحجاب فقط على بنت الشيخ؛ فكلّ شخصيّة استطاعت أن تتعرّى من حجابها، الرجال قبل النساء، فزوجة أخي مريم أخذت ابنها، وسافرت وحدها معه إلى قريتها لتواجه ماضيها...

حتّى المحلّلات النفسانيّات في المسلسل، اللواتي هنّ أكثر وعيًا لخبايا النفس وعقدها، هنّ بأنفسهنّ كغيرهنّ من البشر يعانين الأمرّين، ولديهنّ مشاكلهنّ النفسيّة: ترسّبات الماضي، والأفكار المسبقة، والعلاقة المركّبة مع الأهل، ومناطق مظلمة باطنيّة تسبّب لهنّ المعاناة.

المسلسل على الرغم من جماليّته وبداعة تصويره، إلّا أنّه سوداويّ، حزين، جميع شخصيّاته تعيش بمعاناة وثقل، جميعهم يحاولون الثورة على أنفسهم والتحرّر من الترسّبات، أحيانًا ينجحون ومرارًا يفشلون. الثورة على الذات، لربّما هي من أعمدة المسلسل، إن لم تكن العمود الأساسيّ والمحرّك المركزيّ لهذه الدراما الإنسانيّة الّتي تقترب من الكمال. هو واقع جميل وكئيب في الوقت نفسه.

 

قصّتنا جميعًا

المسلسل يروي ببساطة قصّتنا جميعًا، حجاب الرأس، وحجاب العقل، وحجاب المشاعر الّذي تبيّن أنّه الأصعب والأقسى، والأكثر ضراوة وأسًى وانتهاكًا واستهلاكًا لمشاعرنا ومشاعر الآخرين. كلٌّ منّا وحجابه ومعاناته الداخليّة، وسطوة الحياة عليه، وتفريغه لكبته الداخليّ على ضحايا أضعف منه.

كمّ المعاناة الداخليّة، ورسْمها بهذه الدقّة، والغوص في تفاصيل الأبطال، ومحاولة تفكيك كنه النفس البشريّة، هي محاور هذه الدراما الخلّاقة والمختلفة.

 

 

الآخر ثمّ الآخر... محاولة بسيطة منّا لتقبّل الآخر؛ حينئذٍ فقط سنستطيع تقبّل أنفسنا، بضعفنا ومعاناتنا وتناقضاتنا، وأن نتحرّر تحرّرًا حقيقيًّا ونعيش بسلام وسكينة مع ذواتنا، وأن نحلّق في العالم الخارجيّ بثقة وأمان وسموّ.

 

 

سها عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافيّة فلسطينيّة. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدوليّ للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.

 

 

التعليقات