08/05/2024 - 14:27

مَنْ قتل جلالًا؟ الكآبة الّتي نراها والكآبة الّتي ترانا

مَنْ قتل جلالًا؟ الكآبة الّتي نراها والكآبة الّتي ترانا

من فيلم «حمّى البحر المتوسّط» (2022)

 

يدور فيلم «حمّى البحر المتوسّط» للمخرجة مها الحاجّ في فضاء حيفا، وفلك الحياة العاديّة لرجلين فلسطينيّين، وليد (الممثّل عامر حليحل) وجلال (الممثّل أشرف فرح). كلٌّ منهما زوج وأب عاطل من العمل تقريبًا. يتتبّع الفيلم تشكّل علاقتهما وتطوّرها من جارين يظنّان أنّهما لا يتقاطعان بشيء، إلى رفيقين يقضيان نهاراتهما معًا.

يتميّز الفيلم بقصّة وبناء شخصيّات متين ومدروس، وأداء تمثيليّ مفعم بالتقمّص والمصداقيّة. فيلم مليء بالتفاصيل والحوارات المميّزة، الّتي استحقّ بها الحصول على جائزة «أفضل سيناريو» ضمن مسابقة «نظرة ما» في الدورة الـ75 لـ «مهرجان كان السينمائيّ» (2022). وربّما من أكثر حواراته ذات الحرفيّة العالية؛ الحوار الّذي دار بين وليد وابن جارته في العمارة خلال اللقطة التأسيسيّة، الّذي فرش لنهاية الحكاية بذكاء ومكر.

 

نبدأ من النهاية

في مثال تقريبيّ تحاول فيه تيريسا بورشارد – وهي كاتبة أمريكيّة متخصّصة في قضايا الطبّ النفسيّ – تفكيك سؤال قدرة المكتئب على عدم الانتحار، تشير إلى أنّ الدافع للانتحار قد يكون ضاغطًا، وأنّ انتحار المريض الشديد الاكتئاب أشبه بالعطس، متسائلة حول ذلك مستنكرة؛ أنّه وإذا تحسّست أنفك، وجاءتك العطسة، فهل يمكنك إيقافها؟ وهل يصحّ أن يعاتبك أحد لعدم تحكّمك في العطسة؟ وهنا نتساءل، إذا كان الانتحار عطسًا، فهل يمكن التفكير فيه أن يكون تثاؤبًا؛ أي معديًا؟ خاصّة في وضع فيه "الناس كلّها بدها تموت، الناس عايفة..."، كما قال جلال.

على العكس من هرم ماسلو الّذي يُفضي بأن لا صوت يعلو فوق صوت غريزة البقاء، ظلّت أشباح الموت تطارد وليدًا، مختبئة في زوايا غرف اكتئابه المظلمة، الّذي يرفض أن يأخذ له أدوية؛ خوفًا من أن يفقد ذاته في هذه الرحلة "الّتي يعي حضورها بقوّة"، في مقابل نصائح طبيبته النفسيّة بعمل يوغا وتناول أكل صحّيّ، والأهمّ أن يستمرّ في زياراته الدوريّة لها. الأمر الّذي يصرّح وليد بأنّه يستسخفه، ويرى أنّه مضيعة لوقته ووقت الطبيبة ونقود زوجته، لكنّه يواصله، متردّدًا على عيادتها أملًا بانفلات القليل من الأمل، من هنا أو هناك.

ظلّت أشباح الموت تطارد وليدًا، مختبئة في زوايا غرف اكتئابه المظلمة، الّذي يرفض أن يأخذ له أدوية...

بينما يرى جلال حياته دون مبالغة، إنّما على العكس بواقعيّة كاملة، حتّى فشله ونزواته، وظروفه، أنّها مكوّنات الحياة العاديّة بالنسبة إليه. يقدّر ما يملك، وينتقد وليدًا لعدم تقديره التفاصيل البسيطة كالعائلة، ووجود الأبوين والأولاد. يحبّ حبيبته، كما يحبّ الشعر العربيّ القديم، والغناء، والخمر صباحًا، ويملك كلبين. وإن كانت صراحته تجاه منطقه في الحياة نسبيّة؛ لكونه يخفي بعضًا منها خلف حياة أخرى موازية، مختبئًا في ظلّ صورة جار مضياف يدّعي أنّه "بحبّش إشي ينضبّ، خلّي كلشي هيك قدّامك ع الطاولة… لمّا تعوز غرض بتلاقيه".

 

سؤال الانتحار 

يقول ألبير كامو في كتاب «أسطورة سيزيف» عن الاكتئاب: "بمعنًى ما من المعاني، يرقى قتلك لنفسك إلى مرتبة الاعتراف؛ فهو اعتراف بأنّ الحياة ثقيلة عليك للغاية، أو أنّك لا تفهمها؛ فقتل الإنسان لنفسه هو مجرّد اعتراف بأنّ هذه الحياة لا تستحقّ المشقّة. وبطبيعة الحال فالعيش ليس سهلًا أبدًا، والإنسان يواصل أداء الحركات الّتي يأمره بأدائها الوجود لأسباب عدّة أوّلها العادة. والموت اختيارًا يتضمّن أنّك قد اعترفت، ولو بالغريزة، بسخف هذه العادة، وعدم وجود أيّ سبب عميق يدعو إلى العيش، وجنونيّة الانفعالات اليوميّة، وعدم جدوى المعاناة".

وقد كتب في مستهلّه أيضًا: "لا وجود إلّا لقضيّة فلسفيّة واحدة جِدّيّة حقًّا، هي: قضيّة الانتحار؛ ذلك أنّ الحكم على أنّ الحياة تستحقّ أن تُعاش أو لا تستحقّ ذلك، هو في حدّ ذاته الجواب عن السؤال الأساسيّ في الفلسفة".

 

 

عندما تتّضح الصورة لجلال، ويرى خفايا رغبات وليد من علاقة صداقتهما، يشارك معه قصّة حول حمار كان يعمل في أريحا، في فترة بناء التلفريك في عزّ فصل الصيف، الّذي يأتي على هذه المنطقة مضاعفًا. كانت الحمير تُسْتَخْدَم لنقل موادّ البناء وأدواته من الوادي إلى أعلى جبل قرنطل، صعودًا ونزولًا إلى أن وصل الحمار في القصّة إلى أعلى الجبل، ونزّلوا حمولته عن ظهره، ولكنّه بدلًا من أن يعود لأخذ جولته التالية كما الحمير الأخرى، توقّف، على حافة الجبل ونظر إلى الأسفل… ثمّ ألقى بنفسه، ومات. ويختتم جلال قصّته قائلًا: "انتحر، عشان تعب، زهق بطّل يتحمّل".

 

بين موت وحياة

يُحاصَر وليد المتمسّك باسم شارع الجبل، وعاصمة فلسطين القدس، الّذي لا يخاف من الموت، كما جلال الّذي يبدي عدم اكتراث بالسياسة ولا بـ «يوم الأرض»، ولا يخاف من الحياة - كما يُحاصَر الجميع من الفلسطينيّين الموجودين على أراضيهم المحتلّة في عام 1948، بمختلف توجّهاتهم الوطنيّة - الفوضى الضاربة من تناقضات العيش بين هويّتين، الّتي تقود إلى تناقضات في الهويّة مع الذات نفسها، على غرار الهويّة الجمعيّة. في ما تجد هويّتهم وأزمات ممارستها حاضرة في مختلف جوانب حياتهم اليوميّة؛ الشخصيّة والعمليّة والاجتماعيّة، وحتّى في حصص الجغرافيا، والأمراض الوراثيّة، مثل حمّى البحر المتوسّط.

وفي خضمّ فيض هائل من الحيرة وضياع الهويّة بين ثنائيّات العيش والفكر، وبين طبيبة تحكي بأنّ التعافي من الاكتئاب يحتاج إلى وقت وصبر، إلّا أنّ وقت الجلسة قد نفد، وبين حبيبة وزوجة، وحياة إجراميّة صاخبة وعائلة هادئة، وبين التخطيط للاستعانة بقاتل مأجور، والانشغال بتقشير البطاطا، يضيع بطلا القصّة في دوّامة الصدمة الجمعيّة الفلسطينيّة، أو العربيّة، الممتدّة، بين محاولات نجاة ولحظات يأس ينجرفان بها إلى واقع مثقل بالأعباء، يقودهما إلى خيارات قاسية وقصوى، فاقدين لهذه الفُسْحَة ما بين التهوّر والسلوك المحافظ.

تقول مها في مقابلة لها عن شخصيّات الفيلم: "لسنا في حاجة إلى المزيد من ذلك النوع من الرجال العرب في السينما، والمقصود بهم أصحاب البطولات والرجال دون مشاكل أو دواخل معقّدة... لست في حاجة إليهم لكي أحكي قصّة هذا البلد؛ هذه المدينة، وما حدث لشعب كامل فيها. لقد اخترت لقصّتي رجالًا عاديّين موجودين في كلّ مكان في حياتنا، وليس لهم مكان في صناعة الأفلام وقصص البطولات الفلسطينيّة، أو قصص القمع والقهر والاحتلال، لقد اخترت أن أكتب قصّة أيّ رجل فلسطينيّ، يعيش في الداخل، يعاني نفسيًّا من مرض يثقل على صدره، ويمنع منه السعادة".

كأنّ التفلسف هو ما يقي من الوفاة، كما الحيرة والفضول، وما يرافقهما من سعي إلى معنًى ما، وبالتأكيد "الخيال الواسع" كما يصف نفسه، وكأنّ وليدًا لو وجد ما يكتب لقتل نفسه في بداية الفيلم...

وفي ما كان جلال يفهم نفسه في هذه الحياة على أنّه فريسة، عليها الركض والركض فقط؛ للهروب من مفترس لا يعرفه، وفي ذات الوقت لا يمكنه الوقوف وانتظاره، أو التفكير في ما يجعله فريسة، فيحاول في المقابل العيش بكلّ ما تحمله الكلمة من معنًى. جلّ احتياجه رجلًا في سنّ الـ42، أن ينجو ليوم جديد، ويتأكّد بأنّ عائلته لن تموت جوعًا، أو قتلًا؛ أي أن يشعر بالأمان، سائرًا على الحبال المشدودة.

بينما نرى وليدًا واقفًا، ينظر ويتفحّص، ولا يجد مفترسه، وهنا كمنت أزمته النفسيّة، وهنا أيضًا كمنت نجاته على الرغم من ضبابيّة مدّة صلاحيّة هذه النجاة. وكأنّ التفلسف هو ما يقي من الوفاة، كما الحيرة والفضول، وما يرافقهما من سعي إلى معنًى ما، وبالتأكيد "الخيال الواسع" كما يصف نفسه، وكأنّ وليدًا لو وجد ما يكتب لقتل نفسه في بداية الفيلم. يقول المخرج الروسيّ أندريه تاركوفسكي في فيلم «مطارد» (Stalker) الصادر عام 1979، على لسان شخصيّة الكاتب، ما مفاده أنّ الكتّاب يكتبون ليثبتوا لأنفسهم أنّهم أصحاب قيمة، ولو أنّهم يصدّقون بأنّهم عباقرة ما كانوا اضطرّوا إلى الكتابة.

 

ألعاب خِفّة سينمائيّة

تختتم مها فيلمها بسلسلة من اللقطات الواسعة لفضاءات فلسطينيّة ساكنة، لا احتلال ولا محتلّين، لا عمارات شاهقة في حيفا. كلّ شيء خالٍ من كلّ شيء، إلّا البحر والبيوت القديمة، وكأنّها لحظة تحرّر؛ خروج من الحياة الّتي حملت وجهين، حملت احتمالين، إلى ثابت وحيد.

كما في افتتاحيّات الشطرنج، تتحكّم الطلعة المحكمة في مسار اللعبة؛ تستخدم اللقطة التأسيسيّة في الأفلام، الّتي تُسَمّى أيضًا الافتتاحيّة (Opening)، عادة لخدمة غرضين سينمائيّين أساسيّين؛ الأوّل مرتبط بالتشويق، بأن تمثّل هذه الدقائق القليلة عامل جذب، يدفع الجمهور إلى المشاهدة، واستثمار وقتهم فيها. والثاني أن يحمل شيئًا من معنى الفيلم؛ لمساعدة المشاهد وإعانته على فهم الفيلم بمكوّناته المختلفة، مثل خلفيّة الشخصيّة، وبيئتها، أو ظروفها، أو ببساطة المكان المركزيّ لأحداث الفيلم. بكلمات أخرى؛ لتوضيح شيء يمكن أن يساعدنا في بناء فكرة، تساعدنا على الفهم.

إذا كان الانتحار عطسًا، فهل يمكن التفكير فيه أن يكون تثاؤبًا؛ أي معديًا؟...

تقرّر مها الحاجّ في افتتاحيّة فيلم «حمّى البحر المتوسّط» أن تلاعبنا وتعطينا الحزّيريّة، واضعة برشاقة إجابتها قبل السؤال، وقبل الإشارة إلى وجود سؤال أصلًا، وتلعب بخفّة سرد لتشتّتنا عنهما، وعن علاقتهما ببعضهما بعضًا، مُظْهِرَة مهارة في استغلال هذه المساحة الإبداعيّة، مُسْتَعْرِضَة مهاراتها الإخراجيّة والكتابيّة في نفس الوقت.

يبدأ الفيلم بجثّة مُلقاة على أرض منزل، لسيّدة عجوز، ورجلان يجلسان من أمامها، بينما يفحصها طاقم طبّيّ. يتبيّن لنا أنّ هذا وليد، يجلس مع ابن الجارة صاحبة الجثّة، في منزل الجارة. يدور بينهما حوار فلسفيّ، برداء عبثيّ؛ إذ يقول ابن الجارة لوليد الّذي أربكه إيمانه بقتله الجارة: "استنّى عليّ لأكمل نظريّتي"، يشعل سيجارته: "اسمع، كان ممكن متدفشهاش، وكان ممكن تدفشها، إسّا إنت دفشتها ماشي! إسّا كان ممكن توقع، وكان ممكن متوقعش، إسّا هي وقعت، معي إنت! لمّا وقعت، كان ممكن تموت وكان ممكن متموتش فاهم عليّ! إسّا هي راحت ماتت، بسّ هذا مش معناه إنّك إنت قتلتها لا سمح الله، كلشي تمام… حسّ حلو".

لِنَعُدْ من هنا إلى بداية هذا المقال، أي العودة إلى النهاية، ونختتم بها متسائلين: إذا كان الانتحار عطسًا، فهل يمكن التفكير فيه أن يكون تثاؤبًا؛ أي معديًا؟

 


 

ترتيل معمّر

 

 

 

من بيت لحم، خرّيجة صحافة وإعلام - جامعة بيرزيت. تعمل في مجال الفنون البصريّة ضمن مشروع «الفنون البصريّة: نماء واستدامة» (VAFF). حصل مشروع فيلمها القصير «دوريّة» على جائزة «سرد» لعام 2021. لها مساهمات كتابيّة وصحافيّة.

 

 

 

التعليقات