12/02/2022 - 15:03

ارتباك التاريخ وحبّ المكان: مشروع «سكّة الحجاز في فلسطين» لبرسكيان

ارتباك التاريخ وحبّ المكان: مشروع «سكّة الحجاز في فلسطين» لبرسكيان

جسر ذو أقواس خمسة، يعبر وادي البيرة على المنحدر الغربيّ لوادي الأردنّ | جاك برسكيان.

 

قلّة من الفلسطينيّين يستطيعون تحديد مسار «سكّة الحجاز» في فلسطين اليوم على الأرض، على الرغم من مرورها بين مدننا وقرانا، ومن الباحات الخلفيّة لمنازلنا، والأثر الجليّ الّذي تركته خلفها؛ فحضور السكّة في ذاكرتنا الجمعيّة لم يُثِرْ حبّ الفضول لتتبّع مسارها أو لتعرّف محطّاتها عن قرب، وهي الّتي كانت جزءًا من شبكة خطوط حديديّة بطول 700 كم، مُدَّت في مناطق مختلفة من فلسطين عشيّة الحرب العالميّة الأولى، لكنّ قليلًا من الصور والمعلومات يتوفّر عنها.

سأتناول في هذه المقالة ما قدّمه الفنّان جاك برسكيان في مشروعه «سكّة حديد الحجاز في فلسطين - رحلة صوريّة»، وتحديدًا في الكتاب الصوريّ[1]، الّذي أنتجه وعرض نسخة وحيدة منه، ضمن معرض أرشيفيّ في «مؤسّسة عبد المحسن القطّان» في رام الله. وبخلاف ثيمة المعرض الأرشيفيّة، يأتي مشروع برسكيان الفوتوغرافيّ متحرّرًا من قيود الأرشيف؛ ليأخذنا في رحلة صوريّة في أرجاء فلسطين، متتبّعًا مسار السكّة وما آلت إليه، ومركّزًا على المحطّات العثمانيّة الأولى المبنيّة على هذا الخطّ. 

 

تقع محطّة الحمّة على يمين الشجرة الكبيرة في وسط الصورة، على يسار الشجرة مكتب التذاكر. تظهر بلدة أمّ قيس الأردنيّة في الخلفيّة | جاك برسكيان

 

إنّ ما يظهر في سلسلة الصور الّتي يقدّمها برسكيان هو طبيعة خلّابة، ومبانٍ صغيرة هي محطّات القطار، بعضها مُرَمَّم وبعضها الآخر مُهْمَل. وتتجلّى في الصور الفوتوغرافيّة درجات الضوء وألوان السماء الزرقاء، والامتداد الجميل المنساب للسهول والهضاب، وكذلك الأفق المفتوح في فصول مختلفة من السنة.

 

لماذا أراد العثمانيّون هذا المشروع؟

كان هدف «سكّة الحجاز» تسهيل عمليّة انتقال الحجّاج من سوريا إلى مكّة؛ تفاديًا للمخاطر الّتي كانت تحيط بقوافل الجِمال الّتي تمرّ عبر الصحراء، وتقصيرًا للوقت وتجنّبًا للعناء. أرادت الدولة العثمانيّة أن يكون مشروع السكّة إسلاميًّا مموّلًا ذاتيًّا، بعكس جميع الخطوط وسكك الحديد الّتي كانت قائمة في الدولة العثمانيّة آنذاك، والّتي كانت تملكها وتديرها شركات ألمانيّة وفرنسيّة وإنجليزيّة، فقد أراد السلطان أن يقوّي موقعه ومكانته زعيمًا إسلاميًّا في فترة ضعفت فيها الدولة.

افتتح العثمانيّون خطّ درعا - حيفا عام 1905 امتدادًا لخطّ الحجاز في فلسطين، وبلغ طوله 161 كم عبر جبال وسهول وأودية فلسطين وسوريا، وكان يمرّ عبر الجغرافيا الأصعب؛ لامتداده على تضاريس مرتفعة وأخرى تحت سطح البحر في منطقة غور الأردنّ، وقد شمل المشروع 443 جسرًا وعبّارة ماء ونفقًا على خطّ درعا - حيفا، وذلك بسبب التباين في الارتفاعات بين المحطّات المختلفة، على طول الخطّ المارّ من جبال فلسطين، والسالك طرقًا شديدة الانحدار للوصول إلى المحطّات في غور الأردنّ، قبل معاودة الارتفاع مجدّدًا نحو سوريا.

اسْتُخْدِم خطّ درعا - حيفا لنقل الموادّ الخامّ من ميناء حيفا لبناء الأجزاء الأخرى من الخطّ الحجازيّ، استبدالًا للخطّ الّذي شغّلته شركة فرنسيّة، تولّت من خلاله نقل البضائع من ميناء بيروت إلى دمشق، وتقاضت تسعيرة باهظة. لقد عزّز بناء الخطّ من مكانة حيفا ومينائها بشكل إستراتيجيّ، بعد أن كان ميناء يافا هو الأهمّ، وعبره صارت البضائع تُنْقَل ويُصَدَّر الإنتاج الزراعيّ من منطقة حوران ومرج ابن عامر، بالإضافة إلى نقل الحجّاج القادمين عبر البواخر إلى الحجاز.

 

الاستغلال الصهيونيّ

يجب الحذر من تناول «سكّة الحجاز» برومانسيّة وطنيّة، أو بحنين إلى ماضٍ قد يبدو مجيدًا، وذلك لأنّ تاريخ السكّة ليس كذلك تمامًا، فمرور القطار شمال فلسطين ساهم في تعزيز الاستيطان الصهيونيّ وإحكام قبضته على البلاد لاحقًا، خاصّة في مرج ابن عامر، حتّى أنّ أوائل المستوطنين الصهاينة أطلقوا عليه اسم «قطار المرج». أُقيمَت المستعمرات حول سكّة الحديد، وشحنت منتجاتها الزراعيّة إلى ميناء حيفا للتصدير والتسويق.

 

محطّة تلّ الشمّام | جاك برسكيان

 

تشير إحصائيّة أُجْرِيَت في فترة الاحتلال البريطانيّ عام 1945، إلى أنّ 14 من أصل 17 محطّة أُقيمَت على هذا الخطّ في عهد الانتداب، كانت تخدم بشكل مباشر مستوطنات يهوديّة، وأنّ ثلاث محطّات فقط خدمت أصحاب البلاد الفلسطينيّين، وهي شطّة وبيسان وسَمَخ.

يُقال إنّ هرتسفيلد، أمين عامّ «المركز الزراعيّ للمستوطنات»، اتّخذ من القطار مكتبًا له، حيث اجتمع فيه مع مسؤولي الكيبوتسات القريبة من محطّات القطار، بل إنّ هناك محطّة أُضيفَت بخاصّة أيّام الاحتلال البريطانيّ، في منطقة شطّة، لغرض نقل الحليب الطازج من مصانع «تنوفا»، المُقامَة بالقرب من سكّة الحديد، ونُقِلَ الحليب إلى حيفا بقطار مزوّد ببرّاد عُرِفَ بـ «قطار الحليب». كما استخدم المستوطنون الصهاينة القطار لتهريب الأسلحة، وتزويد المستوطنات بها؛ تحضيرًا لتهجير الفلسطينيّين عام 1948.

 

حبّ المكان

عودةً إلى كتاب برسكيان، فإنّه يتكوّن من شقّين؛ شقّ بصريّ وهو الطاغي، ويصوّر طبيعة المنطقة بعد مئة وستّة عشر عامًا من افتتاح السكّة، وشقّ مكتوب نجده في زوايا الكتاب، وهو عبارة عن شروحات للصور تتضمّن وصفًا دقيقًا معاصرًا ونادرًا لتضاريس الأمكنة الّتي يمرّ بها القطار، بالإضافة إلى معلومات تاريخيّة مفصليّة مرتبطة بالمحطّات، تستند إلى كتب ومراجع ذات علاقة.

يربط المشروع ما بين المشهد وتاريخه، فتساهم الصور إلى جانب الشروحات في تكوين فكرة عن قصّة سكّة الحديد، والسياق الّذي أُنْشِئَت وشُغِّلَت فيه، ومصيرها اليوم، ويحثّنا على التأمّل في المشهد الطبيعيّ في فلسطين، وتخيّله ضمن سلسلة الأحداث الّتي ساهمت، وما زالت تساهم، في حجبه عنّا.

يسافر برسكيان مع كاميرته بالسيّارة من حيفا إلى الحمّة، مارًّا بثماني محطّات بُنِيَتْ عام 1905 هي: حيفا، وبلد الشيخ، وتلّ الشمّام، والفولة (العفّولة)، وبيسان، قبل أن تعبر السكّة من فوق نهر الأردنّ شمالًا إلى جسر المجامع وسَمَخ، ومن ثَمّ تعبر نهر اليرموك إلى الحمّة فداخل الحدود السوريّة، ثمّ يعود ليتتبّع الفرع المبنيّ لاحقًا عام 1912 من الفولة إلى الجنوب، مارًّا بجنين، وعرّابة، وسيلة الظهر (أو جَبَع)، وعبر نفق راشين، ثمّ محطّة المسعوديّة متفرّعًا في خطّين نحو عنبتا وإكتابا وطولكرم من جهة، ونحو نابلس من جهة أخرى.

 

في هذا المنظر الجنوبيّ الشرقيّ يظهر مبنى محطّة جنين في الوسط،
والمكوّن من طابقين | جاك برسكيان

 

يقول برسكيان: "أردت التركيز، من خلال المشروع، على المشهد والتضاريس وطبيعة فلسطين الخلّابة، في رحلة تتبّع خطّ الحجاز في فلسطين. دفعتني الرحلة إلى البحث عن جماليّات الجغرافيا الفلسطينيّة، وأخذتني إلى أماكن أبهرتني بطبيعتها، وحاولت بقدر الإمكان إبرازها. تفاجأت بمدى التباين والتفاوت في الطبيعة، وغنى التضاريس في هذه المساحة الصغيرة". ويضيف: "ينسى المرء مدى قرب الأمكنة، فبنظرة واحدة كان بالإمكان رؤية مساحة فلسطين العرضيّة من رأس الجبل حتّى الساحل؛ فإحدى الصور مثلًا تُظْهِر الطبيعة الممتدّة من الناصرة حتّى نهر الأردنّ، بما في ذلك أودية كبيرة ساحرة. ولأنّني التقطت الصور خلال جولات عدّة في فصول مختلفة من السنة؛ تمكّنت من أن أصوّر طبيعة جرداء توحي بجوّ صحراويّ صيفًا، جنبًا إلى جنب صور ربيعيّة لطبيعة يغلب عليها اللون الأخضر. حاولت إظهار تنوّع الفصول وتنوّع الطبيعة؛ لأعكس المنطقة جماليًّا، وأعزّز الشعور بالنشوة وحبّ المكان"[2].

ورغم الصور الجميلة للطبيعة الّتي سلكها قطار الحجاز، إلّا أنّه، وللمفارقة، ساهم مدّ هذه السكّة في فلسطين في القضاء على كثير من الأحراش والغابات، وخاصّة المحاذية للسكّة؛ لإشباع نهم محرّكات القطارات، خاصّة بعد تعذّر حصول العثمانيّين على الفحم الحجريّ بعد الحصار البحريّ الشديد، الّذي فرضه الأسطول البريطانيّ عليهم[3].

 

المآل

إنّ كتابة شروحات الصور فنّ في حدّ ذاته؛ لأنّ السياق يختلف باختلافها، وهي هنا تقدّم وصفًا دقيقًا للتضاريس، وتورد معطيات تاريخيّة منتقاة متّصلة بسكّة الحديد، عاكسة التاريخ الاستعماريّ المستمرّ والمؤلم لمكان نراه بأبهى صوره؛ فتقول الشروحات مثلًا إنّ محطّة تلّ الشمّام تحوّلت إلى متحف للقطار، وإنّ اسمها ما زال محفورًا في الحجر، رغم تغيير اسمها إلى «كفار يهوشع»؛ تكريمًا ليهوشع هانكين، الّذي أدّى دورًا مهمًّا في شراء الأراضي لصالح «الصندوق القوميّ اليهوديّ». وكان يهوشع مسؤولًا عن شراء مساحات واسعة في مرج ابن عامر من عائلة سرسق اللبنانيّة[4]. ويذكر الكتاب أنّ يهوشع هذا سهّل عمليّة شراء 8000 دونم من أراضي تلّ الشمّام من عائلة التويني اللبنانيّة، وهي عائلة صديقة لعائلة سرسق، وكانت قد اشترت أراضي المنطقة من العثمانيّين.

وفي وصف محطّة حيفا ذات التصميم الألمانيّ، يركّز الشرح على أنّ الجناح الشرقيّ للمحطّة دُمِّرَ في 20 أيلول (سبتمبر) 1946 بفعل انفجار قنبلة زرعتها عصابة ’الإتسيل‘، وأنّ البريطانيّين رمّموا المبنى جزئيًّا إثر الانفجار. وتتّخذ شركة «قطار إسرائيل» مبنى المحطّة مكاتب لها، بينما حُوِّلَت مبانٍ تتبع للمحطّة إلى متحف للقطارات، وتركت المباني القديمة المجاورة للمحطّة ببنائها العريق فارغة؛ لتتهالك وحدها بفعل الزمن، وقد يكون مخطَّطًا لجرفها مستقبلًا لصالح مشروع إسرائيليّ جديد يمحي الماضي ويكتب الحاضر.

أمّا محطّة بلد الشيخ التالية في خطّ درعا – حيفا فتشير الشروحات إلى أنّها دُشِّنَت عام 1913، وأُقيمَت بالقرب من بلد الشيخ المهجّرة عام 1948، وهي تحتضن قبر المناضل الشهيد عزّ الدين القسّام، وأنّ مبناها المتواضع مُرَمَّم اليوم ولكنّه مسيّج ومهجور، ويقع خلف مركز تسوّق إسرائيليّ كبير ضمن منطقة صناعيّة.

 

ما تبقّى من محطّة طولكرم، ونرى إلى اليسار خزّان المياه التابع للمحطّة | جاك برسكيان

 

ويكتب عن محطّة الفولة (العفّولة) أنّ ما تبقّى منها رُمِّمَ بعد أن فجّرتها عصابة «البالماح» عام 1945، وأنّها أضحت متحفًا آخر للقطارات. ويرفق برسكيان ملاحظاته تحت صور محطّة بيسان قائلًا: "تحتوي المحطّة على بقايا المبنى القديم، إضافة إلى هياكل أربعة مبانٍ أخرى كانت تتبع للمحطّة، وخزّان ماء دائريّ". ويضيف: "كان يسكن في بيسان نحو 3000 شخص عند بداية القرن العشرين، قبل طردهم جميعًا عام 1948 وإحلال سكّان يهود مكانهم".

وبالانتقال إلى محطّة جسر المجامع، أخفض منطقة في خطّ الحجاز (246 مترًا تحت سطح البحر)، وتقع اليوم على السياج الحدوديّ مع الأردنّ، يشير برسكيان إلى أنّ مباني المحطّة غير موجودة؛ فقد دمّرها الجيش الإسرائيليّ بعد عام 1948؛ من أجل منع الفدائيّين المتسلّلين إلى الأراضي المحتلّة من الاختباء فيها، وبالقرب منها يقع مبنًى كبير فارغ اسْتُخْدِمَ سابقًا للحجر الصحّيّ للحيوانات المستوردة من سوريا.

ويذكّرنا أنّ مباني محطّة سَمَخ المرمّمة، الواقعة إلى جنوب قرية سَمَخ المهجّرة عام 1948، صارت جزءًا من مجمع تربويّ لتدريب المعلّمين، ومركزًا ثقافيًّا استضاف مفاوضات «اتّفاقيّة عربة»، بين إسرائيل والأردنّ. أمّا المحطّة الأخيرة في فلسطين فهي محطّة الحمّة، وهي على الحدود بين الجولان والأردنّ وفلسطين، محاطة بسياج كهربائيّ، ومبناها مستخدم اليوم جزءًا من مشروع إسرائيليّ لبرك تربية الأسماك.

 

جسور وعبّارات وأنفاق

يعرّج برسكيان على الجسور والعبّارات والأنفاق الّتي شملها مشروع السكّة، ويتفقّد القائم منها ويصوّره صورًا بديعة. يصف مثلًا جسر الجلمة البادي للعيان بأنّه محصور بين جسرين، أحدهما أقامه البريطانيّون إلى الشمال كخطّ حديد موازٍ لخطّ الحجاز، بعرض أكبر للسكّة، أمّا الثاني فبناه الإسرائيليّون جنوبًا، هو جسر «أوتوستراد»، ويشير إلى أنّ سيلًا من الماء الملوّث يمرّ من تحته الآن، وهو ما تبقّى ممّا كان يُعْرَفُ بـنهر المقطع. ويصوّر جسر اليرموك الثالث القائم، ويقول إنّه لا تزال هناك مئذنة حجريّة بيضاء قائمة، تشهد على قرية الحمّة، الّتي سكن فيها 300 شخص، وهُجِّروا تدريجيًّا ما بين عامَي 1948 و1956 إلى سوريا. ويُذْكَر أنّ جسر اليرموك الثاني كان قد دُمِّر جزئيًّا ضمن سلسلة من العمليّات استهدفت فيها عصابة «البالماح» طرقًا وجسورًا تربط بين فلسطين والدول العربيّة المحيطة، في 17 حزيران (يونيو) 1946؛ لقطع إمدادات الأسلحة والدعم عن الفلسطينيّين، وكانت تُدْعى «ليلة الجسور».

يعود برسكيان أدراجه بعد ذلك إلى خطّ الفولة (العفّولة) – نابلس – طولكرم، الّذي بُنِيَ بين 1912 و1915 جزءًا من الجهود العسكريّة العثمانيّة لربط المنطقة بشبكة من السكك، الّتي تسهّل وصول الجنود والعتاد، حيث دارت المعارك بين العثمانيّين والبريطانيّين. يصل أوّلًا إلى محطّة جنين، الموجودة اليوم في وسط مخيّم جنين على شارع يُدْعى «شارع السكّة»، وتحتلّ الطابق الأرضيّ من مبنى المحطّة اليوم محلّات للخضراوات وللإطارات وللهواتف الخلويّة، بينما يبدو الطابق الأوّل بلا سقف، وبجدران متهالكة آيلة للسقوط. ويقع بالقرب من محطّة القطار مبنًى كان يأوي عمّال السكّة. يقول برسكيان إنّه يصعب الوصول إليه؛ لوقوعه بين مجموعة من البنايات، ووضعه من الداخل يبدو شديد السوء.

 

ممرّ القطار بالقرب من جسر المجامع | جاك برسكيان

 

وتتجلّى صور «نفق راشين»، الّذي كان يعبره القطار لدى مغادرته محطّات جنين وعرّابة وسيلة الظهر في طريقه إلى محطّة المسعوديّة. ويقترح الكاتب أنّ محطّتي عرّابة وسيلة الظهر، اللتين لا أثر لهما على الأرض، قد تكونان محطّتين بدون مبانٍ؛ أي مجرّد أرصفة للمسافرين. وتعتبر محطّة المسعوديّة، الواقعة شمال غرب سبسطية، ملتقًى للخطّ المتفرّع إلى طولكرم، والخطّ المتّجه إلى نابلس. وتقع هناك بنايتان نصف مهدومتين، إحداهما هي المحطّة الرئيسيّة، تحمل اسم المحطّة محفورًا بالحجر.

يصف برسكيان المحطّة بأنّها تبدو كواحة صغيرة محاطة بشجر السرو، تطلّ على سهل تنساب فيه التلال إلى الغرب. وفي وسط مدينة نابلس يقع المبنى الرئيسيّ لمحطّة نابلس، الّذي يحتلّه «مصنع أبو عبده» المشهور للمخلّل ودكّان للحجر. ومن الممكن رؤية بعض الحجارة الأصليّة للمحطّة من الداخل رغم الطلاء. وما زال السقف المغطّى بالقرميد الأحمر موجودًا، لكنّ سقف المبنى من الداخل عُزِلَ بصفائح معدنيّة، وبُنِيَت جدران داخليّة لتحجب معمار المحطّة الأصليّ. بالعودة إلى عنبتا، لا يوجد أيّ أثر لسكّة الحديد ولا للمحطّة، ما عدا شارعًا يُسَمّى «شارع السكّة»، وكذلك الأمر في إكتابا قضاء طولكرم.

 

الاختلاف بين الخطّين

من الواضح اختلاف حال خطّ الحمّة - حيفا عن حال الخطّ النازل جنوبًا من محطّة الفولة (العفّولة) عبر الضفّة الغربيّة، بحيث يتماهى الخطّان مع الوضع الجيوسياسيّ للمكان؛ فالخطّ الأوّل واضح المعالم بمحطّاته، ومساره يبدو الاهتمام به جليًّا، وتخصيص ميزانيّات لترميمه واستغلال مبانيه؛ إذ بالإمكان رؤية معمار المحطّات والتجوال حولها بسهولة، رغم أنّ بعضها غير موجود اليوم، كما تطغى على هذا المسار الصبغة الكولونياليّة، وآثار التهجير، والمحو، وإعادة كتابة التاريخ بوضوح. بينما يصعب الاكتشاف والتحديد والتجوال في المحطّات في الخطّ المتفرّع والمارّ في الضفّة الغربيّة نحو طولكرم ونابلس، فمباني المحطّات في حالة مزرية إن وُجِدَت، وهي مُهْمَلَة، أو آيلة للسقوط، أو تحوّلت إلى دكاكين وغيرها، حيث تبدو آثار رزوح الفلسطينيّين تحت الاحتلال في هذا المسار، وكذلك محاولاتهم في الصمود والاستمرار رغم قساوة الأوضاع المعيشيّة.

الاختلاف بين الخطّين يكشف ويعرّي الوضع القائم، ويرى برسكيان أنّ من غير الممكن المقارنة، بين المسار السابق للقطار، الّذي يتحكّم به بشكل مباشر نظام كولونياليّ احتلّ الأرض، وبين مسار القطار الّذي يقع ضمن مسؤوليّة شعب تحت الاحتلال؛ فهمّ المستعمِر اختراع التاريخ ومحاولة تثبيته، ولديه المقوّمات والقدرات والسلطة لترميم هذه الأماكن التاريخيّة وإعادة استخدامها بحسب أجندته، بينما همّ الفلسطينيّين وأولويّاتهم مختلفة في ظلّ نظام استعماريّ استبداديّ قمعيّ، أفقدهم مقوّماتهم وقدرتهم على التحكّم في مصيرهم ومكابدتهم للحصول على لقمة العيش.

 

جسر اليرموك الثاني | جاك برسكيان

 

ولعلّ محطّة طولكرم تلخّص الفرق بين الخطّين من خلال واقعها الحاليّ؛ فالمحطّة الّتي تؤدّي إليها السكّة المارّة بمدخل المدينة بمحاذاة مخيّم عين شمس، تقع خلف جدار الفصل العنصريّ، ضمن مستوطنة صناعيّة إسرائيليّة أُقيمَت على أراضي طولكرم الواقعة خلف الجدار، تُدْعى «نيتساني شالوم» (براعم السلام). ويورد برسكيان صورًا لمبنى المحطّة المُهْمَل المتهالك، المُطِلّ من فوق تلّة من القمامة. وفي حين يمكن البرعم أن يعطي ساقًا أو زهرة، إلّا أنّ «براعم السلام» هذه هي مفارقة ساخرة لمفهوم السلام لدى المستعمِر؛ فهي منطقة مصانع كيماويّات خطيرة، اختير موقعها بعناية؛ فعندما تهبّ الرياح القادمة من الغرب تحمل الهواء الملوّث والسامّ منها باتّجاه طولكرم والضفّة الغربيّة، وفي الوقت نفسه تشغّل المستوطنة الأيدي العاملة الفلسطينيّة الرخيصة، بحيث يعبر العمّال صباحًا عبر بوّابة عسكريّة أُقيمَتْ في الجدار للعمل في المصانع الإسرائيليّة، ويعودون أدراجهم مساءً.

مشروع برسكيان قطار يمرّ عبر محطّات التاريخ، ويذكّرنا أنّ الوطن ما زال يكمن في الحلم، حتّى لو كان حولنا.

 


إحالات

[1] جاك برسكيان، سكّة حديد الحجاز في فلسطين - رحلة صوريّة (كتاب غير منشور بعد، كان معروضًا في «القطّان»).

[2] مقابلة مع جاك برسكيان أجرتها رنا عناني، 25/09/2021، رام الله.

[3] أقيم خطّ من طولكرم إلى الخضيرة لاحقًا؛ من أجل نقل الأخشاب من أحراش الخضيرة لتزويد القطار الحجازيّ بالحطب، كما فرض على كلّ قرية تقديم نسبة معيّنة من الأخشاب لمحرّكات القطار؛ ممّا اضطرّ الفلّاحين إلى أن يقطعوا أشجار زيتون يعتاشون منها. وبعد تفريغ الأراضي المتاخمة للسكّة من الأشجار، زُرِعَت بمحصول السمسم السريع النموّ والاشتعال؛ لاستخدامه في تسيير القطار. يُنْظَر: جوني منصور، الخطّ الحديديّ الحجازيّ: تاريخ وتطوّر قطار درعا – حيفا، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2008.

[4] عام 1869، اشترت عائلة سرسق 20 قرية فلسطينيّة وأراضيها من العثمانيّين، الّذين كانوا يعانون ضائقة ماليّة، وأصبح أصحاب الأراضي الأصليّين، يعملون في أراضي آل سرسق، قبل أن تُباع الأراضي للمستوطنين اليهود ويُهَجَّر أهلها. ومن القرى الّتي بيعت في هذه الصفقة: جنحار، الفولة، خنيفس، أمّ التوت، تلّ الشمّام، تلّ الفرّ، تلّ العدس، معلول، سمّونة، كفرتا، جيدا، بيت لحم، أمّ العمد، طبعون، قصقص، الشيخ بريك، مسحة، ساريد، جباتا، الورقاني. وفي عام 1872 باعت الحكومة العثمانيّة قرًى أخرى هي المجدل، الحارثيّة، الياجور، الخريبة. يُنْظَر: جوني منصور، الخطّ الحديديّ الحجازيّ...؛ والموسوعة الفلسطينيّة.

 


 

رنا عناني

 

 

 

كاتبة وناقدة فلسطينيّة. مؤلّفة كتابي الأطفال "جداريّة الحلّاج العجيبة" و"صاروخ إلى الفضاء"، كما شاركت في تأليف "عمارة قرى الشوك" مع سعاد العامري.

 

 

التعليقات