18/07/2018 - 23:00

قوة أفريقية صاعدة... هل تسد أثيوبيا الفراغ؟

لطالما كانت شبه الجزيرة الصومالية موقعًا إستراتيجيا قيّم، نظرًا لطرق التجارة التي تمر عبر شواطئها. لكن الإقليم تملؤه التحديات، فبعضها يتعلق بزعزعة العالم العربي وتوازنات الصراع الجاري فيه وبعضها الآخر نتج عن انتشار "الفكر المتطرف" في المنطقة والدعم العسكري الأجنبي

قوة أفريقية صاعدة... هل تسد أثيوبيا الفراغ؟

مظاهرة تضامنية حاشدة مع الرئيس الأثيوبي عقب محاولة اغتياله في حزيران. ( أ ب)

ترجمة خاصة بتصرف لـ"عرب 48"


عندما ننظر إلى القوى المتصارعة حول السيطرة والتأثير على منطقة القرن الأفريقي (شبه الجزيرة الصومالية)، ستظهر لنا بعض الدول الأساسية مثل الولايات المتحدة وإيران والصين وروسيا وتركيا بالإضافة إلى بعض الدول الأوروبية، وما يُثير الدهشة حول هذه القائمة، إنها لا تشمل أية دولة أفريقية، لكن المؤشرات تفيد بأن ذلك قد يتغيّر قريبًا.

أجرت أثيوبيا عددًا من الخطوات السياسية والاقتصادية والإصلاحات في برنامج سياساتها الخارجية، بهدف إعادة تعريف دورها داخليًا وخارجيًا. وتعتبر هذه الخطوات بمثابة دلالة على أن أديس أبابا تتجه نحو زيادة تأثيرها ونفوذها المناطقي، بل من المحتمل أنها تؤسس للبروز كقوّة إقليمية. وقد تسمح لها وضعيتها الفريدة من نوعها، بلعب هذا الدور.

لدى أثيوبيا تاريخًا حافلًا بمقاومة التدخلات الأجنبية، بالإضافة إلى أنها حافظت على "حريّتها" من السيطرةالخارجية لفترات طويلة، بخلاف غالبية الدول المجاورة لها التي كانت مستعمرة من القوى الأوروبية المختلفة. ومع تصاعد القوى الأجنبية في المنطقة، تحتاج أثيوبيا اليوم إلى التعامل بشكل حازم أكثر، خصوصًا إن أرادت التنافس مع هذه القوى على النفوذ. 

مع ذلك، فإنها تواجه عدّة تحديات يجب أن تتخطاها في حال أرادت تطوير مشروع إقليمي يتخطى حدودها. سيعرض هذا المقال نبذة من تاريخ أثيوبيا الذي قادها لهذه الوضعية الخاصة في هذه اللحظة التاريخية، والشروط التي يجب أن تستوفيها للتأثير على الإقليم بشكل أكبر.

عصور العظمة

قد تبدو أثيوبيا للوهلة الأولى ضعيفة بالنسبة إلى القوى الخارجية المتعاظم شأنها في المنطقة، لكن تاريخيها يُشير إلى أن لديها القدرة لكي تكون أقوى مما هي عليه اليوم بكثير. حكمت أثيوبيا إمبراطوريتان شكلتا صورتها الحديثة. مملكة أسكوم والتي عُرفت سابقًا باسم الحبشة (100-940)، والإمبراطورية الأثيوبية (1270-1974).

ازدهرت مملكة الحبشة وتعاظم شأنها في المنطقة لعدّة عوامل أهمها المساحة الجغرافية الواسعة التي شملتها (نحو 1.25 مليون كيلومتر مربع)، وموقعها القريب من شبه الجزيرة العربية وعمق أفريقيا والأقاليم التي سيطر عليها الروم، مما جعلها ممرًا بحريًا تجاريًا أساسيًا. واستطاعت الحفاظ على عظمتها عبر استغلالها للتنوع الحضاري لسكانها من المجموعات العرقية المختلفة، وخلق التوازن بينهم.

واستحوذت الإمبراطورية الأثيوبية على مساحة أقل من سابقتها (مملكة الحبشة)، لكنها أثبتت قوتها في قدرتها الدائمة على صد الغزاة، منذ حربها ضد سلطنة عدل في القرن الخامس عشر مرورًا بحربها ضد الخديوي إسماعيل حاكم مصر في القرن التاسع عشر وانتهاء بدحرها للاستعمار الأوروبي، وبذلك تكون الدولة الأفريقية الثانية (بعد ليبريا)، التي لم يُقسمها الأوروبيون. ورغم اجتياح إيطاليا لها في ثلاثينيات القرن الماضي، إلّا أن القوّة الأوروبية التي كانت منشغلة بالحرب العالمية الثانية بقيادتها الفاشية انسحبت خلال بضعة سنوات منها. 

السلطة الفدرالية (الاتحادية) 

من الصعب تصديق أن أثيوبيا كانت قوّة إقليمية في الماضي البعيد والقريب أيضًا، لكن معرفة تاريخها هذا مهمة، كونه ساعد في بناء أثيوبيا اليوم. فالمنطقة الجغرافية التي تقع فيها، تُعد أكثر المناطق المأهولة بالسكان على مرّ العصور، وتقع حدودها الحالية ضمن مناطق نفوذ الإمبراطوريتين الماضيتين، ما يعني أنها تمكنت من الاحتفاظ بغالبية المجموعات الإثنية التي شكلت نسيجها في الماضي وحتى يومنا هذا. واستطاع هذا البلد الأفريقي الحفاظ على ثقافات الأعراق المختلفة على مدار قرون بسبب صدها للغزاة في معظم مراحل التاريخ.

واليوم، يفوق عدد سكان أثيوبيا 100 مليون نسمة وينتمي معظمهم للديانتين الإسلام والمسيحية. وتحتوي البلاد على 80 مجموعة عرقية مختلفة، أكبرها الأومو بنسبة 32% من مجمل تعداد السكان، ومن ثم الأمهارا بنسبة 28%، بالإضافة إلى عرقي التغراي والصومال بنسب متماثلة 6.5%، إضافة إلى 9 مجموعات عرقية مختلفة يصل تعداد كل منها نحو مليون شخص. 

وكما فعلت الإمبراطوريتان السابقتان، ما زالت تفعل الحكومات الحديثة المختلفة لأثيوبية حتى بعد الدكتاتورية العسكرية عام 1974، وهو الحفاظ على الاختلافات العرقية عبر وضع سلطة مركزية ومنع تمردها بالقوة. 

وبعد تفكيك النظام العسكري عام 1987، نشأ نظام فدرالي عرقي، لتتبنى أثيوبيا عام 1994 دستورًا جديدًا يُقسم الدولة إلى 9 ولايات ومدينتين مستقلتين استنادا إلى التركيبة العرقية اللغوية للسكان المحليين. وحكمت المنظومة بشكل غير عادل حتى تغيّر ذلك لاحقًا عقب مظاهرات عام 2016 التي نددت بتفرّد التيغاريين بالسلطة واحتكارهم لها، ليتسلم الرئاسة آبي أحمد، بعد بناء حكومة جديدة وقوية. 

لطالما كانت شبه الجزيرة الصومالية موقعًا إستراتيجيا قيّم، نظرًا لطرق التجارة التي تمر عبر شواطئها. لكن الإقليم تملؤه التحديات، فبعضها يتعلق بزعزعة العالم العربي وتوازنات الصراع الجاري فيه وبعضها الآخر نتج عن انتشار "الفكر المتطرف" في المنطقة والدعم العسكري الأجنبي (غير الأفريقي) في دول كجيبوتي والصومال والسودان.

ويتوجب على أثيوبيا اليوم، خصوصًا بعد استقرارها وتهدئتها لانتفاضة عام 2016، أن تُقرر ما إذا كانت تُريد الخوض في شؤون الدول المجاورة لها، أم التمركز في ذاتها. هذا التناقض حسمه آبي الشهر الماضي، عندما قال "على أثيوبيا استعادة مجدها الضائع" لافتًا إلى الإمبراطوريتين السابقتين.

شروط الهيمنة
 تحتاج أثيوبيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية لاستعادة قوتها الغابرة في الإقليم:

1- الاستقرار الداخلي:

تحاول الحكومة الأثيوبية الحالية السيطرة على شؤونها الداخلية منذ الاضطرابات عام 2016، فقد تعمدّت كخطوة أولية، تنصيب آبي رئيسًا للبلاد، فهو أول رئيس يخرج من الأومو، كما أن خلفيته الدينية مختلطة. ويبدو أن آبي  يحاول تأسيس حكومة فدرالية جديدة تستطيع تمثيل كل المجموعات العرقية في السلطة بشكل عادل. علاوة على ذلك، أعاد الرئيس الجديد فصائل المعارضة المنفية إلى البلاد، وأقال قيادات كانت تهيمن على مناطق متنازع عليها داخليًا.

وتعمل الحكومة على بناء هويّة جماعية ينتمي إليها المواطنون أكثر مما ينتمون لمجموعاتهم العرقية والدينية، عبر التركيز على التاريخ النضالي المشترك لجميع الأعراق في دحر الأعداء تحت الراية الأثيوبية الواحدة.

أما في الجانب الاقتصادي، فقد تضرر اقتصاد الدولة بعد تلقيه الكثير من الضربات خلال السنوات القليلة الماضية، إثر الاضطرابات والإدارة المالية السيئة والقحط الزراعي أيضًا. مما أجبر الحكومة الجديدة على التعامل مع عوائق جديّة كانخفاض قيمة عملتها والأزمات في السيولة، بالإضافة إلى اعتمادها الكبيرة على الاستيراد والديون المتصاعدة.

وتتطلب خطّة الحكومة للخروج من مستنقع الاقتصاد البائس، إجراء خصخصة جزئية أو شاملة للمؤسسات العامة، وخلق شراكات بين الشركات المحلية وبين شركات القطاع الخاص الأجنبية. وتكمن هذه الإجراءات ضمن تطلعات السلطة للبحث عن طُرق لزيادة التصدير تحفيزًا للنمو الاقتصادي ولتعزيز الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية.

2- تأمين الحدود:

وتبذل أثيوبيا جهدًا حثيثًا لحماية حدودها عبر تحسين علاقاتها مع الدول المجاورة لها، على أمل تخصيص الموارد الأساسية لمناطق أخرى وتوفير بيئة آمنة لعملية الإنماء الاقتصادي. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فبالإضافة إلى كونها حاربت بعضًا من هذه الدول في الماضي القريب، فإن النزاعات الأهلية في دول كالصومال وجنوب السودان، استطاعت الدخول بشكل جزئي داخل الحدود الأثيوبية.

ونجحت الحكومة مؤخرًا في عقد اتفاقية سلام مع أريتريا، وهي آخر الدول التي خاضت حربًا ضدها. وهذا من ِشأنه أن يعود بمنفعة كبيرة على أثيوبيا، حيث تستطيع "تحرير" موارد الجيش واستغلالها في قطاعات أخرى عبر إبطالها لخطر أمني بهذا الحجم، بالإضافة إلى أن السلام سيجلب معه الطمأنينة للمستثمرين الأجانب، وسيمكنها من استخدام الموانئ الأريتيرية. 

وأعلنت الحكومة في حزيران/ يونيو الماضي، أنها ستباشر بإنتاج النفط الخام لأول مرة في إقليم أوغادين، وهو عبارة عن منطقة تابعة للصومال بالأصل، إلّا أنها تخضع للسيطرة الأثيوبية (منطقة محتلة) منذ منتصف القرن الماضي، حتى أصبحت جزءًا منها بحسب المواثيق الدولية. وتُريد السلطات بناء خط أنابيب يمتد من الإقليم عبر جيبوتي لتصدير المحروقات. وستعزز أثيوبيا من قوات الأمن على الحدود مع الصومال بما أن المنطقة متنازع عليها تاريخيًا.

وتدفع أثيوبيا نحو سلام دائم في جنوب السودان الذي يُعاني من الحرب الأهلية المستمرة، لمنع تدفق اللاجئين إليها، خصوصًا بعد أن وصل عددهم إلى ما يزيد عن 450 ألف شخص في إقليم جامبلا.

3- المنافذ البحرية:

أثيوبيا دولة غير ساحلية، وإن أرادت الاندماج في التجارة العالمية فلا بد لها من إيجاد منفذ بحري. وقد تضعضعت قوتها الإقليمية منذ إعلان أريتريا الساحلية لاستقلالها عام 1991، مما أدى إلى زيادة تكاليف باهظة على التصدير وفقدان إمكانية تشييد أسطول بحري. ورغم أن فكرة امتلاك أثيوبيا لقوّة بحرية عسكرية تبدو ضربًا من الخيال إلّا أن رئيسها قد صرّح منذ مدّة أن ذلك أمر ضروري، خصوصًا إن أراد البلد الأفريقي حماية مصالحه في البحر الأحمر وخليج عدن. 

لكن أثيوبيا تصب اهتمامها في الوقت الحالي، على الاقتصاد. فنحو 95% من صادراتها تُشحن عبر البحر ويمر معظمها من موانئ جيبوتي. واعتمادها على تصدير بضائعها عبر دولة بهذا الحجم الصغير، يضعها في موقف ضعيف جدًا، بالإضافة إلى القلق من تعاظم القوة البحرية الأجنبية في جيبوتي، فرغم العلاقة القوية التي تربطها بالدولة الصغيرة إلّا أن دخول أجسام أخرى في المعادلة سيُشكل تهديدًا مباشرًا لها. 

وتسعى أثيوبيا في سبيل إغلاق هذه الثغرة "الأمنية"، للسيطرة على الموانئ في شبه الجزيرة الصومالية وعدم الاكتفاء باستخدامها كمنافذ بحرية. فمثلًا، توصلت إلى اتفاق مع جيبوتي في نيسان/ أبريل الماضي، تقوم بموجبه بمشاركة الأخيرة في أحد موانئها، وتمنحها بالمقابل، أسهمًا في الشركات الأثيوبية المملوكة للدولة. وعقدت اتفاقيات أخرى مشابهة من حيث المضمون مع كل من الصومال وكينيا، فهي تحتاج إلى ضمان المنافذ البحرية عن طريق شراكات تستطيع السيطرة أو الاعتماد عليها.

وتظهر خطوات آبي اقتصادية بحتة، لكن تباعًا لتصريحاته الأخيرة، وتاريخ بلاده المقاوم للقوى الخارجية في المنطقة، فإن إجراءاته تبدو أنها تؤسس للعب دور إقليمي، وتحدي التدخلات الأجنبية المتصاعدة في المنطقة.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف سنوات طويلة وربما عقود من الزمن، إذا نجحت أثيوبيا بذلك أصلًا.

مع ذلك، يخلو الإقليم في الوقت الحالي من دولة قيادية تستطيع حل بعض النزاعات التي "ابتلت" فيها جاراتها، وتحد من تأثير القوى الخارجية المتعاظم عليها. وهذا بالضبط ما فعلته أثيوبيا سابقًا، وما تحاول إعادة إحيائه/ تنشيطه حاليًا.

 

التعليقات