17/02/2019 - 23:20

"الشعبويةُ سرقت آمال الشعوب"

كما رأينا في تركيا والولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا، فإن الشعبويين اليمينيين يُعطّلون التفكير العقلاني ويحرضون الجماهير من خلال خلق حركات خاصة بهم، مُستفيدينَ من إثارة المعارضة لنكاتٍ مضطربة حول الزعماء المستبدين، ويفككون المؤسسات، وفي النهاية؛ يعيدون تشكيل بلدانهم

بنى بولسونارو حملته على خطاب يميني شعبوي (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف خاصّة بـ"عرب 48": 


هتف آلاف المصريين في ميدان التحرير بعبارة "عيش، كرامة وحرية"، في ذروة "الربيع العربي" عام 2011، وعندما وقفتُ لوحدي بين حشود المتظاهرين، تذكرت عاملا متوسط العمر التقيته في بوينس إيرس، قبل المظاهرة بـ10 سنوات، والذي أخبرني لماذا استولى هو وزملاؤه على أحد المصانع خلال الانهيار الاقتصادي في الأرجنتين، وذكر أسبابًا مثل الجوع والفقر وانعدام المساواة، لكن نبرة صوته اختلفت بشل ملحوظ عندما قال إن "رب العمل لم يقل صباح الخير لنا، ذلك يُدمر كرامتك كما تعلم".

الكرامة هي كلمة مُبهَمة، ومفهوم صعب للتوظيف في سياق عقد اجتماعي أو الفوز بالاندماج الاجتماعي كمطلب لحركة سياسية جديدة، ومع ذلك، فإنها أفضل كلمة تعكس أن كيفية النجاة من المصاعب الاقتصادية ليست الأمر الوحيد الذي يُغضب الفقراء، فالمعاملة السيئة التي يتلقونها أو السخرية التي يتعرضون لها، وحرمانهم من الإحساس بإنسانيتهم؛ يزيد من صعوبة تحمُّل عواقب الفقر اليوميّ.

لقد تعلمت ذلك من أم لأربعة أطفال، تعيش في عائلة أحادية الوالدين، في أفقر أحياء إسطنبول، على سفح تلة مُطلة على مضيق البوسفور. لم يبدُ عليها الغضب حين حدثتني عن خلود أطفالها إلى النوم جياعًا في بعض الليالي، لكنها كانت غاضبة عندما تذكرت سخرية مديرها في العمل من فقرها، حين قال: "لكن لديك إطلالة على البحر"، وهي الجملة التي دفعتها إلى الاستقالة بعد أن أجابته قائلة: "صحيح، فنحن نغمس الخبز في مياه البحر على وجبة العشاء!". لقد علمتني تعابير وجهها الفخورة، أن مذاق الدفاع عن الكرامة في بعض الأحيان، قد يكون أكثر حلاوة من الخبز نفسه، نعم، حتى عندما تكون جائعا.

ومنذ فترة ليست بالبعيدة، كان ميدان التحرير في القاهرة، ومنتزه غيزي في إسطنبول، وبويرتا دي سول في مدريد، وأماكن أخرى في العالم، مواقعَ استخدمتها الحركات الديمقراطية الراديكالية للتظاهُر وبعث الأمل في نفس الجموع التي أرادت صناعة السياسة من جديد، واستعادة كرامة الناس. وكانت النتيجة أن بعضهم تعرض للقمع الوحشي، فيما انخرط البعض الآخر في السياسة العالمية التقليدية.

والآن، يتظاهر ملايين الناس حول العالم مرّة أخرى، لكن المزاج العام ورسالة هذه التظاهرات اختلفت. فاليوم يُطالب هؤلاء باحترام "حقيقتهم" وخياراتهم السياسية التجزيئية (المُسببة للانقسام). وتم استبدال المعركة من أجل الكرامة بالإصرار العنيف على الاعتزاز بالأمة، أو بصيغة عينية من "الشعب".

وبين عبارتَيّ؛ "الكرامة" و"الكبرياء"، هناك بحر من الاختلافات، وتتجلى هذه الاختلافات في قلب السياسية العالمية والأزمة الأخلاقية التي تواجهنا اليوم، وتتأصل الكرامة في حاجة الإنسان الفطرية، وتتصل مباشرة في حُبهِ للبشرية. فيما يُمثّل الكبرياء مجرد واجهة خارجية، يُعبر عنها بالتوق إلى التعريف الإقصائي (للذات)، والإجابة عن مسألة "تفوُّق المجموعة"، وبالتالي فهي أداة تفريقية. لكن عندما تصل الجماهير إلى درجة عالية من اليأس، يُصبح من السهل على اللاعبين في السياسة، تقليل حاجة الإنسان للكرامة، وضخِّها في ضوضاء الكبرياء الانتقامية. وهذا ما يفعله اليمين الشعبوي.

إنه لَأَمر خطير ومؤسف أنّ هذا الغضب الشعبي الكبير يتم تنظيمه وتحريكه عبر شعبويين يمينيين وحكامٍ مستبدين مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وفيكتور أوربان في المجر، ورجب طيب إردوغان في تركيا، وجائير بولسونارو في البرازيل، الذين يتهمون الصحافيين والعلماء والمؤسسة السياسية القائمة، بكونهم سببا رئيسيا في سلب كرامة الناس (الشعب).

وينشأ هؤلاء القادة عادة في طبقات أصحاب الامتيازات، لكنهم يُقنِعون الناس بأنهم سوف يتغلبون على النُّخَب من أجل إعادة كرامة الناس المسلوبة، ولهذا نرى في تجمعات ترامب ومظاهرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجوه أولئك الذين يصارعون من أجل البقاء، مضيئة وكأنها تحوي طاقةً جديدة، فهم عبارة عن أرواح أعادت اكتشاف القدرة على قول "لا" للعالم الذي يخضع منذ عقود للشعار الرأسمالي الذي ذكرته رئيسة وزراء بريطانية السابقة عن الحزب المحافظ، مارغاريت تاتشر، "لا يوجد بديل" (للسوق الحرة).

وبرغم الفرضية الاقتصادية المهيمنة التي تُفيدُ بأن البشر يعملون بشكل أفضل عندما يكونون مدفوعين بالخوف من الخسارة المادية، والرغبة في الحصول على المزيد على الدوام، إلا أن روح الإنسان (وهي أغرب مادة على الكوكب) تحتاج أيضا إلى المعنى من أجل البقاء. والآن، حتى المتعصبين للرأسمالية، باتوا يعلمون (كما رأينا في مؤتمر دافوس الاقتصادي الأخير) أن الآليات الاقتصادية النيوليبرالية تعطلت، وأن مفهومها الرئيسيَّ ينهار، وأن القصة المنهارة لا يمكنها إنتاج أبطالٍ مُلهِمين.

وفي الوقت ذاته، يشعر الناس حول العالم، بالألم من انكسار كرامتهم، وبالغضب من خداعهم المستمر. لهذا ينتظرون بنفاذ صبر، أن تنشطهم علاجات أبسط من أن تكون حقيقية، للبحث عن أهداف واضحة لصبِّ غضبهم عليها، والأهم من ذلك، لأن يتمسكوا بآمال زائفة، ما يجعلهم على استعداد للَّحاق بأبطال جُدد يَعدوهُم بالعظمة. 

ويحقق لهم اتّباع "البطل" الذي يُذكرهم بقوتهم البشرية الأساسية، سعادة جوهرية جميلة إلى درجة تجعلهم على استعداد بالتضحية بأي شيء لفعل ذلك. إن الأمر يتعلق بجزء مُعقَّد بالروح البشرية، والذي وجهه النظام الاقتصادي (الرأسمالي) المهيمن منذ فترة طويلة، وتقوم هذه الحاجة البشرية الآن، بتهديد النظام الذي شكَّلها، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يُهدِّد التجارة الحرة، وتتناقض الحمائية التي يتبعها ترامب بالوصية الأولى للاقتصاد النيوليبرالي، وهي اقتصاد عدم التدخل.

لقد واجه القليل من القادة هذا الارتفاع بالقومية والعدائية تجاه المهاجرين، بشكل علني، وقلةٌ هم المستعدون للتحدث بشكل عملي حول احتمال وجود عالم أفضل، وقلة هم القادرون أن يقولوا إن هناك بديلا، وألا يعتمدوا على ضوضاء الكبرياء الانتقامية، بل على الكرامة الإنسانية السلمية. ولهذا السبب هناك الكثير من الحماس تجاه ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، نجمة اليسار الأميركي الجديدة، وأصغر امرأة تنتخب على الإطلاق لمجلس النواب. إنها صوت نادر، يعلم أن المعركة لا تتعلق فقط بعدم المساواة المادية.

وعندما كنت أشاهد شريط فيديو لأحد خطاباتها، استذكرت "الصفقة الأوروبية الجديدة" التي تمّ نشرها مؤخرا، وهي الوثيقة السياسية الوحيدة حتى الآن، لنموذج اقتصادي بديل للقارة العجوز. ويُظهر بيانها الذي وضعه وزير الديمقراطية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس في أوروبا، طموحات تشمل مفاهيمَ الديمقراطية والشفافية والتعددية، والكثير من الأمور غيرها التي لا يمكن لأي شخص عاقل معارضتها، لكنها لا تتحدث عن الروح البشرية أو كرامة الإنسان. وبالنسبة لمنظمة تتحدث عن تدويل المعارضة من خلال التكافل مع السيناتور الأميركي بيرني ساندرز، وتذكرنا أن عبارة "ليس هناك بديل"، ما هي إلا وهمٌ "مُصنَّع". أتساءل كمؤيد لهذه الحركة؛ أين الكلمات التي ستُضيء وجوه أولئك الذين يُصارعون من أجل البقاء؟

وكما رأينا في تركيا والولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا، فإن الشعبويين اليمينيين يُعطّلون التفكير العقلاني ويحرضون الجماهير من خلال خلق حركات خاصة بهم، مُستفيدينَ من إثارة المعارضة لنكاتٍ مضطربة حول الزعماء المستبدين، ويفككون المؤسسات، وفي النهاية؛ يعيدون تشكيل بلدانهم حتى يتمكنوا من الاستيلاء على موجات من الجنون السياسي. وهذه مسألة عالمية تحتاج إلى حل عالميّ، فإن حماية كرامة الإنسان من مُتاجَرَة الشعبويين الخطيرة بمفهوم "الكبرياء" -بينما يقومون بالسيطرة على النظام الاقتصادي العالمي المهيمن- ستتطلّبُ الكثير من التضامُن والتكافُل العالميّ.

التعليقات