19/04/2019 - 23:18

لا ربيع عربيًا حقيقيًا دون مصر

الظروف في الوطن العربي تولّد حاضنة أفضل لموجة ثانية من ربيع عربي أكثر من العام 2011، وإن كانت ثورة تونس الصغيرة قادت إلى ثورات أكبر في مصر وليبيا وسورية واليمن والبحرين، فما مآلات ثورتي الجزائر والسودان؟

 لا ربيع عربيًا حقيقيًا دون مصر

البشير والسيسي (رويترز)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب ٤٨" بتصرّف، لرئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، ديفيد هيرست:


خلال 48 ساعة مُبهرة في السودان، أطيح برئيسٍ  ووزيرِ دفاعٍ ومسؤولٍ أمنيّ.

حدث ذلك بعد أن كان عمر البشير يحظى بسلطة مُطلقة لثلاثة عقود في منصب الرئاسة، كما أن عوض بن عوف، وزير الدفاع الذي أعلن اعتقال البشير وسيطرة المجلس العسكري على البلاد لعامين متتاليين، قضى 24 ساعة فقط في منصبه.

أما صلاح قوش، الذي كنت قد كشفت في الماضي أنه أجرى محادثات مع رئيس جهاز الموساد، يوسي كوهين، في مؤتمر الأمن في ميونخ، في شباط/ فبراير الماضي، بعد أن "رشحه" السعوديون والإماراتيون والمصريون ليحكم السودان في المستقبل، سرعان ما تبع "زملاءه".

دروس مستفادة

حافظت انتفاضة السودانيّين على زخمها بشقّ الأنفس، فبخلاف ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 في مصر، لم تضع قناة "الجزيرة" ثقلها في الخطوط الأمامية لتغطية الأحداث، كما أن الدخول إلى الإنترنت حُظر منذ عدّة أشهر، وفرضت رقابة شديدة على الصحف، وغابت وسائل الإعلام الدولية عن المشهد.

من تظاهرات السودان (أ ب)
من تظاهرات السودان (أ ب)

ولهذه الأسباب، فإنّ السجلَّ الوحيد الموجود للمظاهرات الجماهيرية التي تجوب الشوارع منذ حوالي أربعة أشهر، التقط بواسطة الهواتف المحمولة للناشطين. ولعبت النساء دورًا رائدًا في الاحتجاجات.

ومن المقرر أن يستمر الاعتصام خارج وزارة الدفاع في الخرطوم حتى يتم تشكيل مجلس انتقالي مدني، فقليلون هم من يثقون بالوجوه الجديدة في الجيش المُستمر في هيمنته على السلطة.

وحتى اللحظة، يبدو أن المتظاهرين السودانيين، تعلموا دروسا من فشل الثورة المصرية عام 2011، فقد توقفوا عن الهتاف "الجيش والشعب يد واحدة"، لأن الشعار غير صحيح في غالبية الأحيان.

ولا يثق السودانيّون بشخصيات الجيش المرموقة لإنشاء نظام جديد، ولا في أي أحد من رموز النظام الحالي، وذلك بالضبط ما ينبغي عليهم فعله. كما أنهم لا ينتظرون الدعم أو المساعدة من الخارج، مدركين بذلك أنهم لوحدهم في هذا المعترك.

من الواضح، أيضًا، أن هناك إرادةً مشابهة لدى المتظاهرين في الجزائر، هو عدم الانحراف عن المسار الصحيح. فلا يزال مئات الآلاف من المحتجين يطالبون بمقاضاة رموز "لو بوفوار" (السلطة بالفرنسية)، ولا يثقون في الرئيس المؤقت، عبد القادر بن صالح، رئيس المجلس الأعلى، لتسليمهم السلطة.

ومن المقرّر أن يمكث بن صالح في السلطة حتى الانتخابات المزمع إجراؤها في الرابع من تموز/ يوليو المقبل، كما تحول قائد الجيش، اللواء أحمد القايد صالح، بين عشية وضحاها، من موال لبوتفليقة على مدار 15 عاما، إلى رجل يزعم أنه سيضمن "الشفافية والنزاهة" في الانتخابات المقبلة.

لكن اعتقال السلطات لـ180 شخصًا يوم الجمعة الماضي، بعد اشتباكات مع من وصفتهم بـ"المندسين"، أثبت عكس ذلك.

ومع ذلك، فيبدو أن المتظاهرين في السودان والجزائر، تعلموا دروسا مهمة من أولى موجات "الربيع العربي" عام 2011.

استعادة الربيع العربي

أولا: لم "يمت" الربيع العربي، لا في مصر، عندما ذُبح أكثر من ألف شخص في يوم واحد في ميدان رابعة العدوية في القاهرة في آب/ أغسطس 2013، ولا في الحرب الأهلية السورية، التي بدأت، كما يجب تذكرها دائما، بتظاهرات سلمية في درعا.

وبقيت جمرات الثورة الشعبية مشتعلة برغم تدفق الأموال الخليجية الهائل من أجل قمعها، ورغم وصم المتظاهرين بـ"الإرهابيين"، والاعتقالات الجماعية والقتل في السجون بعد التعذيب والمعاناة الشديدة.

السيسي في برلمان التمديد له (أ ب)
السيسي في برلمان التمديد له (أ ب)

لماذا يحدث ذلك؟ لأنه، بالنسبة للشباب، تكثفت الأسباب التي تدفعهم لأن يثوروا، والتي تتلخص بالبطالة والفساد والقمع.

ثانيا: لم يعد المتظاهرون يعيرون أي أهمية لأولئك الذين يخبروهم بأنهم "غير جاهزين" للديمقراطية، وأنه في حال عدم قبولهم للفتات الذي تمنحهم إياه الأنظمة، فإن مصير بلادهم سوف يكون مثل سورية أو اليمن أو ليبيا.

ويواصل هؤلاء الهتاف من أجل الحرية السياسية بالطريقة نفسها التي انتهجها إخوانهم وأخواتهم في ميدان التحرير، فهم لا زالوا في مرحلة الشباب، ما يعني أنهم غير خائفين ولن يتم خداعهم بشعارات داعمة مزيفة.

ثالثا، لا تزال الثورة الشعبية تحافظ على ذات النفس "المُعدي" والعابر للحدود كما كانت عليه قبل ثمانية أعوام، فبعد نجاح تونس الصغيرة في خلق شرارة أشعلت ثورة أكبر بكثير في مصر، فما الذي ستؤدي إليه الأحداث في السودان والجزائر؟

عادت حليمة لعادتها القديمة

لا يبدو أن مستبدّي الثورات المضادة الذين تمكّنوا من السيطرة على مقاليد السلطة عام 2013 أو ما بعده، تعلموا الدروس ذاتها، فقد صوتت اللجنة التشريعية للبرلمان المصري، التي يهيمن عليها أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي، يوم الثلاثاء الماضي، لصالح تمديد ولاية الديكتاتور الحالية لعامين آخرين، والسماح له بالترشح لفترة ولاية أخرى مدتها ست سنوات.

وقد يُصاغ دستور جديد يسمح للسيسي بتمديد ولايته إلى ما بعد 2030.

ويثير احتمال بقاء السيسي في السلطة لعقدين قادمين، غضب معظم المصريين، وإذا ما استطاع المصريون التعبير عن آرائهم دون الخوف من التعرض للاعتقال أو الإخفاء القسري أو القتل، فسيكونون ضده بأغلبية ساحقة.

ووقّع أكثر من 250 ألف شخص على عريضة بعنوان "باطل"، على الرغم من الجهود الهائلة التي بذلها مزوّدو خدمات الإنترنت في مصر والسودان لحجب الموقع.

واكتشفت "نيت بولكس"، وهي مجموعة من منظمات المجتمع المدني تعنى بحرية الإنترنت، أن مزودي خدمة الإنترنت في مصر منعوا الوصول إلى ما يقدر بنحو 34 ألف موقع إنترنت للقضاء على حملة المعارضة ضد التعديلات الدستورية.

وتسببت هذه المحاولات لحظر الصوت السياسي البديل، بأضرار جانبية هائلة. فقد قالت المجموعة إن "المواقع الإلكترونية والمجالات الفرعية التي يتعذر الوصول إليها عن طريق 'المصرية للاتصالات'، و'راية' ، و'فودافون'، و'أورانج'، شملت شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا، ومواقع للمساعدة الذاتية، وصفحات المشاهير الرئيسية، وعشرات المشاريع التكنولوجية مفتوحة المصدر، فضلًا عن المواقع البهائية، ومجموعات حركات دينية يهودية وإسلامية ومنظمات غير الحكومية".

ويتصرف نظام السيسي كأرنب صغير خائف.

وأطلقت موقع الحملة الإلكترونية المعارضة، شخصيات كثيرة، من بينها وزيران سابقان في حكومة محمد مرسي، وممثلان مصريان هلّلا لإطاحة السيسي بمرسي عام 2013.

وتدرك جميع الأحزاب والحركات السياسية المصرية، تقريبا، اليوم، أنه لا يمكن لمصر أن تستمر على هذا النحو، سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين أو ما بينهم.

القوة المطلقة

في هذه الأثناء، يواصل الجنرال خليفة حفتر، الشخصية الموازية للسيسي في ليبيا، هجومه العسكري على طرابلس الذي قتل حتى الآن 205 شخصا وجرح 913، ضمن محاولاته لإحكام سيطرته.

وحول هذا الهجوم، فإن الصورة التي جمعت الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالقائد العسكري الميداني المعين ذاتيا، حفتر، أثناء لقائهما في الخامس من نيسان/ أبريل الجاري، أي قبل بدء الهجوم مباشرة، تفسر كل شيء.

حفتر والأمين العام للأمم المتحدة (صورة رسمية)
حفتر والأمين العام للأمم المتحدة (صورة رسمية)

وأُجلس الرجل الأكثر أهمية بينهما على كرسي جانبي، أقصر بقليل من الذي كان يجلس عليه حفتر، وعُلقت على الحائط من وراء الأخير، صور زخرفية لطائر ذهبي ضخم. فهكذا يتوهم حفتر نفسه حاكمًا لليبيا، وأنه يسيطر عليها ويديرها، لذا فإنها ملكه.

وكان الضوء الأخضر الوحيد الذي يهمه، قبل أن يقطع المحادثات مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي، فايز السراج، وشن هجومه غير المبرر على طرابلس، "الموافقة" التي حصل عليها من السعودية.

ويجسد حفتر في شخصه الدكتاتور العسكري معمر القذافي، الرمز الذي ثار عليه الليبيون سابقا وتخلصوا منه. وكما قال جمال محمود، أحد سكان منطقة طريق المطار في طرابلس، لـ"ميدل إيست آي"، فإن "ليبيا لن تصبح مصر أخرى... لقد فقدنا الكثير بالفعل، وضحى الكثير من شبابنا بحياتهم للتخلص من زعيم طاغية، ولن تذهب أرواحهم هباء من أجل مجيء دكتاتور آخر يحل محل القذافي".

وانقسم المجتمع الدولي (إذا كان لهذه العبارة أي معنى)، حول موقفه من حفتر، فقد ساعدته القوات الخاصة الفرنسية في القضاء على مجموعات إسلامية متنوعة في بنغازي. كما تنتظر شركة النفط الفرنسية العملاقة ("توتال") سيطرة حفتر على طرابلس بفارغ صبر. أما إيطاليا، فتدعم طرابلس، على الأقل حتى الآن.

وإذا من نجح حفتر في مسعاه، فإن ذلك سيعني أمرا واحدا، العودة إلى الأيام التي قام فيها الليبيون في جميع أنحاء المدن الساحلية، بكل ما في وسعهم للإطاحة بمثله.

الغاية... والوسيلة

لا تعني الاستنتاجات السابقة، سواءً إن كانت حول أحداث السودان والجزائر، أنها نتائج حتمية، ويجب رؤية موجة ثانية من الربيع العربي من أجل الإيمان بها، فهناك الكثير من العقبات في طريقها.

ويجب أن يدرك الشارع السوداني أنه لا يمكن استبعاد أي حزب أو تيار سياسي في العملية الانتقالية، علمانيا كان أم إسلاميا. ومن غير الواضح إذا استوعب تحالف "الحرية والتغيير" السوداني الذي يدعو حاليًا إلى حكومة مدنية انتقالية والتي ستحكم بدون انتخابات لمدة أربع سنوات، هذه النقطة.

 

إن أحد زعماء أحزاب المعارضة و"تجمع النقابات المهنية" السوداني، هو محمد مختار الخطيب، وهو شيوعي يبلغ من العمر 77 عامًا، أما الآخر، فهو زعيم حزب "البعث" السوداني، علي السنهوري، والذي ولا يزال من مؤيدي الزعيم العراقي الراحل، صدام حسين. ولكل منهما تاريخه الحافل وعدّته التي يعتدّ بها.

من تظاهرات الجزائر (أ ب)
من تظاهرات الجزائر (أ ب)

ليس للديكتاتوريين أيّة أيديولوجية سوى الحفاظ على أنفسهم في السلطة. صدام حسين وبشار الأسد بعثيان، كما أن البشير إسلامي وخلق انشقاقات كثيرة في الحركة.

ويرى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، نفسه عرابا لما يُطلق عليه اسم "الإسلام المعتدل". ولقد أثبت السيسي أنه القائد الأشد قسوة في تاريخ مصر الحديث، حيث تفوق على استبداد حسني مبارك، باسم "الاستقرار".

ليس هناك أي معنى لهذه التوصيفات والمسميات التي يدعيها هؤلاء الزعماء، إذا كانت نتيجتها الحتمية، إرساء الاستبداد الوحشي. ولا يُمكن ضمان عدم اختطاف الجنرالات المترقبين لانتفاضات الشعوب، إلا عبر المصالحة وإدماج جميع التيارات في العملية السياسية الجديدة.

إلى مصرَ العيون شاخصة

إن نجاح الموجة الجديدة من الربيع العربي مرهون بمصر، فرغم حجم وأهمية كل من السودان والجزائر، إلا أن مصر تعد الامتحان الحقيقي للثورات في الشرق الأوسط.

ومع تهاوي الاقتصاد نحو الفشل، وتقلص الطبقة الوسطى المستمر، وانحدار 30 في المئة من السكان للعيش تحت خط الفقر، فإن مصر تتعرض للسحق تحت وطأة سوء إدارتها. وسُخّرت ثلث الميزانية العامة لدفع الديون. 

يُمكن للدكتاتوريين أن يقتلوا (كما يحلو لهم)، لكن عدم قدرتهم على الحكم بات ظاهرا. فتعيش الدول العربية الحديثة التي لم تمزقها الحروب الأهلية، حالة من الأزمات الدائمة، خاصة لأن حكامها لا يستطيعون احتواء الرفض الشعبي الذي أطلقه حكمهم السيئ.

وأصبحت مصر أكثر عرضة لانتفاضات شعبية مما كانت عليه عام 2011، على كافة الأصعدة، وبما أن موجة الربيع العربي الأولى سُحقت في مصر أولا، فإن الدكتاتورية التي لحقتها ستكون أول من تندثر، أيضًا.

وبمجرد حدوث ذلك، سيكون ذلك مؤشر على اندثار أي سلطة عربية أخرى تسعى إلى حرمان سكانها من حقوق الإنسان الأساسية.

التعليقات