04/07/2019 - 23:24

ألمانيا تعاني من وباء نازي جديد

ورغم أن مقتل لوبك يمثّل علامة فارقة في موضوع الإرهاب اليمين المتطرف في ألمانيا، فقد شهدت ألمانيا هجمات مماثلة في الأعوام الماضية، ونقلت وكالة الأنباء الألمانية، مؤخّرًا، أن ما يُقارب الثلاث جرائم ذات دوافع سياسية، تُرتكب ضد سياسيين يوميًّا.

ألمانيا تعاني من وباء نازي جديد

مظاهرة ضد إرهاب اليمين المتطرف في ألمانيا (أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب ٤٨"، بتصرُّف عن الكاتب والمترجم والمحرر بيتر كوراس:


عندما عُثر على جثّة السياسي الألماني، وولتر لوبيك، مقتولا بفعل رصاصة في الرأس أمام منزله بالقرب من مدينة كاسل في الثاني من حزيران/ يونيو الماضي، سارع المعلقون على الجريمة، إلى التأكيد على أن الجناة ينتمون إلى اليمين المتطرف على الأرجح. وحتى الشرطة بدت أنها غير متحمسة في دعواتها لضبط النفس في إطلاق الأحكام والفرضيات حول دوافع الجريمة، كما أنه سرعان ما اختفى الاشتباه الوجيز بأن القاتل كان شخصا مقربا من الضحية؛ وقد كان الإجماع في الرد الرسميّ صريحًا بشكل مثير للإعجاب، إلّا أنّه كان بمثابة اعتراف وطني بإهمال ظاهرة صعود إرهاب اليمين المتطرف.

وكان لوبك، العضو في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (يمين وسط)، يشغل منصب رئيس مقاطعة كاسل منذ العام 2009 حتى مقتله الشهر الماضي، وقد امتاز بكونه شخصية ذات أهمية إقليمية. وأثبت الثناء الذي منحته إياه الصحف المحلية، أنه كان محبوبا وحظي بعلاقات جيّدة مع ناخبيه.

السياسي المُغتال، والتر لوبك (أ ب)

لكنّه تحول في العام 2015، إلى الهدف المفضّل لليمين المتطرف على امتداد ألمانيا، بعدما صرح في لقاء عام أجراه في مدينة لوفيلدن الألمانية الغربية للحديث عن التخطيط لتشييد مخيم للّاجئين في خضم "أزمة اللاجئين" في أوروبا، بأن ألمانيا هي "دولة أُقيمت على التعاليم المسيحية، ومن المرحب بأي شخص يُعارض هذا الأمر، أن يُغادر الدولة متى شاء، فكل ألماني بتمتع بهذه الحرية" موجّهًا كلامه لمعارضي الخطة.

ولم يلبث لوبك أن أنهى خطابه حتى وصلته أكثر من 350 رسالة بريد إلكتروني، تتضمن تهديدات عديدة بالقتل، ووُضع تحت حماية الشرطة. إلا أن اليمينيين المتطرفين عملوا على ضمان بقاء وانتشار الغضب من تصريحاته؛ وقال الكاتب الألماني من أصول تركية، عاكف بيرنتشي، بعد بضعة أيام من خُطبة لوبك، إن الأخير اقترح مغادرة الألمان العرقيين، لأن عصر معسكرات الإبادة انتهى، ملمّحًا بذلك إلى أن لوبيك "يعتبر" إعدام جميع خصومه السياسيين، الحل الأمثل للخصام السياسي، وذلك في اجتماع حاشد لليمين المتطرف.

وضمن بيرنتشي في خطابه، تفشي الاشمئزاز من لوبيك في دوائر اليمين المتطرف. وشاركت إريكا شتاينباخ، وهي سياسية كانت تعمل سابقًا في الجناح اليميني لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، مقطع الفيديو الذي يوثق خطاب لوبك، أمام أتباعها البالغ عددهم 120 ألف متابع على مواقع التواصل الاجتماعي ثلاث مرات، في شباط/ فبراير الماضي، بينما كانت مواقع اليمين المتطرف، تكتب أخبارا تحريضية على لوبك بانتظام.

لذلك لم يُفاجأ أحد عندما كشفت الأنباء أن المشتبه به في جريمة قتل لوبك، ستيفان إرنست، كان يملك تاريخًا من العنف العنصري وتجمعه علاقات وطيدة مع جماعات اليمين المتطرف؛ وأثارت جريمة القتل إدانة واسعة النطاق لتصاعد إرهاب اليمين في ألمانيا. حتى انبرى القادة التقليديون المحافظون مثل وزير الداخلية هورست سيهوفر، بالقول إنهم بحاجة إلى زيادة الجهود لمحاربة اليمين المتطرف والوعد بتكريس مزيد من الموارد لضبط الإرهابيين اليمينيين؛ لكن النقاد يقولون إن الدولة الألمانية لها تاريخ طويل في تجاهل الإرهاب الرجعي.

وادّعى أستاذ الصحافة بجامعة جوهانس جوتنبرج في ماينز، ومؤلف كتاب "الإرهاب اليميني في ألمانيا" الحاصل على جوائز عدّة، تانجيف شولتز، أن التصّور الألماني النمطي للإرهاب يميل إلى ربطه باليسار؛ إذ لا تزال ذكريات جماعة الجيش الأحمر وسلسلة الاغتيالات السياسية التي ارتكبتها القرن الماضي، غالبة على عقول العديد من الألمان، بينما حُذفت الهجمات الإرهابية الفاشية الجديدة من الوعي الجمعيّ الألماني إلى حد كبير، مثل تفجير "حديقة البيرة" في ميونيخ عام 1980.

اعتقال أحد المشتبه بهم بالانتنظام في حركة يمينة متطرفة إرهابية (أ ف ب)

وقال شولتز إن تناسي السلطات للإرهاب اليميني هو أحد الأسباب التي جعلتها تستغرق وقتا طويلا للاعتراف بأن جرائم القتل العشر التي ارتكبتها حركة "الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض" اليمينية المتطرفة، والتي بدأت عام 2000، كانت بمثابة هجومات منظمة إرهابية. بل وكما وثّق الصحافي جاكوب كوشنر في صحيفة "فورين بوليسي"، حاولت السلطات إلى حد كبير حصر التحقيق في الأعضاء الأساسيين الثلاثة للمجموعة، وهم أوي موندلوس، وأوي بونهاردت، وبيت زيشيب، على الرغم من وجود أدلة قوية تثبت تلقيهم دعم هائل من متطرفين يمينيّين آخرين، كما أنه كانت هناك بعض المؤشرات على أن جزءًا من هذا الدعم قد يكون جاء من داخل الحكومة.

ورغم تعهّد وزير الداخلية الألماني الحالي، بتكريس المزيد من الموارد لمكافحة الإرهاب اليميني، إلا أن شكوكًا واسعة النطاق قد نمت حول ما إذا كانت السلطات ستفي بوعودها. وازداد الانطباع العامّ هذا، بعد أن كشفت تحقيقات منفصلة مؤخّرًا عن شبكات يمينية داخل قوات الشرطة الألمانية: ففي كانون الثاني/ ديسمبر 2018، كشف تحقيق في قوة شرطة فرانكفورت عن مجموعة دردشة أنشأها عناصر من الشرطة، يستخدمون الرموز النازية أثناء التراسل الجماعي في ما بينهم بانتظام. وفي 26 حزيران/ يونيو الماضي، فتشت الشرطة شقة أحد أعضاء مجموعة الدردشة، الذي اتُهم بإرسال فاكسات عنصرية إلى أحد المحامين الذين مثّلوا إحدى ضحايا "الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض"، وكانت إحدى هذه الرسائل تتضمن تهديدًا واضحًا بقتل طفلة المحامي.

وبعد مرور يومين على ذلك، وتحديدا في 28 حزيران/ يونيو الماضي، كشفت وسائل إعلامية أن منظمة تطلق على نفسها اسم "نودركروز"، قد استخدمت سجلّات الشّرطة لتجميع "لائحة قتل" لنحو 25 ألف سياسي ليبراليّ أو يحمل مبادئَ يساريةً، كما قامت بتخزين الأسلحة، وأكياس الجثث، وأكسيد الكالسيوم الذي يُعجّل من عملية تحلل الجثث.

كما أن هناك أملًا ضعيفًا في أن تتدخل السلطات الفيدرالية بالقضايا التي فشلت السلطات المحلية بالتعامل معها، لأن المكتب الاتحادي لحماية الدستور، وهو إحدى الهيئات الاستخباراتية الألمانية الأعلى في البلاد، اتُهم في العديد من الحالات، بالتواطؤ في نشاطات يمينية عنصرية. ويظهر هذا انحياز هذه الهيئة لليمين، بشكل هائل، في القصة التي وثقها الصحافي كوشنر في "فورين بوليسي"، حيث أظهرت الوثائق فشل المكتب في استخدام المخبرين الأمثل خلال التحقيق في جرائم "الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض". وفي الآونة الأخيرة، واجه الرئيس السابق للجهاز الاستخباراتي، هانز جورج ماسن، انتقادات لادعاءاته التي لا أساس لها بأن أشرطة الفيديو عن العنف اليميني خلال أعمال شغب في آب/ أغسطس عام 2018 في شيمنيتز قد تم التلاعب بها.

ورغم أن مقتل لوبك يمثّل علامة فارقة في موضوع الإرهاب اليمين المتطرف في ألمانيا، فقد انتشرت هجمات مماثلة على مدار الأعوام القليلة الماضية، ففي عامي 2015 و2017، على التوالي، تعرّضت رئيسة بلدية كولونيا، هينرييت ريكر، وعمدة مدينة ألتينا الغربية، أندرياس هولشتاين، للطعن في هجمات ذات طابع سياسي. وبينما أُصيبت ريكر بجروح بالغة، وكذلك العديد من مرافقيها. أُصيب هولشتاين بجراح طفيفة بعد أن قام موظفو المطعم التركي الذي كان يتناول الطعام فيه، بنزع سلاح الجاني. وقال عمدة لايبزيغ، بورخارد يونغ، لوكالة الأنباء الألمانية "دي بي إيه"، مؤخّرًا، إن ما يُقارب الثلاث جرائم ذات دوافع سياسية، تُرتكب يوميًّا ضد سياسيّين في ألمانيا، مشدّدًا على أنّ السياسيين المحليين هم الأكثر تعرضًا للخطر.

ومن الصعب التّغاضي عن استنتاج مفاده أن الدولة الألمانية تواجه منذ فترة طويلة صعوبات في ردع العنف اليميني والقبض على مرتكبيه، نتيجة للتعاطف الجوهري مع قضايا الفاشية الجديدة داخل الحكومة الألمانية. لكن الوضع أكثر تعقيدًا من ذلك، فانتشار هياكل المنظمات اليمينية في ألمانيا، يصعّب عملية التمييز بين الإرهابيين الذين يقومون بأعمال فردية، وبين أولئك المنتظمين في مؤامرات إجرامية، كما أنّ انتشار التعبير الغضب عبر الإنترنت يجعل من الصعب التمييز بين التهديدات الخطيرة والتخيلات الخطيرة. وعلى الرغم من أن بعض النشطاء يطالبون بقمع واسع النطاق لجميع أشكال النشاط اليميني، إلا أن آخرين يخشون من أن يؤدي ذلك إلى مضاعفة تطرف اليمينيين. واقترح أستاذ الصحافة شولتز عندما تحدثت معه، إطلاق سلسلة من برامج إعادة التأهيل التعليمية، كخطوة إيجابية أولى في المسار لنبذ التطرف اليميني، لكنه يخشى أن ينتهي الأمر بها إلى الوصول إلى شريحة خاطئة من المجتمع.

إذًا، سيتعين على حكومة المستشارة أنجيلا ميركل، أن تفعل شيئا أكثر جذرية من مجرد الزيادة البسيطة في موارد الشرطة إذا كانت ترغب في مكافحة صعود اليمين المتطرف بنجاعة، خاصّةً وأن هذه الظاهرة تهدّد بتمزّق حزبها السياسي، حزب الاتّحاد الدّيمقراطيّ المسيحيّ، أيضًا. فقد أُصيب الجناح اليميني في الحزب بإحباط شديد خلال الأعوام القليلة الماضية، من موقف زعيمته المتسامح أثناء أزمة اللاجئين، أما الآن، فقد أصبح الأعضاء الأكثر ليبرالية في الحزب مشغولين في اتهام نظرائهم المحافظين بالتواطؤ في وفاة لوبك. وقد أُهلك الحزب الوسطي الرئيسي الآخر في ألمانيا، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بسبب الإحباط المتزايد من استعداده للتنازل عن مطالب الاتّحاد الديمقراطي المسيحي داخل الائتلاف الحاكم في ألمانيا. وإذا ما أراد الاتّحاد الديمقراطيّ المسيحيّ أن يفلت من مصيره المحتوم بالانهيار، فسيتعين عليه القيام بأكثر من مجرد اجتثاث الشبكات المتطرفة: سيحتاج إلى إيجاد طريقة لإعادة توجيه قوى الغضب اليميني.

التعليقات