02/08/2019 - 23:50

اختراع المال: بين الابتكار والأزمة المتواصلة

القضايا الملحة في هذه الحالات، هي ذاتها التي شغلت جون لوو وشكلت طبيعة حياته المهنية، والتي تعود إلى أذهان الناس مرة أخرى اليوم: ما هو المال؟ من أين يستمد قيمته؟ من الذي يضمن قيمة الديون والائتمانات في نهائية المطاف؟

اختراع المال: بين الابتكار والأزمة المتواصلة

توضيحية (pixabay)

في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب 48"، بتصرُّف لمقال الكاتب والروائي والصحافي البريطاني، جون لانشيستر:


فوجئ الرحالة القادم من البندقية ماركو بولو عندما وصل إلى الصين، في الجزء الأخير من القرن الثالث عشر، برؤية العديد من العجائب، كالبارود والفحم والنظارات والخزف. إلا أن إحدى الابتكارات التي أدهشته بشكل خاص كانت النقود الورقية، وهي اختراع طوره الإمبراطور المغولي قوبلاي خان، حفيد المستعمر العظيم جنكيز خان. والتي أرساها الحفيد قوبلاي عام 1260. لم يكن بوسع بولو أن يصدق عينيه عندما رأى ما يفعله الإمبراطور، ووصفه على النحو التالي:

"إنه يصنع ماله بالطريقة التالية؛ يأمر خدمه بالتقاط لحاء شجرة معينة، وتحديدا شجرة التوت، والتي تُعد أوراقها غذاء لديدان القز، فهذه الأشجار كثيرة للغاية هنا لدرجة أن مناطق بأكملها مليئة بها؛ ويأخذون بعض اللحاء الأبيض الناعم أو الجلد الذي يقع بين خشب الشجرة والقشرة الخارجية السميكة، مما يجعلها تشبه صفائح من الورق، ولكن سوداء؛

تُقطع هذه الأوراق بعد تحضيرها إلى أجزاء مختلفة الأحجام. ويتم إصدار جميع هذه القطع من الورق مع قدر كبير من الهيبة والسلطة، كما لو كانت من الذهب الخالص أو الفضة؛ وتخط مجموعة متنوعة من المسؤولين، على كل قطعة منها، أسمائهم وأختامهم. وعندما يُجهز كل شيء على أكمل وجه، يقوم كبير الضباط المُنتدب من الخان، بتلطيخ الختم الذي أُوكل به إليه بالزنجفر، ويضعه على الورق بحيث يظل شكل الختم مطبوعًا عليه باللون الأحمر؛ ومن ثمل يُصبح المال أصليًا، وكل من يتجرأ على تزويره، يُعاقب بالموت".

وكانت النقطة الأخيرة هي الأكثر أهمية في صياغة هذا النوع من المال. وتكمن المشكلة في العديد من أشكال العملات الجديدة اليوم بأن الناس يترددون في تبنيها. أما بالنسبة لحفيد جنكيز خان، فإن الأمر لم يكن بهذه الصعوبة، فقد اتخذ التدابير اللازمة لضمان صحة عملته، وفي حال رفض الناس استخدامها، أي عدم قبولها كوسيلة للدفع، أو تفضيل استخدام الذهب أو الفضة أو النحاس أو قضبان الحديد أو اللؤلؤ أو الملح أو القطع النقدية أو أي من طرق الدفع القديمة السائدة في الصين، على استخدام عملة الخان، فإن ذلك كان يعني الإعدام، وهكذا حُلت هذه المسألة بالكامل.

وبالفعل، كان لماركو بولو الحق الكامل بالشعور بالدهشة، فأدوات التجارة والتمويل هي اختراعات، بقدر ما تكون عليه إبداعات الفن واكتشافات العلوم من كونها اختراعات، فجميعها تندرج تحت إطار ابتكارية مخيلة الإنسان. واعتُبرت النقود الورقية، المدعومة من سلطة الدولة، ابتكارا مذهلا أعاد تشكيل العالم. ومن الصعب أن نتذكر ذلك، فقد اعتدنا على الطرق التي ندفع بها فواتيرنا والتي نتلقى بها مردودا على عملنا، وتراقص الأرقام في أرصدة البنوك وبيانات بطاقات الائتمان الخاصة بنا، ولا نبدأ بالتساؤل حول ما الذي يجعل هذه الأرقام ذات قيمة تُذكر، إلا عندما تتأزم المنظومة.

الانهيار الاقتصادي عام 2008

أثارت أزمة الائتمان عام 2008 الذعر عندما بدأ الناس في جميع أنحاء النظام المالي، بالتساؤل عما إذا كانت الأرقام المسجلة في الميزانية العمومية تعني ما كان من المفترض أن تعنيه. وكرد فعل مباشر للأزمة، نشر ساتوشي ناكاموتو، أيا كان هو أو هي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2008، الوثيقة الأولى التي أوجزت فكرة العملة الرقمية، وتحديدا الـ"بيتكوين"، وهو شكل جديد من المال يعتمد على قوة التشفير.

ولم تتوقف رحلة البحث عن أنواع جديدة من المال عند ابتكار "بيتكوين"، فقد أعلن عملاق التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، في حزيران/ يونيو الماضي، عن نيّته إطلاق عملة "ليبرا" الرقمية، والتي من المفترض أن تكون عملة عالمية التي هُندست على طريقة "بيتكوين". وتكمن فكرة هذا النوع من المال، بأن قيمته ليست مستمدة من ترخيص أي دولة، بل من تركيبة رياضية ممتزجة بالترابط العالمي (الرقمي) وثقة المستخدمين بأكبر وسيلة تواصل اجتماعي على سطح الكوكب، أو هذه هي خطّة "فيسبوك" على الأقل.

كم هي آمنة؟ وكيف نعلم قيمة عملتي "ليبرا" و"بيتكوين"، أو إذا كان لهما أي قيمة أصلا؟

يدأب المبشرون بمنهج ناكاموتو، بتحويل هذه الأسئلة على الفور إلى سؤال أعمق، كيف نعلم ما هي قيمة النقود في محفظاتنا؟

إذن، فإن اللحظة الراهنة في الابتكارية المالية، تتشابه مع ما حصل في الماضي، عندما ابتُكر المال بالصيغة التي نفهمها اليوم، أي عملة ورقية مدعومة بضمان الدولة. وكانت الدولة القومية، هي بطلة السردية الأصلية. وفي جميع الروايات الجيّدة، يواجه البطل دوما، عقبات في طريقه إلى البطولة. وفي حالة الدولة القومية، فإن العقبة كانت كيفية تمويل رغبتها الدائمة بشن الحروب.

ونشأت المنظومة العصرية لمعالجة هذه المشكلة، في إنجلترا، خلال عهد الملك وليام، الهولندي البروتستانتي الذي استُقدم إلى عرش إنجلترا عام 1689 لاستبدال الملك جيمس الثاني، الكاثوليكي المرفوض. وكان وليام حاكما (كفؤا)، لكنه واجه حزمة كبيرة من المشاكل، أهمها النزاع الطويل مع ملك فرنسا لويس الرابع عشر. لتدخل كل من إنجلترا وفرنسا بعد ذلك بفترة قصيرة، بمرحلة جديدة من هذا النزاع، والذي يبدو اليوم كصراع دائم منذ قرون بين البلدين، لكن أُطلق على تلك الفترة عدّة أسماء، منها "حرب التسعة أعوام" أو "حرب الملك وليام".

وواجه الملكان المشكلة المعتادة في هذه الحرب؛ كيف يُمكن لبلادهما تحمّل تكلفتها؟

توصلت إدارة الملك وليام إلى حل عبقري، وهو اقتراض مبالغ ضخمة من المال، ومن ثم استخدام الضرائب لتسديد الفوائد مع مرور الوقت. وفي عام 1694، اقترضت الحكومة الإنجليزية، 1.2 مليون جنيه إسترليني، بمعدل فائدة تبلغ 8 بالمئة، والتي دُفعت عن طريق الضرائب على بضائع السفن، والبيرة، والأشخاص. وفي المقابل، سُمح للمانحين (المقرضين) بدمج أنفسهم في شركة أُطلق عليها اسم "بنك إنجلترا". وكان يحق للبنك الحصول على ودائع الذهب من العامة (وهو ابتكار بحد ذاته)، بهدف طبع "الأوراق النقدية" كإيصالات لهذه الودائع.

ومن ثُم أَقرضت هذه الودائع (الذهب)، للملك. وأصبحت هذه الأوراق النقدية، التي تضمنها الودائع، صالحة الاستخدام، تماما كما كانت عليه النقود الذهبية، وسرعان ما أصبحت عملة جديدة مقبولة على نطاق واسع. ولا زلنا نتعامل بهذه المنظومة حتى اليوم، وليس فقط في إنجلترا.

لكن التبني العام لهذا المشروع لم يثبت نجاحه طوال الوقت. وسرد الكاتب الأسكتلندي جيمس بوتشان، بعض المشاكل التي تخللت تلك العملية في كتابه "جون لوو: مغامر إسكتلندي في القرن الثامن عشر".

وبحسب الكتاب، فإن لوو الذي وُلد في إدنبرة لوالد كان يعمل في صياغة الذهب، تحول إلى مصرفي. فقد انتقل إلى لندن عام 1692، وراقب هناك خطّة الحكومة العجيبة، التي غطتها الديون طويلة الأمد والأوراق النقدية. وكانت إحدى أعظم تأثيرات الأوراق النقدية على منظومة التجارة، هي طريقة تحفيزها لعمليات الإقراض والاقتراض، وبالتالي، التجارة. وحظي لوو بفهم فطري للمال وحب المخاطرة، ومن المغري أن نتساءل عما كان سيحدث لو كان قد قدم خدماته للحكومة الإنجليزية، إلا أن مصيرا أخرا كان ينتظره في نيسان/ أبريل عام 1694، فقد قتل رجلا في مبارزة، أو شجار، حيث أن الفارق بينهما لم يكن واضحا في تلك الفترة، وقد كتب بوتشان في هذا الشأن: "لم تكن المبارزات في حينها، مسابقات العصور الوسطى، أو قضايا الشرف التي سادت في السنوات التي تلتها، والتي كانت محكومة لقواعد، ويتم فضها عند الشروق باستخدام المسدسات في إحدى الغابات الثلجية ". وأُرسل لوو إلى السجن في انتظار محاكمته بالشروع بالقتل. واستخدم علاقاته للخروج منه، كما فعل الأسرى المتنفذين في تلك القترة، وهرب إلى الخارج ليصبح خارجا عن القانون.

وأمضى لوو السنوات التي تلت تلك الحادثة، بالتجوال في أنحاء أوروبا، وتعلم القمار والتمويل، وكتب كُتيبا صغيرا عنونه بـ"النظر إلى المال والتجارة"، الذي تنبأ فيه، بنواحي كثيرة من النظريات الحديثة عن المال. وأصبح رجلا غنيا، قادرا على زيادة ثرائه طوال الوقت. واقتنى منزلا فاخرا في مدينة لاهاي الهولندية، وأجرى هناك معاينة دقيقة لكثير من المبادرات الهولندية في مجال المال، مثل تداول الخيرات والبيع المكشوف. ووصل إلى فرنسا عام 1713، فيما كانت تعاني من مشكلة كان هو الشخص الأنسب لمعالجتها.

أزمة أقوى ملوك أوروبا

لقد كان الملك لويس الرابع عشر، أقوى ملوك أوروبا في تلك الفترة، لكن حكومته كانت مشلولة بالديون. وأُضيفت تكاليف الحرب المعتادة إلى فاتورة القسائم السنوية الضخمة، أي دفعات الفائدة الأبدية، التي جاءت لتسوية القروض القديمة. فبحلول عام 1715، كان الملك يملك 165 مليون جنيه فرنسي، كأرباح من عائدات الضرائب والجمارك. وفي حساب سريع أجراه بوتشان في كتابه، فإن "الصرف على الجيش، والقصور، والمحاكم، والإدارة العامة، أبقى على 48 مليون جنيه فقط، من أجل تغطية دفعات الفائدة على الديون المتراكمة من قبل الملوك المرموقين الذين توفوا في الماضي". ولسوء حظ فرنسا، بلغت الفاتورة السنوية لهذه القسائم السنوية الضخمة، والمعاشات الأبدية لموظفي المكاتب الحكومية، 90 مليون جنيه فرنسي.

كما أن المملكة عانت من وجود سندات مالية معلقة تبلغ قيمتها 900 مليون جنيه فرنسي، خلفتها الحروب المختلفة؛ ولم يكن بمقدور الملك اقتراض أي أموال إضافية ما لم يدفع فائدة على تلك الأوراق، ويكلف ذلك خمسين مليونًا إضافيًا سنويًا. وبالتالي، فقد أفلست الحكومة الفرنسية.

وتوفي الملك لويس الرابع عشر في أيلول/ سبتمبر 1715، ليتسلم مسؤولية البلاد من بعده، قريبه دوق أورلين، كوصي على الملك الطفل، لويس الخامس عشر. واعتُبر الدوق ظاهرة بحد ذاته، وقد وصفه الفيلسوف الفرنسي، وصديقه المقرب، هنري دو سان سيمون، بأنه "وُلد مع الشعور بالملل. فلم يكن قادرا على العيش إلا في شكل من أشكال سيل التجارة، أو في قيادة الجيش، أو في إدارة إمداداته، أو في نيران شرارة الفسق". وبدأ الدوق بالإصغاء إلى نصائح وأفكار لوو، في مواجهته للأزمة المالية التي تواجهها الدولة الفرنسية، وكانت هذه الأفكار التي تُعتبر بشكل أو بآخر، الأساس التقليدي للسياسات النقدية التي نعرفها اليوم، إبداعية للغاية وفقًا لمعايير القرن الثامن عشر.

أفكار جون لوو الإبداعية

اقتنع لوو أن أهمية المال لا تكمن في قيمته المتوارثة، بل أنه زاد على ذلك بأنه لم يؤمن بأن المال له أي قيمة تاريخية أصلا، فقد كتب أن "المال ليس القيمة التي تُبادل البضائع على أساسها، بل القيمة التي يتم التبادل بها"، أي أن المال هو الوسيلة التي تُمكن الشخص من تبديل مجموعة من الأشياء بمجموعة أخرى من الأشياء. وبحسب لوو، فإن أساس المال، هو القدرة على دفع المال في جميع مناحي الاقتصاد، واستخدامه لتحفيز التجارة والأعمال.

وقادته فكرته هذه، إلى فكرة أخرى وهي إنشاء بنك وطني فرنسي جديد يحصل على الذهب والفضة من الجمهور ويعيره مرة أخرى على شكل نقود ورقية. كما أن البنك قبل الإيداعات على شكل الديون الحكومية، ليتيح للناس بطريقة ذكية، المطالبة بالقيمة الإجمالية للديون التي كانوا يتاجرون بها بخصومات كبيرة؛ وذلك يعني، أنه في حال امتلك الشخص ورقة تُثبت أن الملك مدان له بألف جنيه فرنسي، فكان بإمكانه الحصول على نحو 400 جنيه إسترليني فقط، لقاء بيعه في السوق المفتوحة، لكن في حال إيداعها في بنك لوو، فإنه سيحصل على القيمة الكاملة للدين، بأوراق مالية. وهذا يعني أن أصول البنك الورقية فاقت كمية الذهب الفعلية التي كانت لديه، بأضعاف. الأمر الذي حوله إلى نموذج أولي من "الاحتياطات البنكية الجزئية"، التي تُعد أمرا عاديا اليوم.

وامتلك بنك لوو، بحسب إحدى التقديرات، أوراقا مالية متداولة، بنحو أربعة أضعاف احتياطاته من الذهب والفضة. ويُعتبر هذا أمرا تقليديا في المعايير البنكية المعاصرة، فيلتزم البنك الأميركي الذي يمتلك أصولًا تقل قيمتها 124 مليون دولار بالحفاظ على احتياطي نقدي يبلغ 3 بالمئة من هذه القيمة فقط.

وكان لهذا النوع الجديد من الأوراق المالية، ميزة جذابة؛ فقد كانت مضمونة للتداول بوزن معيّن من الفضة، وبخلاف القطع النقدية، لم يكن بالإمكان صهرها أو تخفيض قيمتها. وبعد فترة وجيزة، كان الناس يتاجرون بالأوراق المالية بقيمة تفوق ما كانت تساويه بالفضة، وتسلم لوو منصب المراقب المالي العام، المسؤول عن الاقتصاد الفرنسي برمّته. كما أنه أقنع الحكومة بمنحه إمكانية احتكار التجارة مع المستوطنات الفرنسية (المستعمرات)، في أميركا الشمالية، ضمن شركة "مسيسيبي". وموّل شركته، بالطريقة ذاتها التي انتهجها بتمويل البنك، أي باستبدال إيداعات الجمهور بالأسهم.

ومن ثم استخدم قيمة هذه الأسهم، والتي تراوحت بين الـ500 جنيه والـ10 آلاف جنيه فرنسي، لشراء ديون الملك. واستُبدل الاقتصاد الفرنسي المعتمد على هذه الإيجارات والمعاشات والقسائم السنوية، بأكمله، بما أطلق عليه لوو "النظام المالي الجديد". وحُظر استخدام الذهب والفضة، وتحولت الأوراق المالية إلى عملة إلزامية، مدعومة بسلطة البنك فقط. وسُعرت الشركة في أوج نجاحها، بضعف الطاقة الإنتاجية الكاملة لفرنسا. كما يشير بوتشان، هذا هو أعلى تقييم حققته أي شركة على الإطلاق في أي مكان في العالم.

لكن الأمر انتهى بكارثة مدوية. فقد بدأ الناس فجأة، يتساءلون عمّا إذا كانت هذه الاستثمارات المُربحة تساوي ما يُفترض أنها تساويه بالفعل؛ ومن ثم ازداد القلق فيما بينهم، ليتحول إلى ذعر في المراحل التالية، الأمر الذي دفعهم إلى المطالبة باسترداد أموالهم، ليتفشى الشغب بعد ذلك نتيجة عدم تمكنهم من الحصول عليها. أُعيد استخدام الذهب والفضة كعملتين، وتم حل الشركة، وطُرد لوو من منصبه بعد أن أمضى 145 يوما فيه فقط. وفي عام 1720، هرب من البلاد مُحطما، وانتقل من بروكسل إلى كوبنهاغن إلى البندقية إلى لندن وعاد إلى البندقية، حيث توفي عام 1729.

وتُعد أعظم مفارقات حياة لوو، هي بأن أفكاره كانت صحيحة إلى حد كبير، بحسب وجهة النظر الحداثية. وجنت السفن التي جابت العالم نيابة عن شركته، أرباحا هائلة، وخلص المدقق الذي أوكلت له مهمة مراجعة دفاتر الشركة المالية، إلى أن الشركة امتلكت ملاءة مالية فائقة، وهو أمر غير مفاجئ نظرا إلى أن الأراضي التي امتلكتها في القارة الأميركية في حينه، باتت تُنتج تريليونات الدولارات من حيث القيمة الاقتصادية.

ونعيش اليوم، في نسخة من نظام جون لوو. فتصدر جميع دول العالم المتقدم، عبر بنكها المركزي، النقود الورقية، الذي يتلاعب بعرض الائتمان لصالح التجارة، ويستخدم "الاحتياطات البنكية الجزئية"، ويضم شركات مساهمة تدفع أرباحًا. وسادت جميع هذه الممارسات في فرنسا في وقت واحد إلى حد كبير، بسبب أفكار جون لوو.

أما خطأه الكبير والذي لم يكن هناك مفرا منه على الأرجح، هو استخفافه بتأثير التقلبات التي تسببت بها اختراعاته، وخاصة المخاطر الناجمة عن الائتمان الجامح. واقتصر ما خلفته فترة نجاحه الرائعة في فرنسا على تذكاريين فقط، الأول، أُنشئ عبر دوق بوربون، الذي صرف حصته في الشركة واستخدم الربح المفاجئ في بناء إسطبلات كبيرة في شانتيلي. أما إرثه الآخر، كان إرساء كلمة "المليونير"، التي صيغت لأول مرة في باريس لوصف المستفيدين الأوائل من مخطط لوو المبهر.

كيف أصبحت هذه الأفكار الجامحة، جزءًا من بنية التمويل والحكومة الحديثين؟ عبر الاختبار والخطأ

لم يكن ترسخ هذه الأفكار، نتاج لاكتشاف أشخاص أذكياء، فقد تطور النظام الاقتصادي الحديث بشكل تدريجي، وينطوي التطور على الابتكارات، والتكرار، والإخفاقات، والنهايات المسدودة. وفي مجال التمويل، فإنه يشمل أيضا، تخبطات وفزعا، وصدامات، لأنه، وكما قال جيمس غرانت في سيرة الصحافي المصرفي الفيكتوري، والتر بادجيت، "في المالية والاقتصاد، نواصل السير على الأشواك ذاتها".

وكان بادجيت يعلم علما يقينا عن هذه الأشواك، فقد نشأ في غربي إنجلترا، في عائلة واسعة النفوذ، تربطها علاقات متينة مع بنك محلي نجاح، "ستاكيز". وبعد ارتياده الجامعة في محاولة لأن يُصبح محاميا، انتقل إلى كلية الصحافة ومن ثم إلى العمل المصرفي، لتغطي المهنة الأخيرة تكاليف المهنة الأولى. وتزوج من ابنة مؤسس صحيفة "ذي إكونومسيت" عام 1843، جيمس ويلسون، ليصبح المحرر الثالث على السلم الهرمي في الصحيفة، وعاش حياة يُمكن وصفها للوهلة الأولى بالهادئة والخالية من الأحداث أو الابتكارات. إلا أن الاهتمام ببادجيت يأتي من كتاباته المدهشة والمبهرة، والمشبعة بالمفارقات، ولا سيما من عمليه الرئيسيين، ألا وهو "الدستور الإنجليزي" (1867)، الذي يلخص نظام المؤسسات السياسية في بريطانيا العظمى، غير المكتوب، وكتابه "شارع لومبارد" (1873)، الذي يشرح طريقة عمل البنوك.

وبقي هذان الكتابان مقروئين حتى اليوم، لكنهما كانا مصدر إلهام مهم للمجتهدين إلى أن قام الاقتصادي الأميركي بن برنانكي، بالتطرق إلى بادجيت باعتباره مؤثرا بالغ الأهمية في منهجية التفكير التي أدت إلى عملية إنقاذ البنوك بعد الانهيار الاقتصادي عام 2008. وذلك أحيى الاهتمام بأعمال بادجيت، ليدفع ذلك غرانت إلى كتابة كتاب "وولتر بادجيت: حياة وعصر أعظم الفيكتوريين".

وبالغ غرانت بوصفه بـ"الأعظم"، خصوصا أنه يشدد على أن بادجيت، الذي كان شخصا لا يخجل بكراهيته للنساء، وعنصريته، كان أيضا، منافقًا بارعًا. فقد أبدع بادجيت في اللعب على الحبلين، وتبديل مواقفه دون أن يقر بذلك أبدا.

وبمعنى من المعاني، كانت درجة النفاق العالية، وانعدام المبدأ التي اتسمت بها شخصية بادجيت، هي ما شكلت أعماله. فقد ارتكز عمله على الدستور الإنجليزي، على المفارقة، فقد جادل بأن لعظمة الملكية وظرفها، كانت هناك فاعلية مهمة، خصوصا لأن الملكية لم تحظ بقوة حقيقية. وبشكل مشابه، أسس بادجيت عمله على القطاع المصرفي، على الفارق بين المظهر الخارجي والحقائق، وتحديدا على الفجوة بين روح المتانة والاحترام الذي زرعته البنوك الفيكتورية بين الناس، والحقيقة الواضحة المتمثلة بأنها استمرت بالانهيار والتشظي. فقد شهدت البنوك أزمات ضخمة في الأعوام 1797 و1825 و1847 و1857، ونجمت جميعها عن المُسبب الأقدم والأبسط في تاريخ الإفلاس المالي؛ وهو إقراض المال لأُناس لا يستطيعون سداده.

وعلى المستوى النظري، كان جل تدوير المال في حقبة المصارف الفكتورية، مدعوما بإيداع الذهب. فالجنيه الإسترليني الواحد، كان مسنودا إلى 123.25 حبّة من الذهب. لكن ذلك لم يكن صحيحا في الممارسة، فقد كانت هناك مناسبات عدّة (وعادة ما تكون مرتبطة بتكاليف الحرب القديمة والكلاسيكية مع فرنسا)، أبطلت فيها الحكومة قابلية تحويل الأوراق النقدية إلى ذهب.

بالإضافة إلى ذلك، كان يُمكن للبنوك طباعة أموالها. ولم تمتلك في أحيان كثيرة، الذهب الكافي للحفاظ على قيمة أوراقها، عندما يصل العملاء إلى البنك مطالبين بالتحويل من الأوراق إلى الذهب. واعتُبرت هذه الظاهرة، أي عندما يُجفف البنك نتيجة لطلبات التحويل الهائلة، نتاجا مباشرا للاحتياطات البنكية الجزئية التي أنشأها جون لوو.

ومن المفترض أن تعمل المنظومة التي لا تحتفظ بها البنوك بالاحتياطات النقدية المكافئة لقروضها المستحقة، بشكل جيّد، إلا إذا قرر عدد كافي من الناس، بتحويل أموالهم إلى مكافئها المعدني (الذهب والفضة) في الآن ذاته. واستمرت هذه الظاهرة بالحدوث، للأسف، ما دفع البنوك باستمرار في الإفلاس.

وكانت القضايا الملحة في هذه الحالات، هي ذاتها التي شغلت جون لوو وشكلت طبيعة حياته المهنية، والتي تعود إلى أذهان الناس مرة أخرى اليوم: ما هو المال؟ من أين يستمد قيمته؟ من الذي يضمن قيمة الديون والائتمانات في نهائية المطاف؟

وأجاب بادجيت على جميع هذه الأسئلة، فقد آمن بأن المال الحقيقي هو الذهب، والذهب فقط، بينما ليست جميع أشكال العملات في المنظومة الاقتصادية، إلا محض صيغ مختلفة للائتمان، الذي كان لا غنى عنه لتسيير الاقتصاد بشكل فعّال، كما أنه ساعد بتحويل الكثيرين إلى أغنياء، ولكن في التحليل النهائي كان العملة القانونية الوحيدة، الذهب فقط. ووفقًا للتعريف الدقيق للمصطلح، المال الذي لا يمكن رفضه لتسوية الدين. وبما أن بادجيت أحب المفارقات، فهذه كانت إحداها؛ إن إجمالي الائتمان في النظام ضروري للاقتصاد، لكنه لم يكن المال الحقيقي، لأنه لم يكن الذهب، الذي وضع قيمة لكل شيء آخر.

إذن، أين كان الذهب؟

كان في بنك إنجلترا. وهو دور هذه الشركة الخاصة مُذ أُقيمت. لقد ظن بادجيت أن مسؤولية الحفاظ على الذهب، هي وظيفة بنك إنجلترا، لألا تضطر البنوك الصغيرة إلى فعل ذلك، والتي أخذت الودائع، ومنحت القروض، وأصدرت النقود الورقية. وفي هذه الحالة، عندما تتعرض هذه البنوك إلى مشاكل، فإن بنك إنجلترا يتدخل لإنقاذها.

لماذا لا يجب على البنوك الأخرى امتلاك الذهب الخاص بها والاعتناء بملاءته المالية؟

لقد قدم بادجيت تفسيرا في غاية الوضوح لهذه المسألة، حيث قال إن "المصدر الرئيسي لربحية المصارف المستقرة، هو صغر رأس المال المطلوب". ولتفسير جملته هذه بمعايير عصرية، يجدر الحديث عن عائد البنك من القيمة المالية. فكلما قل عدد الأسهم التي يحتاجها البنك للاحتفاظ بهامش أمان، زادت الأموال التي يمكن أن يُقرضها، وبالتالي، ازدادت أرباحه. وكان الذهب ضروريًا من أجل ضمان العملة، لكن المصرفيين لا يريدون أن يشغلوا مساحة كبيرة في ميزانياتهم العمومية. من الأفضل أن تدع الحكومة تفعل ذلك، على هيئة بنك إنجلترا.

لا تزال لدينا نسخة من هذا النظام، حيث تدعم الضمانات الحكومية ربحية البنوك. ويتمثل الدور الأساسي للبنك المركزي في إقراض الأموال بحرية في وقت الأزمات، ليكون ما يسمى "مقرض الملاذ الأخير". ويرى غرانت، الذي يعترف بـ"انحيازاه الليبرالي" أن هذا المبدأ هو أساس "تأمين الودائع، والتعاليم الوساعة بما يكفي لضمان عدم فشل بقية الآلية الحديثة وتعريضها للمخاطر المالية الاجتماعية".

ومثلي مثل جون لوو، وولتر بادجيت، فأنا نجل موظف بنك، ولذا راودتني سؤال في هذا المجال منذ أن قرأت كتاب غرانت الممتع؛ ما الذي حصل للبنك الذي ابتكره بادجيت؟

الإجابة هي أن بنك "بارس" استولى على بنك "ستاكيز" عام 1909، وكان الأول جزءا من "البنك الوطني في وستمنستر"، الذي استحوذ عليه البنك الملكي الأسكتلندي عام 2000، ونما هذا الأخير بدوره، عبر الاستيلاء على بنوك أخرى، ليتحول في السنوات الأولى من هذا القرن، إلى الشركة الأكبر في العالم، وفقا لحجم ميزانيته العمومية.

ومن ثم جاءت أزمة الائتمان (عام 2008)، وفي اللحظة التي أصبح فيها جليًا أن الأموال لا تساوي ما كان يُفترض أن تساويه، انهار أكبر بنك في العالم، خلال بضع ساعات، تماما.

وكانت النتيجة عملية إنقاذ ضخمة، وتأميم شركة البنك الملكي الأسكتلندي، ليتكبد دافعي الضرائب في بريطانيا خمسة وأربعين مليار جنيه إسترليني. ولم تكن هذه القصة لتفاجئ جون لوو أو والتر بادجيت، كثيرا.

 ومع ذلك، قد يكون الرجلان، اللذين كاد أحدهما بأن يتسبب بإفلاس دولة بالكامل، والآخر كان المدافع الأول عن عمليات إنقاذ المصرفيين، مستمتعين بالقدر القليل لما تعلمناه حتى نتجنب الوقوع في هذا الفخ مجددا. وحول ما يجب أن نفعله بشأن المصرفيين المسؤولين عن الانهيار، فربما كان لدى قوبلاي خان بعض الأفكار.

 

التعليقات