12/10/2019 - 00:32

فيلم "الجوكر": النيوليبرالية هي الشرير الحقيقي

بعد 11 عاما من إغراق دور السينما الأميركية بالسرديات المعتادة المبجلة بجنود وشرطيين "خارقين"، قامت "هوليوود"، وأخيرًا، بإنتاج فيلم بميزانية ضخمة، تلعب بطولته شخصية مستعدة للنضال من أجل الناس العاديين، ضد المنظومة الاقتصادية التي تقمعهم، لكنها تجسد أحد الأشرار!

فيلم

من الفيلم (أ ب)

في ما يلي ترجمةٌ خاصّة بـ"عرب ٤٨"، بتصرُّف:

تحذير: المادّة تحوي معلومات قد تعتبر تسريبا لأحداث الفيلم (سبويلر)


بعد 11 عاما من إغراق دور السينما الأميركية بالسرديات المعتادة المبجلة بجنود وشرطيين "خارقين"، قامت "هوليوود"، وأخيرًا، بإنتاج فيلم بميزانية ضخمة، تلعب بطولته شخصية مستعدة للنضال من أجل الناس العاديين، ضد المنظومة الاقتصادية التي تقمعهم، لكنها، وبصدفة تامّة، تجسد أحد أشرار القصص المصورة.

وليس بين فيلم "الجوكر" وبين الرواية الأصلية التي ظهرت في القصص المصورة سوى تشابه بالغ الهشاشة. ويُعد الفيلم الذي أخرجه تود فيليبس، تكريما لأعمال المخرج مارتن سكورسيز المبكرة، بمثابة دراسة لشخصية البطل آرثر فليك، المظلمة (والذي يلعب دوره الممثل جواكين فينيكس)، وهو مهرج محترف يعيش مع والدته المريضة في أوائل الثمانينيات في مدينة "غوثام" (المتخيلة) المضطربة.

يتتبع الفيلم قصّة آرثر، الذي يحاول جاهدًا أن يبتسم بينما يُصارع مرضه العقلي، والفقر، والوحدة، والاكتئاب الحاد، دون أن ينجح في ذلك. ويعجز تماما عن إبطاء تدهور صحته العقلية، إلى حد دفعه في إحدى المرّات، ليفحص إمكانية ارتكاب جريمة على أمل إعادته لمستشفى "ولاية أكرهام" للأمراض العقلية.

أما اللحظات السعيدة الوحيدة في حياة آرثر، فتأتي من ترفيه الأطفال ومشاهدة التلفاز برفقة والدته، وتحديدا أحد البرامج الحوارية الشهيرة، التي يقدمها موراي فرانكلين (والذي يلعب دوره الممثل روبرت دي نيرو). وعندما تجرّد آليات الرأسمالية آرثر من هذه المتعة المتواضعة، إضافة إلى منعه من إمكانية تلقي العلاج أو الدواء، يكشف الفيلم عن فحواه الحقيقي، متجاوزا الدراما ذات الطابع المهيب، ليتحول لفيلم انتقام مُشوق.

كُتب الكثير عما يتضمنه "الجوكر" من تلميحات لقضايا سياسية واجتماعية، ويُمكن اعتبار جميعها خاطئة تقريبا. فالفيلم لا يمثل بالتأكيد "صرخة سامة وحاشدة لشفقة العازبين بشكل غير طوعي على أنفسهم"، كما وصفها الكاتب ديفيد إيرليتش. فغصب آرثر (البطل)، ليس موجها تجاه النساء أو الأشخاص من غير ذوي البشرة البيضاء، بل محدد ضد من أذاه؛ الملياردير الذي كانت والدته تعمل لديه، وثلاثة سماسرة يعملون في سوق الأسهم الشهيرة، وول ستريت، والمشاهير الذين يسخرون من إعاقته على التلفزيون الوطني.

كما ذَم عنف "الجوكر" أيضا. فهو صادم حقا، لكن ذلك يعود إلى أن الفيلم يتعامل مع حياة البشر بجدية، فلم يُقتل سوى بضعة أشخاص خلال الفيلم، وذلك قليل جدا مقارنة بكم الأشخاص اللذين يقتلهم أبطال القصص المصورة "الأخيار"، مثل "الرجل الحديدي" أو "كابتن أميركا"، (باسم الخير) في أفلامهم، وكلا الحالتين مزعج حقا.

لكن آرثر لا يرتكب جرائم القتل بدافع المرض العقلي، بل يأتي عنفه ردا على ما تعرض له بسبب مرضه العقلي. ووصفت المذيعة بياتريس أدلر-بولتون، الفيلم بأنه "بصقة على قبر" أساليب العلاج التي تسعى إلى تصنيف أمراض بحسب مفاهيم سائدة، دون الاكتراث لتبعات ذلك على صحة الأشخاص العاديين الذين تُشخص حالتهم على أنها أمراض تستدعي العلاج. فالفيلم يجسد النقمة الانتقامية لأولئك الذين سحقتهم منظومة جعلتهم غير مرئيين.

أما المضامين السياسية لـ"الجوكر"، فتتركز حول خصم البطل، وهو توماس واين، والد بروس واين الذي يتحول إلى شخصية "الرجل الوطواط" في القصص المصورة الأصلية، التي تصور والده الملياردير، على أنه فاعل خير كريم. لكن شخصيته في الفيلم ما هي إلا إعادة صياغة لشخصية رجل الأعمال والسياسي الأميركي، ميت رومني، الذي يستخدم ثرواته الهائلة وغير المستحقة للمنفعة السياسية. فيلقى ازدراؤه (واين) الساخط لأولئك الذين "لم يصنعوا شيئا من أنفسهم" أصداء خافتة في تصريحات المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية، التي هاجم فيها مصوتي منافسه الفائز، باراك أوباما، قائلا إنهم من "أولئك" الذين "يعتمدون على الحكومة ويؤمنون أنهم ضحايا وأن على الحكومة رعايتهم"، وكان يقصد بذلك الازدراء من الفقراء والشرائح المهمشة.

ولم تعد الثروة أداة يستخدمها متنفذو مدينة "غوثام" لمساعدة الأقل حظا، كما تُظهر القصّة الأصلية لـ"الرجل الوطواط"، بل وسيلة لتحقيق نهاية شريرة كما في العالم الحقيقي، والتي تتلخص بالقدرة على التحكم والسيطرة والسخرية وسوء المعاملة وازدراء أولئك الذين لا يملكونها.

بطل الفيلم (أ ب)
بطل الفيلم (أ ب)

لقد حطّم "الجوكر" أسطورة "الرجل الوطواط"، القائلة إن ذوي بروس واين، هما بريئان سقطا ضحية سطو مسلح. بل قُتلا بشكل متعمد لمنع الملياردير توماس واين، من تولي منصب عمدة المدينة، ما يخوله من ممارسة المزيد من السلطة القمعية ضد الطبقة العاملة. وفي هذا الفلك الموازي، لن يحتاج بروس واين (الرجل الوطواط) إلى البحث عن المجرمين على أمل العثور على الشخص المسؤول عن وفاة والديه لأن الشرير في فيلم "الجوكر"، هو والده.

في معظم أجزاء الفيلم، يشعر آرثر بالارتباك والضيق من المظاهرات المعادية للأثرياء التي أشعلها عن غير قصد، عندما قتل ثلاثة سماسرة في وول ستريت (يعملون لدى واين). حيث يتساءل أحد عناوين الصحف في احتجاجات "مهرجين" ملثمين ضد الأثرياء يحملون لافتات تطالب بإنهاء افتراسهم، "اقتلوا الأثرياء: أهي حركة جديدة؟".

ولا يرى آرثر أي دور له في هذه الحالة التي خلقها، حتى مع توقف التمويل عن علاجه بسبب تدابير التقشف، وتجاهل الملياردير التماسا من والدة آرثر للحصول على مساعدة مالية. لكن ومع وصول الفيلم إلى ذروته، تتبنى الحركة الجماهيرية آرثر، حرفيا ومجازيا. ولا يعد اغترابه مُفتّتا؛ فيدرك آرثر والجمهور أنه يوجه غضب المرضى والفقراء والمضطهدين المُحق.

وفي تسلسل مشاهد يشبه الحلم، قد يكون من وحي مخيلة آرثر، أو لا يكون كذلك، يقوم المتظاهرون المقنّعون بأقنعة المهرجين، بمساعدة آرثر المصاب ليقف على قدميه ويبدأ في الرقص بينما يتدفق الدم من زوايا فمه وهو يبتسم بطريقة "جوكر" الكلاسيكية. وينظر آرثر بتعجب إلى العالم الجديد الذي أنشأه، حيث لم يعد الناس فيه غير مرئيين لأنهم مرضى، ولم يعودوا مسحوقين لأنهم فقراء، ولم يوعدوا مجبرين على الابتسام من خلال العنف الذي يعانونه. لم يعودوا عاجزين.

يخدم إعداد الفيلم في عام 1981 هدفا مزدوجا يتمثل في وضعه بالتزامن مع فيلم "سائق التاكسي" من إخراج سكورسيزي، الذي يسرد قصّة جندي سابق يُصبح سائق سيارة أُجرة في نيويورك، ويقرر أن يقضي على آفة الفساد بيديه، كما يجسد "فيلم" الجوكر الأيام الأولى لنظامنا النيوليبرالي العالمي الحالي.

وعلى الرغم من أن آرثر فليك يعلن أنه ليس سياسيا، إلا أنه من المستحيل رؤية الفيلم على أنه أي شيء آخر غير إدانة للتقشف وسياسة الإفقار التي ترعاها شركات مثل "شركة واين" (بالفيلم) بمساعدة سياسيين على شاكلة رونالد ريغان. ويوضح الفيلم أنه عندما يُقيّم الأشخاص بناء على قدرتهم على تحقيق الربح فقط، فإنهم دائما ما سينتفضون في نهاية المطاف.

وكتب مخرج الأفلام الوثائقية الشهير مايكل مور، في منشور على صفحته في موقع "فيسبوك": "قد يكون الخطر الأكبر على المجتمع إذا لم تذهب لمشاهدة هذا الفيلم. لأن القصة التي ترويها والقضايا التي تثيرها عميقة للغاية، ضرورية للغاية، بحيث إذا أزحت نظرك عن عبقرية هذا العمل الفني، فستفوّت هبة المرآة التي تقدمها لنا".

وما يجعل فيلم "الجوكر" ثوريا بشكل خاص، هو أن تود فيليبس نجح بتهريب هذه النظرة الساخرة للغاية للنظام المعمول به، في فيلم قصص مصورة، كُتب من قبل شركة كبرى. فقد بات من غير الشائع أن تشكل الأفلام ذات الميزانيات الضخمة أي تحد للجماهير من الناحية الأخلاقية أو السياسية، ولكن من خلال تصور الفيلم كرد فعل على سينما "نيو هوليود" المتمردة، ربما يكون فيليبس قد أصدر الفيلم الضخم الأكثر ميلًا لليسار لعام 2019.

ومع ما ينتظرنا من ركود في الأفق، وتغير للمناخ دون رادع يدفعنا نحو كارثة عالمية ونظام سياسي غير راغب أو غير قادر على معالجة الفجوة المتسعة بين المُلاك والفقراء، من المرجح أن ننظر إلى الوراء إلى الجدل الدائر حول "الجوكر"، لنراه في غاية الطرافة. فرغم أن الفيلم يُجسد فترة ماضية، فإن الثورة الطبقية التي يصورها، هي نظر متفائلة لمستقبل يثور فيه غير المرئيين والمهمشون، ويخرجون إلى الشوارع.

التعليقات