07/12/2019 - 23:45

أمّة أسيرة العنف

تُعد السلفادور المكان الأكثر دموية على سطح الأرض، دون أن يكون في حالة حرب رسميا، لكنه ما يحدث في هذه الدولة يُمكن وصفه بالحرب.

أمّة أسيرة العنف

TARIQ ZAIDI FOR FOREIGN POLICY

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتب طارق زيادة:


تُعد السلفادور المكان الأكثر دموية على سطح الأرض، دون أن يكون في حالة حرب رسميا، لكنه ما يحدث في هذه الدولة يُمكن وصفه بالحرب.

ولا تُقارن وحشية ثقافة العصابات التي تطورت في السلفادور منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1992، بعدما استمرت 12 عاما، ولا مدى اتساع عنفها، بأي دولة أخرى في العالم.

ويقدر وزير الدفاع السلفادوري، أن نحو نصف مليون مواطن من أصل 6.5 مليون نسمة، منخرطون في عصابة ما، إما عن الطريق المشاركة المباشرة، أو بإجبار وابتزاز من أقاربهم. ويُعادل هذا الرقم 8 في المئة من مجمل تعداد السكان في البلاد.

وفي عام 2015، بلغ معدل جرائم القتل في السلفادور، أكثر من 100 جريمة قتل لكل 100 ألف مواطن، متخطيا بذلك جميع معدلات جرائم القتل العالمية. ويُمكن القول إن جميع جرائم القتل (تقريبا) التي ارتُكبت في السلفادور على مدار العقدين الماضيين، ترتبط بطريقة أو بأخرى في الحرب الثلاثية الدائرة بين الأجهزة الأمنية الحكومية، وأعضاء عصابتي "إم إس 13"، و"لا 18".

طفلان يعيشان في حي فقر تُسيطر عليه عصابة "إم إس 13"، يعبران حاجز شرطة في سانت مارتين، سان سلفادور في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018. TARIQ ZAIDI FOR FOREIGN POLICY

ولا تتميز السلفادور بمدى انتشار العنف فيها فحسب، بل بوحشية أعمال العنف المرتكبة ضد المواطنين، فتأتي السواطير في المرتبة الثانية بعد الأسلحة النارية، كأكثر سلاح مستخدم للقتل في البلاد. وعادة ما لا يكون الهدف هو مجرد القتل، بل التعذيب، واستئصال أعضاء جسد الضحية، وقطع رأسها أيضا.

ولقد حوّل نشوء ثقافة العصابات العويصة، مع تقاليدها، وقواعدها، وهياكلها الخاصة، جرائم القتل إلى شيء يشبه الطقوس المليئة بالإشارات المتعمدة للسادية والشيطانية.

وشلّت قصص القتل ومقاطع الفيديو التي توثقها، المجتمع السلفادوري وخلقت أجواء من الخوف في نفوس أفراده، خصوصا أن الفيديوهات عادة ما تُظهر مجموعة من أفراد العصابات وهم يقطعون جسد ضحية ما، بينما يضحكون ويسخرون منه أو منها. وينبع هذا الرعب المتفشي بين الناس، من أنه ما من أحد آمن من العنف، حيث يمكن لأي شخص أن يكون مخبرا لعصابة، ويُمكن لأي شارع أن يصبح مسرح الجريمة القادمة، كما يمكن لأي شخص أن يختفي. إضافة إلى شيوع عمليات القتل العلنية، حيث تمثل ما يقرب من 40 في المئة من مجمل جرائم القتل.

ضباط يداهمون بيت للدعارة وحانة في لوردز كولون، في مقاطعة لا ليبرتاد، في 24 أيلول/ سبتمبر الماضي، في عملية مشتركة بين الشرطة والجيش. TARIQ ZAIDI FOR FOREIGN POLICY

وتعود جذور العنف الحالي في السلفادور، للحرب الأهلية الوحشية التي اجتاحتها في الثمانينيات، فقد كانت همجية للغاية، وكشفت معظم السلفادوريين، وخصوصا الأطفال منهم، على أعمال عنيفة مروّعة. ودفعت الحرب العديد من السلفادوريين إلى الهجرة للولايات المتحدة، وخاصة إلى مدينة لوس أنجلوس، حيث انضم المراهقون لتكتلات عرقية لحماية أنفسهم ضد العصابات الأخرى الموجودة في المدينة.

وفي أعقاب انتهاء الحرب الأهلية عام 1992، شددت الولايات المتحدة سياسات الهجرة الخاصة بها، وطردت المهاجرين المُدانين بجرائم إلى هندوراس، ليجلبوا معهم ثقافة العصابات والعنف إلى بلادهم الأصلية التي كانت تُعاني أصلا من الدمار الذي خلفته الحرب.

واليوم، وفي كثير من المدن في البلاد، من المستحيل عبور الشوارع بسبب الحدود التي تفصل المناطق الخاضعة لسيطرة عصابة ما، عن مناطق العصابة الأخرى. ويضطر السائقين الراغبين بدخول حي جديد ما، في معظم الأحيان، إلى إطفاء أنوار سياراتهم، أو فتح شبابيكها، كإشارة إلى ولائهم للعصابة المُسيطرة، وإلا مواجهة العنف.

ويربى الصغار في ظروف مشابهة تماما لحالات الحرب، وغالبا ما ينشئون اجتماعيا في العصابات المحلية، وذلك يبدأ في حالة انضمامهم لـ"إم إس 13"، بالتعرض للضرب المبرح لمدة 13 ثانية. لذا، فإن انتشار العنف في كل مكان حولهم، يدمر التطور النفسي لهؤلاء الأطفال، ما يؤدي إلى تطبيعهم مع العنف.

وتُظهر إحدى مقاطع الفيديو التي انتشرت على نطاق واسع في الأعوام القليلة الماضية، مجموعة من أعضاء عصابة ما، يوثقون تقطيعهم لأصابع أيدي ضحيتهم، ومن ثم اللعب فيها، بينما تسود بينهم، أجواء من الضحك الهستيري. وما يجعل الأمر أكثر رعبا، هو أن معظم مرتكبي هذه الأعمال يكونون في صحو تام في الغالب، حيث أن قوانين العصابات تحظر تعاطي المخدرات.

TARIQ ZAIDI FOR FOREIGN POLICY

وعملت العصابتان المهيمنتان، تقليديا، بطريقة لا مركزية، ممولتان أنفسهما عادة عبر الابتزاز اليومي للمحلات التجارية، والتي تضطر الصغيرة منها إلى دفع إتاوات تتراوح من دولارين إلى ثلاثة دولار أميركي يوميا، أما متوسطة الحجم منها، وشركات التوزيع، فتدفع بين خمسة دولارات والعشيران دولارا يوميا.

ورغم هذه المبالغ التي تبدو "زهيدة"، إلا أن العصابتين تجمع أموالا طائلة من الإتاوات التي تفرضهما على نحو 70 بالمئة من المحال التجارية والشركات في البلاد. وتُقدر أرباح "إم إس 13" من الابتزاز، مثلا، بنحو 31.2 مليون دولار سنويا. وتصل الأموال التي تُصرف بسبب العصابات، أي إما الإتاوات أو شراء خدمات أمنية خاصة، عند إضافتها إلى الأموال المفقودة بسبب العنف، إلى نحو أربعة مليارات دولار سنويا، أي ما يعادل نحو 15 بالمئة من إجمال الناتج المحلي للبلاد، بحسب تقرير صادر عن البنك المركزي للاحتياط.

وفي الماضي، كان الحزب اليميني التقليدي، "التحالف القومي الجمهوري" الذي يعرف باسم "آرينا"، والذي سيطر على السلفادور في معظم الأعوام التي تلت انتهاء الحرب الأهلية، يُعرف بتحالفاته مع العصابات التي سمح لها بجمع الإتاوات وقتل منافسيها. وأظهرت شهادة عام 2017 أن الرشاوى في انتخابات 2014 بلغت 350 ألف دولار، للحزبين المتنافسين، وأن الحزب الفائز "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني" اليسارية، قد تعهد في نهاية المطاف، بمنح قادة العصابات قروض قليلة الفائدة، تصل إلى 10 ملايين دولار، في مقابل مساعدته على الفوز بالانتخابات.

وجلب انتخاب نايب أرماندو بوكيلي، في شباط/ فبراير الماضي، لرئاسة البلاد، وهو رجل أعامل من خارج الحزبين الرئيسيين، بعض مؤشرات الأمل في تحسن الأوضاع، فقد تعهد بالقضاء على العصابات في البلاد في غضون ثلاث إلى أربع أعوام.

سجن شالاتينانغو الذي بلغ تعداد الأسرى فيه عام 2018، أكثر من 1500 سجين، وجميعهم أعضاء في عصابة "إم إس 13". TARIQ ZAIDI FOR FOREIGN POLICY

وبعد مرور 150 يوم على تسلمه منصب الرئيس، انخفضت معدلات القتل بشدة. وكانت الأشهر السبعة الأولى من عام 2019 هي أقل الشهور عنفًا في آخر 15 عامًا (باستثناء عام 2013، وعام 2012 الذي شهد هدنة عقدتها العصابتان). وفي يوم 31 تموز/ يوليو الماضي، احتفلت البلاد بعدم تسجيل أي جريمة قتل، وهو إحدى الأيام الثمانية التي لم تحدث بها أي جريمة قتل على مدار الـ19 عاما الماضية. ومع ذلك، لا يزال العنف والاختفاء من الأمور الحياتية العادية بالنسبة للمواطنين.

وحتى مع وجود حكومة إصلاحية جديدة، ليس من الصعب أن نرى لماذا لا يزال الكثير من السلفادوريين يرون أن الهجرة هي السبيل الوحيد للهروب. في الوقت الحالي، لا يزال الخوف والعنف والتخويف جزءًا لا مفر منه في الحياة اليومية.

التعليقات