24/01/2020 - 23:59

الرأسمالية تقتل الليبرالية الديمقراطية

قدم نشوء الرأسمالية في الدول الشيوعية سابقًا، مثل دول شرقي أوروبا، والاتحاد السوفييتي، والصين، عالما غير متوقع للبعض منا الذين يطمحون إلى مستقبل بديل.

الرأسمالية تقتل الليبرالية الديمقراطية

توضيحية (pixabay)

في ما يلي ترجمة بتصرف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتب ماكس ب. ساوكي، وهو خبير اقتصادي وكاتب. عمل في مكتب المساءلة الحكومية ومعهد السياسات الاقتصادية الأميركي.


قدم نشوء الرأسمالية في الدول الشيوعية سابقًا، مثل دول شرقي أوروبا، والاتحاد السوفييتي، والصين، عالما غير متوقع للبعض منا الذين يطمحون إلى مستقبل بديل.

يبحث الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش، في براثن هذا العالم الجديد في كتابه "الرأسمالية، لوحدها"، ولأن ميلانوفيتش ينحدر في الأصل، من صربيا في يوغوسلافيا السابقة، فذلك يمنحه خلفية فريدة ونقطة مميزة لمراقبة تحول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي.

وتتميز أعمال ميلانوفيتش، الذي شغل منصب كبير اقتصاديي البنك الدولي في السابق، برصده لبيانات عالمية حول انعدام المساواة في الدخل، كما يُظهر في كتابه السابق "عدم المساواة العالمية: توجه حديد لعصر العولمة". وفي كتابه الجديد "الرأسمالية، لوحدها"، يتعدى نطاق هذا المجال لمناقشة المؤسسات وترتيبات السوق للاقتصاد العالمي المعاصر.

ويكمن التضاد الأساسي في عالم الرأسمالية الجديد الذي قدمه ميلانوفيتش، بين ما يصفه بـ"رأسمالية حكم الجدارة الليبرالية"، و"الرأسمالية السياسية". ويتخذ من الولايات المتحدة، وجمهورية الصين الشعبية، نموذجين ليشرح ذلك.

ويشير مصطلح "الليبرالية" في هذا السياق، إلى كل من دلالاته في القرن التاسع عشر القديمة، والتي تعني ممارسة الحكومة لقيود أقل على الأسواق في التجارة الدولية، وفكرة الليبرالية الأكثر ميلا للحداثة التي تتلخص بالالتزام بتقليص انعدام المساواة. أما "حكم الجدارة"، فيعني خلق مساحة إضافية للحركة الاقتصادية الفردية، وتكافؤ أكبر في الفرص. ويتمثل التباين الرئيسي هنا، في مقابل رأسمالية القرن التاسع عشر، والتي انطوت على قدر أقل من الحراك الاقتصادي، وقليل من العامة التي تهدف إلى الحد من انعدام المساواة.

وتتميز الرأسمالية السياسية في تصنيف ميلانوفيتش بحكم ذاتي أكبر للدولة وبيروقراطيتها، في توجيه الاقتصاد، ونطاق أقل لاتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي أو مساهمة المجتمع المدني. ويشمل الكاتب إلى جانب جمهورية الصين الشعبية، في هذه الفئة، سنغافورة، وفيتنام، وبورما، وروسيا، وإثيوبيا، والجزائر، ورواندا.

وفي كلتا الفئتين، فإن الرأسمالية هي المسيطرة. وفي جمهورية الصين الشعبية، تتنوع ملكية المؤسسات، بما في ذلك التعاونيات، وبين درجات متفاوتة لما هو مملوك من قبل الحكومات الإقليمية والمحلية، وكذلك الحكومة الوطنية. لكن ما من شك أن الرأسمالية انتصرت في الصين، ودول "الرأسمالية السياسية" الأخرى. والإنتاج موجه نحو الأسواق. ورأس المال مملوك من قبل الأفراد، وخصوصا من قبل طبقة أصحاب الملايين الجديدة. ويعمل العمال في نظام العمل المأجور.

ويتبع ميلانوفيتش في كتابه، منهجا انتقائيا وتجريبيا، مستنيرا بالمفاهيم الماركسية لكن دون أن يقتصر عليها. ويتمثل أحد العناصر الجوهرية الذي يستند إليه تحليله، بالفكرة القائلة بإن علاقات الإنتاج، هي مُحدد رئيسي للعلاقات الاجتماعية والمؤسساتية. وبعكس ماركس، لا يقترح الكتاب معالجة للطبقية. فيستعرض الكتاب نقاشا مطولا حول طبقات الدخل، وحصص الأيدي العاملة، ورأس المال، من الدخل القومي، لكن لا يوجد اعتبار للتكوين الطبقي وحكمه بالمعنى الماركسي. وهذا لا يعني النقد، إنه مجرد وصف لنهج ميلانوفيتش.

إن التطور الرئيسي الذي يقود الاقتصاد إلى حالته الراهنة، يكمن ببروز سلاسل توريد عالمية، ييسّرها التقدم في الاتصالات ووسائل النقل. وتلغي الاتصالات المحسّنة، الحاجة إلى المشاركة الفعلية للمدراء والعمال رفيعي المستوى. كما أنها توسع نطاق التمويل، وتعمقه. وتتيح تكاليف النقل المخفضة الانتشار الجغرافي لمراحل الإنتاج. وهذه الأخيرة، وليس بمحض الصدفة، تقلل من القدرة على المساومة في العمل، وتفسّر "منحنى الفيل" الشهير، الذي اقترحه ميلانوفيتش. (وهو رسم بياني يوضح انخفاض الدخل الفردي بحسب التوزيع العالمي له في العقدين اللذين سبقا عام 2008 بفعل العولمة)

وهكذا، تتيح العولمة نشوء علاقات مختلفة بين دول الشمال (أي الدول المتقدمة)، وبين دول الجنوب (أي الدول الفقيرة، أو غير المتقدمة). وبحسب بعض النظريات الإمبريالية القديمة، يتمثل النموذج الاستعماري، بإرسال القوى الاستعمارية قواتها المسلحة للسيطرة على الدول غير المتقدمة، بهدف تجريدها من مواردها الطبيعية. أما الواقع الجديدة، فيتمثل بالتناثر الجغرافي للصناعات ذات القيمة المضافة العالية وتكاملها في إنتاج المنتجات النهائية. وعلى سبيل المثال، يمكننا أن نتمعن في المسار الذي تمر به قطع غيار السيارات عند شحنها من الولايات المتحدة، وتجميعها في مناطق التجارة الحرة المكسيكية، أو إلى كيفية تصميم شركة "نايكي" لأحذية "أوريغون" خاصّتها، في فيتنام، ومن ثم بيعها مرة أخرى في الولايات المتحدة.

وتحرص البلدان المتخلفة سابقا، على استقبال هذا النوع من التعهيد، ولا تتطلب حراسة عسكرية أجنبية لحماية الأصول الأجنبية المملوكة من خطر المصادرة. لا يزال انتشار القواعد العسكرية الأميركية في أنحاء العالم قائما بالطبع، لكن يُمكن القول إن هذا التواجد العسكري ينحصر دوره في تطبيق المكائد الجيوسياسية الأميركية، أكثر من كونه حام للاستغلال الاستعماري للموارد الطبيعية.

وفي الماضي، توصل بعض الراديكاليين إلى تفسير أسباب الحرب الأميركية على فيتنام، بأنها اندلعت للتحكم الأميركي في إنتاج المطاط أو القصدير. وربط البعض التدخل في دول البلقان بالتعدين في كوسوفو. فقد كانت هناك أصوات تشير إلى الرغبة في إنشاء خط أنابيب عبر أفغانستان. ولقد اختفى هذا النوع من التحليل الجاف الذي يتجاهل التعقيدات الأخرى في الحالات المختلفة، على الرغم من استمرار التدخل الأميركي.

واستُبدلت التهديدات الملموسة المباشرة التي يفرضها المحتلون العسكريون الأجانب، بالقيود المالية التي يفرضها صندوق النقد الدولي ومؤسسات الإقراض العالمية الأخرى، وإدارة التجارة من قبل منظمة التجارة العالمية، والتي تخضع جميعها للهيمنة الأميركية والأوروبية. ومن المفارقات الجديرة بالذكر هنا، هو أن هذه الوضع حُقق بفضل نجاح الثورة الشيوعية، لا سيما في جمهورية الصين الشعبية، التي قامت بتصفية المؤسسات الإقطاعية ومن ثم تصفية مبادئها الاشتراكية بنفسها لتفسح الطريق أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، بما في ذلك النقل الحاسم للتكنولوجيا.

وتتناقض المراحل التاريخية للتطور الاقتصادي، من الإقطاعية وإلى الشيوعية، وصولا إلى الرأسمالية، كليا، مع وجهة النظر الماركسية القديمة، التي توقعت أن تنشأ الشيوعية في أماكن لم تطأ فيها واعتقدت أنها لن تظهر أو لا ينبغي أن تظهر في الأمم المتخلفة. كما التصقت نظرة غربية شبيهة للتنمية، في الاحتمالات التاريخية ذاتها. ففي الرأسمالية السياسية، لم يسمح الإقطاع باندلاع ثورات برجوازية، ولم يتحول إنبات الشركات الرأسمالية الصغيرة إلى احتكارات ضخمة.

وكانت النتيجة العالمية للتغير الاقتصادي، هي إعادة توازن كبير للثروة والقوة السياسية بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وآسيا من الجهة الأخرى. أما أفريقيا فبقيت (وتبقى) في الظلام. وينعكس هذا في قياسات ميلانوفيتش لمستويات انعدام المساواة. ولديها آثار سياسية هائلة، لكنها لا تتناسب مع فئتي "رأسمالية حكم الجدارة الليبرالية"، و"الرأسمالية السياسية"، اللتان طرحهما الكاتب. فلا تندرج الهند، واليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية، في قائمته الخاصة باقتصادات الرأسمالية السياسية، التي قدمها، ولكن من المؤكد أن نموها الاقتصادي يلعب دوراً هائلاً في إعادة التوازن بين آسيا والولايات المتحدة. كما تتمتع اليابان وكوريا الجنوبية أيضًا بتنسيق اقتصادي، تحقق بتأثير من الولايات المتحدة.

ويُمكن أن يكون أكثر ما يثير اهتمام القارئ الغربي في الاستعراض أعلاه، هو تحليل الرأسمالية السياسية، بدلاً من النماذج المألوفة له بشكل أكبر، المتمثلة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الذي لا يزال يشمل بريطانيا في وقت كتابة هذا التقرير). وتحتاج البيروقراطية في الرأسمالية السياسية بحسب نظرية ميلانوفيتش، إلى حريّة التصرف لكي تعمل بفاعلية. وهذا يعني أنها ملزمة للقانون فقط. وأنها تتسبب أيضا في زيادة معدلات الفساد الذي يعد التكلفة المباشرة لحريّة التصرف الموسعة. وتكمن الحيلة في وصول مجتمع ما إلى الرخاء الاقتصادي، بضمان تجاوز تكاليف الفساد من خلال المكاسب التي يحققها.

وفي الوقت ذاته، تتجسد معضلة رأسمالية حكم الجدارة الليبرالية، في التوتر القائم بين الاحتياط الوافر لدولة الرفاه، وبين الضغط السياسي الذي تولّده الهجرة والاندماج الدولي. فمن ناحية، توجد صعوبة متزايدة في فرض الضرائب رؤوس الأموال المتنقلة، والتي تكون سرية في حالات كثيرة. ومن الناحية الأخرى، هناك التأثير على الإنفاق العام، الذي يمكن عزوه للمهاجرين.

ومن وجهة نظري، يميل الاتجاهان المذكوران أعلاه، إلى المبالغة، خاصة من قبل الديماغوجيين العنصريين، والمراكز الفكرية الموجّهة، التي تصدر أبحاثا مزيفة، لكن لا يمكن استبعادهما كليا. هذا لا يتعارض بالضرورة مع الحاجة الأخلاقية لنظام هجرة أكثر ليبرالية، ولا مع حكمته السياسية لليسار. بل يصعّب عملية الدفاع عن مطلب "الحدود المفتوحة".

بُعد "الجدارة"، هو من بين الملاحظات البارزة في التضاد الأساسي في نظرية ميلانوفيتش، حيث أن حركته التي يُفترض أنها أكبر في ظل "الرأسمالية الليبرالية والجدارة" من "الرأسمالية السياسية"، غير واضحة. فرغم أن بعض أغنى أغنياء الولايات المتحدة انحدروا من أصول متواضعة، إلا أن الصين تملك حصّة كبيرة من الأثرياء الجدد الذين لم يكن بإمكانهم إلا أن يأتوا من أصول متواضعة. وفي الوقت نفسه، فإن القيود المفروضة على الحراك الاقتصادي في الولايات المتحدة واضحة. لكن كم تحسن العلاقات العائلية في جمهورية الصين الشعبية، فرص الحياة؟ لم يُقدم ادعاء احتكام الولايات المتحدة بشكل أكبر لحكم الجدارة، في هذا الكتاب.

وهناك شكوك أيضا، نحو وصف "الليبرالية" في ما يتعلق بإعادة التوزيع. فربما انتهى عصر الديمقراطية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الثمانينيات، لكن القيود على تكوين الثروة الملكية في دول رأسمالية حكم الجدارة الليبرالية، كانت دائما موضع تساؤل، بل وزاد التساؤل حولها اليوم.

لكن التهديد الأكبر للبرالية في دول "رأسمالية حكم الجدارة الليبرالية"، هو تآكل المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة وغيرها من الحالات البارزة، مثل البرازيل والفلبين وتركيا وإسرائيل والمجر والهند. إن الانجراف نحو الفاشية الجديدة في هذه الدول ينذر بالخطر، وقد تتسبب التكاليف المرتبطة بالفساد، والقتال العسكري، وضعف حقوق الإنسان والمجتمع المدني، بحقبة جديدة من النمو الاقتصادي البطيء، والرأسمالية الأقل نجاحًا. وخلال ذلك كله، تثير المعارضة المتزايدة للرأسمالية في الولايات المتحدة، أو مهما كان اسمها، احتمال إعادة إحياء النموذج الاجتماعي الديمقراطي، الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.

قد تكون الرأسمالية لوحدها، لكنها لن تُترك لوحدها.

التعليقات