21/02/2020 - 23:00

علم النفس.. انحياز للمجتمعات الأوروبية الغنية واكتشافات محدودة

ماذا لو لم يكن هذا هو الاستنتاج الصحيح الذي يمكن استخلاصه من هذه الدراسات؟ ماذا لو أن الصبر، بل وربما السمات الشخصية الأخرى، هو نتاج أماكن تواجدنا، وليس طبيعتنا كأفراد؟

علم النفس.. انحياز للمجتمعات الأوروبية الغنية واكتشافات محدودة

طفلة من الشوار قرب نهر الأمازون (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتبة دورسا أمير، وهي عالمة أنثروبولوجيا تطورية وزميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في كلية بوسطن.


في حقل علم نفس، يُعد هذا المجاز قاعدة مقررة؛ تجلس طفلة وأمامها قطعة من الحلوى (مارشملو)، وتقاوم إغراء التهامها على الفور. وإذا ما نجحت في تجميع الإرادة الكافية لمقاومة هذا الإغراء لأطول فترة ممكنة، فإنها ستُكافئ من قبل مُعد التجربة بقطعة حلوى إضافية. وباستخدام "اختبار المارشملو"، أوضح عالم النفس النمساوي الأميركي، والتر ميشيل، أن الأطفال الذين تمكنوا من مقاومة المتعة الفورية، وانتظروا للحصول على قطعة الحلوى الثانية، حققوا إنجازات أكبر في الحياة (بعد بلوغهم). إذ أنهم حصلوا على علامات أفضل في المدرسة، وفي امتحانات القبول للجامعات، بل أنهم أبدوا مهارات أعلى في السيطرة على الإجهاد والضغط.

وخلّفت دراسات ميشيل الطلائعية، التي أجراها في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا أولا، ومن ثم في جامعة كولومبيا في نيويورك، أثرا عميقا على المفهوم المهني كما الشعبي، لميزة الصبر، وأصولها، والدور الذي تلعبه في حياتنا.

ولقد استنتج الناس من هذه الدراسات التي أجريت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أنه لا بد أن يتمتع الأطفال بخصائص فردية عميقة، وبعض السمات الشخصية، التي من شأنها أن تهيئهم لتحقيق إنجازات أكبر خلال حياتهم. ولكن ماذا لو لم يكن هذا هو الاستنتاج الصحيح الذي يمكن استخلاصه من هذه الدراسات؟ ماذا لو أن الصبر، بل وربما السمات الشخصية الأخرى، هو نتاج أماكن تواجدنا، وليس طبيعتنا كأفراد؟

يواجه الباحثون في محاولاتهم لدراسة العلاقة بين البيئة وخصائص شخصيتنا، تحديين كبيرين؛ ويكمن التحدي الأول بالتشكيك في الميل نحو رؤية السمات الشخصية، أي أنماط سلوكنا الثابتة على مرّ الزمن، على أنها أجزاء حتمية من هوياتنا، وتنبع من داخلنا. فمع أن البشر هم نتاج تفاعل الجينات مع الطبيعة، أظهر بحث أجراه عالم النفس من جامعة ملبورن، نيك هاسلام، وباحثين آخرين، أن الناس يخطؤون بحق الطبيعة، ويميلون إلى الاعتقاد بأن السمات الشخصية، هي أمور محددة مسبقا لدى البشر.

بمعنى آخر، من الأرجح أن تدعي أن صديقتك جين، إنسانة صبورة، وأنها ستبقى على هذا النحو حتى في بيئة ليس الصبر فيها أفضل إستراتيجية (على سبيل المثال، في ظرف خطير لا يُمكن ضمان العيش فيه حتى اليوم التالي). وقد تعتبر أن الصبر هو ميزة تأتي من داخلها، وليس من العالم المحيط بها.

(pixabay)

أما التحدي الثاني، فهو يتعلق بمن أمضى علماء النفس القرن الماضي في إجراء التجارب عليهم. ورغم المعرفة الكافية التي طورها الباحثون، عن كيفية نشوء السمات الشخصية، إلا أن هذه المعرفة مستمدة من إجراء الأبحاث على مجموعة فرعية محددة وغريبة من البشر، وهم هؤلاء الذين يعيشون في المجتمعات الصناعية.

وأظهر عالم الأنثروبولوجيا جوزيف هينريش، وفريقه في جامعة كولومبيا البريطانية، من خلال القياسات التي أجروها في الدراسة التي تحولت اليوم إلى معلم بارز، والتي يُطلق عليها عنوان "أغرب الناس في العالم؟"، أن ما يقرب من 96 في المئة من الموضوعات في دراسات العلوم النفسية جاءت من ما يسمى بالمجتمعات الـ"ويرد" (وتعني الغريبة بالترجمة الحرفية من اللغة الإنجليزية)، أي المجتمعات الغربية، والمتعلمة، والصناعية، والغنية، والديمقراطية. (يُطلق عليها اسم WEIRD باللغة الإنجليزية، اختصارا للحروف الخمسة الأولى من كل كلمّة في تعريف هذه المجتمعات)

ويُعد الانحياز (في هذه الدراسات)، لمجتمعات الـ"ويرد"، إشكاليًّا لعدّة أسباب. الأول، هو أن وكالة سكان هذه المجتمعات على الإنسان العادي، ضئيلة للغاية، فهم لا يمثلون سوى دول يُشكل تعداد سكانها مجتمعة، نحو 12 في المئة من مجمل تعداد البشر على كوكب الأرض.

لكن هذا التباين لصالح المجتمعات الصناعية إشكالي لسبب آخر أيضا: إنه يمثل بيئة تختلف اختلافًا جوهريًا عن البيئة التي تطورت فيها الكائنات البشرية. فماذا إذا كانت البيئة المحيطة بنا، هي التي تُشكل شخصياتنا، فكيف نفهم هذه العملية المهمة؟

هنا، كان ميشيل مُحقًّا في الآلية التي ابتكرها؛ وهي البحث في مرحلة الطفولة مباشرة، فهي إحدى المراحل الأكثر حساسية ومرونة في تطور الشخصية.

ومؤخرا، قُمت أنا وزملائي، بهذا الأمر بالتحديد، فقد صممنا دراسة للبحث في سمتين هامّتين؛ ما هو مقدار الصبر لدى شخص ما، وما مدى تسامحه مع انعدام اليقين. وأجرينا بحثنا في أربعة مجتمعات في مختلف بقاع الأرض؛ في الهند، والولايات المتحدة، والأرجنتين، والأهم من هذه المجتمعات الثلاث، كان المجتمع الأمازوني الإكوادوري، أي مجموعة السكان الأصلانيين الذين يُطلق عليهم اسم "الشوار"، وذلك في محاولة لمحاربة التحيز لمجتمعات الـ"ويرد".

تعيش مجتمعات الشوار التي زرناها، في مناطق منعزلة، حيث أن الطريقة الوحيدة للوصول إليها هي ركوب زورق طويل ومتعرج فوق نهر مورونا. ولا يزال العديد من أفراد هذه المجتمعات التي زرناها في تلك المناطق، يحتفظون بأسلوب حياة أكثر تقليدية، مع ممارسات مثل جمع الطرائد، وزراعة المحاصيل، وصيد الأسماك وغيرها. ولم تكن البضائع المصنعة ضرورة حاسمة في طريقة حياتهم، على الأقل ليس بعد.

ولقياس درجة الصبر الذي يتمتع به الأطفال في هذه المجتمعات الأربعة، استخدمنا تجربة مشابهة "لاختبار المرشملو"، حيث قدمنا لأطفال تتراوح أعمارهم بين الأربعة أعوام والـ18 عاما، خيار الحصول على قطعة حلوى، أو الحصول على عدّة قطع حلوى في حال اختاروا الانتظار حتى اليوم التالي. أي أن الطفل سيحصل على حلويات كثيرة في اليوم التالي، في حال تمكن من الصبر اليوم. أما على صعيد انعدام اليقين، فقد طلبنا منهم الاختيار بين كيس آمن، لا بدّ أن تكون فيه قطعة حلوى واحدة، أو كيس مجازفة، لا يمنحهم سوى فرصة واحدة من أصل ستة للحصول على المزيد من قطع الحلوى.

أطفال في كنيسة بمنطقة نهر مورونا (أ ب)

ولقد وجدنا الكثير من الاختلافات، خاصة بين الشوار والمجتمعات الثلاث الأخرى. فقد تصرف الأطفال في الولايات المتحدة والأرجنتين والهند بشكل مشابه تقريبا، حيث مالوا إلى التحلي بالصبر والتسامح مع عدم اليقين بشكل أكبر، في حين أظهر الشوار نمطًا مختلفًا جدًا من السلوك، حيث كان صبرهم أكثر نفاذا، وكانوا أكثر حذرا من انعدام اليقين. بل أن غالبيتهم الساحقة لم يختاروا الكيس المحفوف بالمخاطر.

وفي دراسة مكملة أجريناها العام الذي تلا في عدّة مجتمعات منتمية للشوار، وجدنا أنماطا متماثلة. فقد تصرف أطفال الشوار الذين يعيشون بالقرب من المدن، بطريقة أقرب للأطفال في الولايات المتحدة، مقارنة مع أطفال الشوار الذي يعيشون في الغابات المطيرة. وبدا أن أمرا ما في السكن على مقربة من المدن، أو حتى شيء في المجتمعات الصناعية بشكل أعمّ، يشكل تصرفات الأطفال.

ومن أجل استيعاب احتمالية امتلاك التصنيع، قوّة تأثير في تطور السلوك البشري، من المهم أن نفهم أولا، إرثه في الرواية البشرية؛ فقد أدى ظهور الزراعة قبل 10 آلاف عام، إلى ما قد يكون التغيير الأكثر عمقا في تاريخ الحياة البشرية. فعندما توقف الناس عن الاعتماد على الصيد وتجميع الثمار من جل البقاء، شكلوا مجتمعات أكثر تعقيدا شهدت ابتكارات ثقافية جديدة.

وكان أحد أهم هذه الابتكارات يتضمن طرقا جديدة في تجميع وتخزين الموارد، والتجارة بها. وكان أحد آثار هذه التغييرات، من وجهة نظر صنع القرار، يكمن بتقليل انعدام اليقين. فبدلاً من الاعتماد على موارد يصعب التنبؤ بوجودها، مثل الفرائس، سمحت لنا الأسواق بإنشاء مجموعات أكبر وأكثر استقرارًا من الموارد.

ونتيجة لهذه التغييرات الأوسع، ربما تكون الأسواق قد غيّرت تصوراتنا حول القدرة على تحمل التكاليف. ولكون مجتمعات الـ"ويرد" (غربية، ومتعلمة، وصناعية، وغنية، وديمقراطية) غنية بتعريفها، أي أنها تملك مزيدا من الموارد مقارنة مع المجتمعات الأخرى، فإن أطفالها قد يشعرون بأنهم يستطيعون أن يتحملوا تكلفة استراتيجيات مثل الصبر والسعي للخطورة. فلا بأس إذا لم يحالفهم الحظ وسحبوا كرة زجاجية خضراء، بدل الفوز بقطعة من الحلوى؛ فإن ذلك لن يكلفهم كثيرا. لكن بالنسبة لأطفال الشوار في الغابات المطيرة التي تحتوي على موارد أقل، فإن فقدان تلك الحلوى يعد مشكلة أكبر بكثير، ويفضلون تجنب المخاطر.

وعلى مرّ الزمن، يمكن لهذه الاستراتيجيات الناجحة أن تستقر وتصبح استراتيجيات متكررة للتفاعل مع عالمنا. لذلك، وعلى سبيل المثال، فإن الناس الذين يسكنون بيئة ترتفع فيها تكاليف الانتظار، قد يكونون غير صبورين باستمرار.

وتدعم دراسات أخرى فكرة أن الشخصية تتشكل من خلال البيئة أكثر مما كان يعتقد سابقًا. فخلال بحث أجراها باحثون أنثروبولوجيون، من جامعة كاليفورنيا، على بالغين أصلانيين في تسيمان في بوليفيا، وجدوا أن ليس هناك أدلة كثيرة تدعم ما يسمى نموذج "عناصر الشخصية الخمسة"، والذي يتكون من الانفتاح على التجربة، والضمير الحي، والانبساط، والوفاق، والعصابية. وجاءت أنماط مماثلة من المزارعين السنغاليين الريفيين، والآتشي في باراغواي. واتضح أن نموذج "عناصر الشخصية الخمسة"، خاص بمجتمعات الـ"ويرد".

في ورقة بحثية أخرى حديثة النشر، تابع عالم الأنثروبولوجيا من جامعة كاليفورنيا، بول سمالدينو، وزملاؤه، هذه النتائج بشكل أكبر، وربطوها بالتغييرات التي حفزها التصنيع. ويدعون في بحثهم، أنه كلما أصبحت المجتمعات أكثر تعقيدًا، فإنها تؤدي إلى تطوير المزيد من المنافذ، أو الأدوار الاجتماعية والمهنية التي يمكن للناس القيام بها. وتعد سمات الشخصية المختلفة أكثر نجاحًا في بعض الأدوار من غيرها، وكلما ازدادت الأدوار، كلما زاد تنوع الشخصيات.

وكما تشير جميع هذه الدراسات الجديدة يمكن أن يكون لبيئاتنا تأثير عميق على سمات شخصيتنا. وعبر توسيع دائرة المجتمعات التي نعمل معها، والتعامل من المفاهيم الأساسية للشخصية بشكل نقدي، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل ما الذي يجعلنا على ما نحن عليه كبشر.

التعليقات