19/02/2022 - 09:50

روسيا وأوكرانيا: أن تعلق الدول في أساطيرها القروسطية

تعود الأسس الثقافية والتاريخية والدينية للصراع بين موسكو وكييف إلى الأسئلة الأساسية حول ماهية روسيا، وماذا يعني أن تكون روسيًا، وحول من يمتلك أساطير الماضي.

روسيا وأوكرانيا: أن تعلق الدول في أساطيرها القروسطية

قاذفات روسية تحلق فوق برج الكرملين (أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال الكاتبة كريستابس أندريسونس، المتخصصة بشؤون الاتحاد السوفيتي وسياسات أوروبا الشرقية الحديثة؛ وهي مرشحة لدرجة الدكتوراه في علوم الاتصالات. ترجمة: أنس سمحان.


توجد العديد من التفسيرات الاقتصادية والأمنية للأزمة الأوكرانية، وعلى الرغم من إفادتها العلمية، إلا أنها ليست كافية، إذ تعود الأسس الثقافية والتاريخية والدينية للصراع بين موسكو وكييف إلى الأسئلة الأساسية حول ماهية روسيا، وماذا يعني أن تكون روسيًا، وحول من يمتلك أساطير الماضي.

نشر الموقع الإلكتروني الرسمي للكرملين في 12 تموز/ يوليو 2021، مقالًا كتبه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعنوان "حول الوحدة التاريخية للروسيين والأوكرانيين". وتشكل هذه المقالة دليلا حرجا للقصص التاريخية التي بنى بوتين والعديد من الروسيين موقفهم منها.

يعتقد بوتين والكثير من الروسيين، بادئ ذي بدء، أن الروسيين والأوكرانيين شعب واحد، "أمم شقيقة"، حيث تسمى مجموعة منهم "الروس الكِبار" والمجموعة الأخرى "الروس الصغار"، وبالطبع فإن المجموعة الثانية تشير إلى الأوكرانيين. والأمر نفسه ينطبق على بيلاروسيا، حيث أن اسمها مشتق من روسيا ويعني "الروس البيض". فعندما تحولت روسيا إلى القيصرية في عام 1547، كان اللقب الرسمي المخصص للحاكم «tsar vseya Rusi» ويعني "قيصر كل الأمم الروسية".

نشأت كل أمم روسيا من الدول والإمارات التي خلفت «كييف روس» أو "روس الكيفية" الأصلية، والتي حكمها مختلف أعضاء سلالة روريك[1] - حكام الفايكنغ في القرن التاسع الميلادي. نشأت تلك السلالة في نوفگورود[2]، ثم نقلت عاصمتها إلى كييف (Kiev) في عام 882، والتي تكتب الآن كييف Kyiv، وصارت لاحقًا كييف (Kiev) العاصمة الكبرى لاتحاد روريك. كانت موسكو في ذلك الوقت معدومة الأهمية، إذ عُثر على أول تسجيل مكتوب للمدينة في عام 1147.

يجعل هذا الخط المشترك من النسب، العلاقة الروسية مع بيلاروسيا وأوكرانيا مختلفة تمامًا عن العلاقات مع دول الاتحاد السوفييتي السابق الأخرى. ربما كانت كازاخستان وإستونيا وجورجيا دولًا رفيقة، لكن الأوكرانيين والبيلاروسيين كانوا أقرباء. تدعي كل من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا أن هذه الدولة هي سلفهم الثقافي والسياسي، ويؤيد بوتين هذا الأسلوب في التفكير بكل إخلاص. وكتب في مقالته: "احتل عرش كييف مكانة مهيمنة في روس القديمة. وكانت هذه هي العادة منذ القرن التاسع الميلادي. حكاية السنوات الماضية استحوذت على كلمات النبي أوليگ[3] عن كييف، فقال عنها ‘لتكن أمًا لجميع المدن الروسية‘".

تدمير أسطول "روس" في القسطنطينية، من مجموعة المكتبة الوطنية الروسية

يدعم الدين، كما يلمح بوتين، هذه العلاقة بقوة، إذ يعود هذا إلى القديس فلاديمير، المعروف أيضًا باسم فلاديمير الكبير[4]، أو فلاديمير معمدان السلافيين، حاكم "كييف روس" الشهير باعتناقه المسيحية الأرثوذكسية عام 988، وبجعلها الدين الرسمي للدولة.

أدى هذا التحول، إلى جانب زواجه اللاحق من أميرة بيزنطية، إلى علاقات وثيقة مع البيزنطيين، ومع بداية خط آخر من الشرعية والخلافة يمكن تتبعه حتى القسطنطينية. أم فلاديمير مونوماخ[5]، حاكم كييف من 1113 إلى 1125، فقد فضّل أن يطلق على نفسه اسم "أركون كل الأمم الروسية" على الطريقة اليونانية، وتعني "حاكم كل الأمم الروسية". جاء اسمه – مونوماخ - من صلات عائلته بالإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع مونوماخوس. كانت القسطنطينية فوق الملوك والأركونات خصوصًا مع تتويج إمبراطورها بطريرك المدينة، رأس الإيمان الأرثوذكسي.

لكن اهتز هذا النظام بسبب تدخل الغزاة الشرقيين الأقوياء، على رأسهم المغول، الذين هدموا كييف روس وقسموها إلى عدة ولايات تابعة، ثم عبر التدمير النهائي للقسطنطينية نفسها عام 1453 على يد العثمانيين. تُركت كييف التي كانت قوية ذات يوم في حالة خراب... كومة من الجماجم خارج مستوطنة صغيرة متبقية. ولم يعد من ثمة إمبراطور بيزنطي ليحكم فوق الملوك الروس.

ومع ضعف قوة المغول في أواخر القرن الخامس عشر، بدءًا من معركة نهر أوگرا[6]، حاولت أجزاء من دولة "كييف روس" القديمة استعادة شرعيتها، وهي المنطقة التي نعرفها اليوم باسم "روسيا". لكنهم واجهوا غربًا تحديات متعددة، فقد ضمت بولندا القوية جزءًا كبيرًا من غرب أوكرانيا الحديثة، وصارت بيلاروسيا جزءًا من ليتوانيا.

واكتسبت أوكرانيا (التي كانت يومًا القلب النابض لـ"كييف روس") في هذه الفترة اسمها الغريب. يوجد نوعان من النظريات السائدة حول الاسم، أحدهما يدعمه أغلب المؤرخين وكذلك الحكومة الروسية، ونظريات أخرى يدعمها في الغالب العلماء الأوكرانيين وحكومتهم. ينص النوع الأول من النظريات أنه وبعد استيلاء التاج البولندي على قلب "كييف روس" السابق في عام 1569، حصلت المنطقة على الاسم غير الرسمي منذ ذلك الحين "أوكراينا" (والذي يعني "المتاخمة للحدود" باللغة السلافية القديمة)، من منظور بولندي، حيث تحدها السهوب والقوى شبه البدوية مثل التتار.

أما النوع الثاني فيدعي أنه في اللغة الأوكرانية والسلافية القديمة ثمة فرق بين الكلمتين «oukraina» و «okraina». كلاهما مشتق من «kraj»، والتي تعني "الحدود" في اللغة السلافية القديمة، ولكن يوجد فرق مهم في حرف الجر. نسخة Ou تعني "في" بينما تعني O "حول" - في هذا السياق، فإن أوكرانيا بالـOu تعني "الأراضي المرتبطة بالمركز" أو "الأراضي التي تحد المركز"، والتي اُستخدمت بعد ذلك للإشارة إلى الأراضي المحيطة مباشرة بـ"كييف روس"، التابعة لها مباشرة، وهذا ادعاء مُستبعد ومبالغ فيه، لكنه يمنح الأوكرانيين إحساسًا قويًا بمكانتهم في إرث "كييف روس".

كانت الدولة الروسية الجديدة في غضون ذلك بحاجة إلى المطالبة بمكانتها الخاصة في العالم الأرثوذكسي، وفي سلالة الإمبراطورية الرومانية، وهو ما كان مصدرًا آخر للشرعية القومية السياسية. كان على موسكو أن تصبح "روما الثالثة" مع وجود القسطنطينية أو روما الثانية في أيدي المسلمين، فرفعت بطريركيتها إلى مستوى القسطنطينية وروما. يقول المثل الروسي: "هلكت أول روماتين والثالثة قائمة، ولن تكون هناك روما رابعة". أعلن القادة الروس اعتبارًا من عام 1547 أنهم لم يعودوا ملوكًا بل أباطرة، وفي اللغة الروسية تشتق كلمة Tsar "القيصر"، من اللقب الروماني القديم للقيصر.

(أ ب)

ونجحت الفكرة! كانت مفيدة لهيكل القوة الروسي؛ ويمكن أن تساعد الحكام على تفعيل المركزية الروسية والحكم بمساعدة البطريركية الروسية، كما أنه يعطي موسكو الشرعية التي كانت في أشد الحاجة إليها. تزوج الحكام الروس من السلالات البيزنطية المخلوعة وخلقوا مجموعة متنوعة من الأساطير المشحونة لتبرير ميراثهم المفترض بعد القسطنطينية.

ولكن ظهرت مشكلة صغيرة لاحقًا، فكما أنه ضروري أن تحكم روما لتكون قيصرًا، كان على من يرغب بأن يطلق على نفسه لقب Tsar أن يحكم كل الأمم الروسية. كانت الأهمية الثقافية والتاريخية والدينية لـ"كييف روس" أكبر من أن يتم تجاهلها. لم تكن هذه مشكلة بالنسبة للقياصرة أنفسهم والذين استعادوا الأراضي التي فقدوها في الغرب وشرعوا في التوسع شرقًا.

حاولت الإمبراطورية الروسية محو اللغات السلافية الشرقية الأخرى من ذاكرتها الثقافية المشتركة. لقد تصرفوا كما لو لم تكن هناك أوكرانيا ولم تكن موجودة أبدًا، تمامًا كما هو الحال مع بيلاروسيا. وفقًا للحكومة القيصرية، كان الأوكرانيون دائمًا روسًا وليس لديهم تاريخا خاصا بهم. حُظرت اللغتان الأوكرانية والبيلاروسية. وكانت القومية الأوكرانية تهديدًا للأساطير المؤسسة لروسيا وهددت محاولاتهم لخلق "شعب روسيا الواحد".

نظر المثاليون الأوائل في المقابل، من الاتحاد السوفييتي، إلى الماضي العدائي بازدراء وتخيّلوا أوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا كأمم منفصلة وحدتها المثل السوفييتية، ولكن سرعان ما تفككت تلك المثالية إذ كان جوزيف ستالين مهووسًا بتدمير أوكرانيا. قتلت "هولودومور" أو المجاعة المصطنعة في 1932-1933 ملايين الأوكرانيين، على الرغم من وجود نقاش حاد بين المؤرخين حول مدى استهداف الأوكرانيين عمدًا. قُمعت الثقافة الأوكرانية منهجيًا، كما حُظر تدريس اللغة الأوكرانية في المدارس.

ومع ذلك، كان نيكيتا خروتشوف، خليفة ستالين، أوكرانيًا وكان رئيسًا للحزب الشيوعي لأوكرانيا حتى عام 1949، لذلك رأى في ارتباط أوكرانيا بالنظام السياسي السوفييتي مع درجة معينة من الاستقلالية سيكون أكثر فاعلية من الإبادة الصريحة، وكجزء مما يسمى بعملية التطبيع في عام 1957، أُنشئت مجالس اقتصادية إقليمية بالإضافة إلى المجالس الاقتصادية الجمهورية لتعزيز الحكم الذاتي الأوكراني. واكتسبت الجمهورية الاشتراكية السوفييتية الأوكرانية الحق في تمرير قوانينها الخاصة في هذا المجال طالما كانت متوافقة مع تشريعات الاتحاد ومطلوبة من الأجهزة النقابية. أصبحت كييف عاصمة سوفيتية قياسية للغاية، ولم تحصل على أي اهتمام أو امتيازات خاصة، لتتوافق بشكل أفضل مع بقية دول الاتحاد السوفييتي. قُلل من مكانتها الخاصة في تاريخ السلافيين الشرقيين وتم تجاهلها، لأنها لم تدخل في الرواية السوفييتية التي أراد أصحاب السلطة تشكيلها.

خريطة لروسيا وموسكوفي وأوكرانيا حوالي عام 1574

لكن هذا الأمر بات يعد مشكلة أكبر بالنسبة لروسيا الحديثة، فبدون المرونة الأيديولوجية للسوفييت أو الامتداد الإقليمي للإمبراطورية القديمة، يقدم بوتين نفسه كشخصية قيصرية. لأنه يريد أن يدخل كتب التاريخ باعتباره الموحِّد الكبير للأراضي الروسية، حتى إن لم يكن تحت نفس الحكومة، فتحت القوة المهيمنة للعالم الروسي.

لطالما قدم بوتين نفسه كقائد مجيد ومنتصر، خذ على سبيل المثال خطاب النصر الذي ألقاه بعد انتخابات 2012، أو كيف أنه بعد ضم شبه جزيرة القرم شدد على الأهمية التاريخية لإعادة التوحيد في خطابه أمام نواب مجلس الدوما، واصفًا إياه بـ "العودة إلى الوطن"، وتركيزه على المجد العسكري الروسي في الماضي. كانت أهدافه واضحة أيضًا في رد فعله على أي محادثات يابانية حول صفقة تتعلق بجزر الكوريل[7]. كما قام ببناء قصر ضخم وفخم لنفسه، مع نسور مطلية بالذهب برأسين، وهو رمز إمبراطوري روسي واضح، ووضع الرمز في كل مكان، حتى في نادي التعري الشخصي له. تساعده الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على تهدئة السكان ودعم كل الأساطير التي يريد الكرملين تمجيدها.

يريد بوتين أن يُصدّر نفسه كوريث شرعي للإرث السوفييتي، وفي نفس الوقت، أن يُنظر إليه من منظور الأباطرة القدامى. لذلك ، كان لزامًا عليه أن يعيد التأكيد على الأساطير والقيم الإمبراطورية القديمة، ولكي يفعل ذلك، عليه أن يضع كييف تحت سيطرته. فبعد كل شيء، كانت "كييف روس" المستعادة هي روسيا أو روما الثالثة. تسير أوكرانيا بطريقتها الخاصة، مدعية أن كييف روس إرثها، وتبتعد عن موسكو، وتحصل على الاستقلال في كنيستها الأرثوذكسية، وكل هذا يتعارض مع أساطير الدولة الروسية. هذه الأساطير الإمبراطورية هي التي تحدد روسيا وما يعنيه أن تكون روسيًا. وبدون هذه الأساطير، روسيا لن تعود روسيا في نظر الكثيرين. يقتنع بوتين أشد الاقتناع بأنه إذا عُطّلت هذه الأساطير الاجتماعية فسوف تتشظى روسيا وتتقسم مرة أخرى، وإذا سمح بحدوث ذلك، فإن إرثه سيتدمر. لا يمكن أن تكون هناك، بالنسبة له، لغة أو ثقافة أو تاريخ أوكراني منفصل.

تواجه أوكرانيا في الوقت نفسه، معضلة مماثلة. حيث تشعر بأنها الوريث الحقيقي لـ"كييف روس"، وليست روسيا. يحتاج الأوكرانيون إلى فصل "كييف روس" عن روسيا الحديثة وإظهار تاريخهم الخاص. لقد رأوا ما حدث بقبول الأساطير الروسية في بيلاروسيا، حيث تلوح المعارضة الآن بعلم أبيض وأحمر وأبيض في احتجاجات من حقبة الكومنولث البولندي الليتواني، متجاهلة النزعة القومية التاريخية الروسية.

وبهذا يستمر الصراع. وسيستمر ما دامت روسيا تريد أن تكون في الواقع قادرة على تسمية نفسها روسيا، كما تعرف نفسها، وما دام يريد المنحدرون الآخرون من "كييف روس" أن يقرروا مصيرهم وأن يكون لهم لغتهم وتاريخهم وتقاليدهم الخاصة، دون تدخل من موسكو. يمكن التعامل مع القضايا الاقتصادية وإعطاء الضمانات الأمنية وإبرام الصفقات الجديدة، لكن هذه المشاكل القديمة لا يمكن حلها إلا من خلال بناء مشروع جديد تمامًا، بمُثُل جديدة وأساس جديد للشرعية لا يحتاج إلى أساطير تاريخية لدعمه. ربما حان الوقت لإسقاط روما الثالثة. ولمنح هذه الأساطير القديمة دفنًا يليق بها، وفي الوقت نفسه علينا أن نلتزم بعدم بناء روما رابعة.


[1] سلاسة من تأسيس الفايكنغ السويديين. بدأت بفرض روريك نفسه أميرًا في نوفگورود في عام 862 ميلادي – المُترجم.

[2] أو فيليكي نوفگورود وتعني المدينة الجديدة العظيمة – المُترجم.

[3] أو أوليگ العرَّاف وقد كان أمير نوفگورود (من عام 879) وأميرًا لكييف (من عام 882) – المُترجم.

[4] أو فلاديمير الأول، أمير كييف منذ 978 حتى 1015 – المُترجم.

[5] أُطلق عليه لقب مونوماخ نسبة إلى أمه مريا مونوماخ وهي ابنة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع – المُترجم.

[6] مواجهة بين قوات أحمد خان والأمير الكبير إيفان الثالث من موسكو في عام 1480 على ضفاف نهر أوگرا، وانتهت بمغادرة التتار دون صراع، وينظر إلى هذه المواجهة في علم التأريخ الروسي على أنها نهاية حكم التتار/المغول لموسكو – المُترجم.

[7] تتألف من أربع جزر تقع بين شبه جزيرة كامشاتكا الروسية وجزيرة هوكايدو اليابانية، وتقع جميع الجزر تحت الإدارة الروسية. تطالب اليابان بالجزر الأربع الواقعة في أقصى الجنوب، بما في ذلك اثنتان من أكبر ثلاث جزر (إيتوروب وكوناشير)، كجزء من أراضيها بالإضافة إلى جزر شيكوتان وهابوماي، مما أدى إلى النزاع المستمر، وتعرف الجزر المتنازع عليها في اليابان باسم "الأقاليم الشمالية" للبلاد – المُترجم.

التعليقات