19/03/2022 - 10:46

الحرب في أوكرانيا تختبر حيادية العملات الرقميّة

جعلت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية ضد روسيا من العملات الرقمية موضوعًا جدليًا في السياسة الدولية لمن تنحاز العملات الرقمية؟إذا سألنا ساتوشي ناكاماتو، مؤسس عملة بيتكوين، فمن المحتمل أن يرفض السؤال

الحرب في أوكرانيا تختبر حيادية العملات الرقميّة

مبنى مدمر بعد تعرضه لقصف مدفعي في كييف (توضيحية - أ ب)

في ما يلي ترجمة خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال الكاتب في مجلة "وايرد" الأميركية (Wired)، جيان إم. فولبيتشيللي، المختص بالعملات الرقمية والعلاقات الدولية. ترجمة: أنس سمحان.


لمن تنحاز العملات الرقمية؟ إذا سألنا ساتوشي ناكاماتو، الشخص (أو الأشخاص) المسؤول عن إنشاء عملة بيتكوين الرقمية في عام 2008، فمن المحتمل أن يرفض السؤال، إذ أن الهدف الأساسي من العملات الرقمية مثل البيتكوين يتمثّل في حياديتها، لحقيقة أنه لا يمكن لأي حكومة أو بنك أو كيان منعك من استخدامها، سواء كنت تستخدمها لدفع ثمن بيتزا أو كتاب محظور أو كيس من الكوكايين.

أخذ هذا بالتغير بالطبع، فبمجرد أن صارت العملات الرقمية وسيلة مثالية للمعاملات الإجرامية مثل برامج الفدية وأسواق الإنترنت المظلم، طالبت الجهات القانونية في جميع أنحاء العالم بأن تقوم البورصات وغيرها من العملات الرقمية الخارجة عن إطار المراقبة بحظر الحسابات المرتبطة بالأنشطة الإجرامية أو المجرمين، على الرغم من أن الصفقات غير المشروعة مثلت 0.15% فقط من حركة العملات الرقمية العالمية في عام 2021.

لكن غزو روسيا لأوكرانيا أمر مختلف، فمن طبيعة العملات المشفرة أنها لا تعرف الحدود، وسعى كثير من الشباب المتحمسين أصحاب الملايين من العملات الرقمية لاستخدام هذه العملات وسيلةً لجمع الأموال نصرةً لأوكرانيا، خصوصًا الغاضبين من تصرفات موسكو، وتولدت في هذا الوقت مخاوف من احتمال التجاء المسؤولين الحكوميين الروسيين والدائرة المقربة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتَّهربِ من العقوبات الغربية عن طريق نقل أصولهم إلى العملات الرقمية.

يقال إن منصات تبادل العملات الرقمية تمنع جميع المعاملات من الحسابات المعروفة بارتباطها بأفراد خاضعين للعقوبات، فمثلًا، منعت منصة Coinbase يوم الإثنين الماضي، أكثر من 25,000 عنوانًا مرتبطًا بروسيا لاحتمال علاقتها بأنشطة غير مشروعة، وذلك امتثالًا للعقوبات المفروضة على روسيا، ومن المعروف أن منصة Binance، أكبر بورصة عملات رقمية في العالم، قد حددت بالفعل وحظرت محفظة واحدة على الأقل مرتبطة بشخص خاضع للعقوبات، واعتمدت نهجًا استباقيًا عبر التحقيق وحظر حسابات الأشخاص المعروفين بارتباطهم بالأفراد المستهدفين بالعقوبات، وصارَ يُطلب في التبادلات من معظم الدول الغربية إجراء فحوصات "اعرف عميلك – KYC" ومكافحة غسل الأموال، على الرغم من أن بعضها، بما في ذلك Binance، قد تعرضت لانتقادات سابقة واتهامات بتراخٍ مزعوم من طرفها في التحقق من عملياتها.

وفي هذا السياق، يعتقد نائب رئيس شركة Binance للاستخبارات والتحقيقات العالمية، تيغران جامباريان، أن مزاعم دعم العملة الرقمية لروسيا مبالغ فيها، ويقول: "لا تعتبر العملات الرقمية طريقة فعالة للغاية للحكومات وللدول القومية لتفادي العقوبات، وتوجد طرق أخرى لتحريك مليارات الدولارات باستخدام النظام المالي الحالي، بدلاً من استخدام العملات الرقمية".

وذلك لأن نقل مبالغ كبيرة من المال عبر العملات الرقمية يصعب إخفاءه، وإذا حاول أحدهم تحويل أمواله الرقمية إلى عملة ورقية خارج روسيا، فسيثير هذا انتباه البورصات والمحققين، ويضيف جامباريان إن تقنيات التشويش مثل "تمبلرز/الخلاّطات"[1] أو المحافظ التي تتلقى العملات الرقمية من حسابات مختلفة وتدفعها لإخفاء المصدر، ليست مصممة لنقل مبالغ كبيرة وتميل إلى أن تكون بطيئة، بالإضافة إلى أن جميع معاملات العملة الرقمية تجري في دفتر حسابات عام يُعرف بسلسلة الكتل blockchain، مما يؤدي إلى إنشاء سجل دائم يعتبر غير مرغوب فيه من قبل المؤسسات الساعية لإخفاء آثارها.

ولا يزال من الممكن أن تحدث بعض الصفقات غير المشروعة تحت الرادار، خصوصًا أن شركات التبادل والامتثال للعملات الرقمية لا تعرف بالضرورة جميع المحافظ التي يسيطر عليها وكلاء فرد مدرج في قائمة العقوبات. وتقول رئيسة السياسة العامة الدولية والبحوث في شركة Chainalysis للتحليل الجنائي، كارولين مالكولم، إنه "من الناحية التاريخية، رأينا مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي يسمي محافظ رقمية محددة ترتبط بالكيانات الخاضعة للعقوبات، إلا أننا لم نر أيًا منها حتى الآن، خصوصًا أننا نراقب ما إذا كان مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، أو أي من كيانات العقوبات الأخرى في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، سيواصلون تسمية عناوين المحافظ، إذ إنه من الواضح أنه ليس أمرًا يمكن القيام به بين عشية وضحاها. ربما تهرب الكثير من المحافظ الرقمية منهم".

ما تعرفه شركات امتثال العملات الرقمية هو أن تداول العملات الرقمية في الوقت الحالي يرتفع بشكل كبير في كل من روسيا التي تعاني من العقوبات وأوكرانيا التي مزقتها الحرب، ووفقًا للأرقام الصادرة عن شركة تحليلات العملات الرقمية Kaiko، التي استشهدت بها "بلومبرغ"، اعتبارًا من 28 شباط/ فبراير الماضي، ارتفعت كميات البيتكوين المُتداولة بالروبل الروسي إلى أعلى نقطة منذ أيار/ مايو 2021، بينما وصلت أحجام التداول على الهريفنا الأوكرانية إلى أعلى مستوياتها منذ تشرين الأول/ أكتوبر، وأبلغت Kaiko عن نمط مماثل من التجارة المطّردة بين العملتين وعملة Tether الرقمية، وهي "عملة مستقرة" يُقال إن قيمتها مرتبطة بالدولار الأميركي.

وتضغط الحكومة الأوكرانية من أجل فرض حظر شامل على معاملات العملات الرقمية القادمة من جميع الأفراد الروس، بغض النظر عن حالة العقوبة، من أجل "التخريب على المستخدمين العاديين" والضغط على نظام بوتين. قاومت البورصات هذه الدعوة حتى الآن، وعارض الرؤساء التنفيذيون لشركة Binance وشركة Kraken في الولايات المتحدة هذه الفكرة بشدة، مستشهدين بالأسس التحررية للعملات الرقمية، ونشر كبير المسؤولين التنفيذيين في Binance، تشانغ بينج تشاو، تدوينة يوم الجمعة، يوضح بالتفصيل هذا الموقف وشارحًا أن العملة الرقمية أداة غير محتملة لروسيا للتحايل على العقوبات.

ومع ذلك، إذا طلبت السلطات الأميركية أو الأوروبية من شركات التبادل الرقمي القيام بذلك، فسيتعين عليها اللجوء إلى تقنيات الحظر الجغرافي من أجل منع جميع الروس من استخدام خدماتهم، ووفقًا لأحد المؤشرات، تحتل روسيا المرتبة 18 في العالم في تبني العملات الرقمية وفقًا لـ Chainalysis، وقدَّرت بلومبرغ أن روسيا موطن لما لا يقل عن 214 مليار دولار من العملات الرقمية، أو 12% من إجمالي قيمة الصناعة. كما وتحتل روسيا أيضًا المرتبة الثالثة بين جميع البلدان في تعدين البيتكوين، وهي عملية كثيفة لاستهلاك الطاقة المستخدمة لسك وحدات جديدة من العملة، مُباشرة بعد الولايات المتحدة وكازاخستان، وهي دولة صديقة لموسكو.

وكان البنك المركزي الروسي قد اقترح في الآونة الأخيرة حظرًا على العملات الرقمية، إلا أن الحكومة الروسية أعلنت قبل أيام من غزو أوكرانيا، عن لوائح جديدة تهدف إلى تشجيع نمو القطاع. من الصعب استيعاب تأثير إزالة جميع الرموز المميزة للعملات الرقمية الصادرة من روسيا أو المعدّنة في روسيا على صناعة العملات الرقمية العالمية، ولكن مثل هذا الحدث سيكون لحظة حاسمة، ومن المحتمل أن يؤدي لخلق انقسامات عميقة في مجتمع العملات الرقمية بين أولئك الذين يؤيدون نبذ روسيا وأولئك الذين يتمسكون بأخلاقيات العملة المحايدة.

توضيحية (pixabay)

بالطبع، قد يحدث العكس أيضًا: قد تطلب موسكو من البورصات التي تتخذ من روسيا مقرًا لها حظر جميع المعاملات من الحسابات المرتبطة بالحكومات الغربية، أو من تلك التي لها تاريخ في التبرع لأوكرانيا، وفي الوقت الحالي، لم يحدث أيًا من هذا.

ودعا وزير التحول الرقمي الأوكراني والخبير التكنولوجي ميخايلو فيدوروف، في هذه الأثناء، إلى تقديم تبرعات بالعملات الرقمية لمحافظ الحكومة التي تستضيفها شركة كونا KUNA لتبادل العملات الرقمية، وقد جمعت حملة التمويل الجماعي أكثر من 51 مليون دولار من مختلف العملات اعتبارًا من 3 آذار/ مارس الجاري، وفقًا لمؤسس كونا، مايكل شوبانيان، وفي مقابلة مع كوين ديسك CoinDesk، قال شوبانيان إن كبار الشخصيات الرقمية بما في ذلك مؤسسي عملة الإثيريوم (Ethereum) غافين وود وفيتالك بوتيرين، ومصمم عملة ترون (TRON)، جستين صَن، قد تبرعوا بمبالغ كبيرة من أجل القضية.

كما تعاون الرئيس التنفيذي لشركة EverStake blockchain، سيرجي فاسيلتشو، مع كييف لإطلاق منظمة مستقلة لامركزية (DAO) تعتمد على منصة سولانا (منصة سلسلة كتل) لجمع التبرعات للجيش الأوكراني من الأفراد الذين يشعرون بعدم الارتياح للتبرع المباشر، وصرّح فاسيلتشو بأن "العديد (من مالكي العملات الرقمية) أبدوا خوفهم، ولا يستطيع الكثير منهم التبرع مباشرة بسبب قواعد الامتثال وسجل التحويل العام، ولهذا ساعدتنا سولانا في إطلاق هذه المنظمة"، والتي جمعت حتى الآن أكثر من مليون دولار من العملات الرقمية وحولت بعضها إلى القوات الأوكرانية بالفعل. وقدم المانحون للمنظمة أيضًا ثلاثة رموز غير قابلة للاستبدال أو NFTs (a WOOFer, a Chicky Town chick, and a photo of sunflowers). وتنبري خطة كييف الأولية لمكافأة جميع المتبرعين بالعملات الرقمية عبر رموز الخدمات Tokens باستخدام تقنية تعرف بالـ "airdrop" في دوائر العملات الرقمية، إلا أنها استبدلت تلك الخطة بوعد بإصدار رموزٍ حصرية غير قابلة للاستبدال.

وتحول الإنترنت العالمي والإنترنت الروسي في أقل من أسبوعين، ومع خروج شركات الإنترنت والتكنولوجيا الغربية أو طردها من روسيا إلى عالمين مختلفين، وصارت العملات الرقمية إحدى الخيوط القليلة التي لا تزال تمتد على طول الصراع، ولكن مع مرور الوقت دون إيجاد حلٍ واقعٍ، سترتفع وتيرة تحول العملات الرقمية لساحة معركة، وسيُطلب من شركاتها وممثليها اتخاذ موقف واضح، وعلى الرغم من رؤية ناكاموتو، قد لا يكون الحياد خيارًا متاحًا بعد الآن، وكما قال فيتاليك بوتيرين نفسه بعد إدانة بوتين على تويتر، أود "التذكير بأن عملة الإثيريوم Ethereum محايدة، لكنني لست كذلك".


[1] وهي خدمة يقدمها طرف ثالث يقوم بعملية التمويه أو التعتيم لمسار المعاملات المالية المنفذة بواسطة العملات الرقمية ضمن شبكة سلسلة الكتل بين المرسل والمستقبل لها، وتهدف إلى تغطية العمليات القائمة على غسل عائدات الجريمة بحيث يصعب لأي طرف ضمن الشبكة تتبع مسارها والتعرف على أصول الأموال (إخفاءً لهوية المرسل) – المُترجم نقلًا عن دراسة عن "العملات المشفرة" أصدرتها دائرة الإشراف والرقابة على نظام المدفوعات الوطني في البنك المركزي الأردني 2020.

التعليقات