21/03/2023 - 16:23

أسطورة العالميّة

السبب الرئيسيّ وراء انحراف الشبكات الإقليميّة بسيط: الجغرافيا. ما يزال نقل البضائع عبر المحيطات مكلّفًا للوقت والمال، حتّى مع سفن الحاويات الضخمة، وتضيف الرحلة عبر المحيط الأطلسيّ أسبوعًا إلى التسليم

أسطورة العالميّة

(Getty)

تتكرّر صيغة ثابتة لا جدال فيها في السياسة الخارجيّة، وهي أنّ العالم صار معولمًا، فخزَانات الناس صارت مليئة بملابس خِيطت في بلدان أخرى، وغالبًا ما تُجمّع الإلكترونيّات والسيّارات في غير أماكن استهلاكها. يتدفّق الاستثمار الأميركيّ إلى الأسواق الآسيويّة، وينتقل الهنود إلى الولايات المتّحدة للدراسات العليا. تظهر الأرقام حجم التبادل الدوليّ: يبلغ حجم التجارة الدوليّة حوالي 20 تريليون دولار، أي ما يقرب من عشرة أضعاف ما كان عليه عام 1980. انتعشت تدفّقات رأس المال الدوليّة انتعاشًا ضخمًا خلال تلك الفترة: من 500 مليار دولار سنويًّا إلى أكثر من 4 تريليونات دولار. يسافر الآن، خارج حدودهم القوميّة، ما يقرب من خمسة أضعاف عدد الأشخاص مقارنة بأربعة عقود مضت.

ويبقى الادّعاء، بأنّ هذا التدفّق من السلع والخدمات والأشخاص عالمي الحجم على الدوام، ادّعاء مضلل، حتّى بعد كلّ الأرقام أعلاه، فالعولمة، كما تفهم عمومًا في الغالب، أسطورة، والعالم في الواقع أقرب إلى الأقلمة أكثر منه إلى العولمة، لأنّ الشركات وسلاسل التوريد والأفراد يختارون عند سفرهم أماكن قريبة من وطنهم أو دولتهم القوميّة، ولا يخرجون عشوائيًّا.

ولنأخذ التجارة على سبيل المثال: إذا لم تؤثّر المسافات الطويلة على المبيعات الدوليّة، فستكون الرحلة النموذجيّة لأيّ عمليّة شراء معيّنة حوالي 5,300 ميل[1] (متوسّط المسافة بين بلدين اختيرا عشوائيًّا)، ولكن حاليًّا، نصف ما يباع خارج الحدود القوميّة للدول يسافر أقلّ من 3,000[2] ميلًا، وهو ما يعادل رحلة جوّيّة فوق الولايات المتّحدة، وعليه، فهي ليست مسافة بعيدة لتحسب أنّها عابرة للمحيطات.

خلصت دراسة أجرتها شركة دي إتش إل للخدمات اللوجستيّة (DHL) وباحثون في كلّيّة ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك إلى أنّه «إذا كانت توجد دولتان بعيدتان بمقدار النصف عن دولتين أخرتين، فمن المتوقّع أن يؤدّي هذا القرب الجيوغرافيّ وحده إلى زيادة تجارة البضائع بين الدولتين الأقرب بأكثر من ثلاث مرّات».

وكانت توسعات الشركات في الخارج إقليميّة أكثر منها عالميّة، حيث أظهرت دراسة عن فورتشن جلوبال 500، وهي قائمة بأكبر الشركات في العالم، أنّ دولارين من كلّ ثلاثة دولارات من مبيعاتها تأتي من أفرع في دول الشركات الأمّ، ووجدت دراسة أجريت على 365 شركة بارزة ومتعدّدة الجنسيّات أنّ تسعة منها فقط كانت عالميّة حقًّا، ما يعني أنّ كلًّا من آسيا وأوروبا وأميركا الشماليّة مثّلت على الأقلّ 20% من مبيعاتها.

وبناء على ذلك يكون اسم المصطلح المتكرّر في كثير من الأحيان «سلاسل التوريد العالميّة» اسم خاطئ، إذ إنّ الأشياء الّتي تصنع في أكثر من بلد، تميل بلدانها لتكون أكثر إقليميّة من شراء وبيع المنتجات النهائيّة: فالقطع والأجزاء الّتي تتجمّع في التصنيع الحديث من المرجّح تشحن بين البلدان المجاورة أكثر من احتماليّة شحنها من بلدان بعيدة عنها.

كما أنّ تدفّقات رأس المال الدوليّة إقليميّة أكثر منها عالميّة، فلا يستثمر المشترون الدوليّون الأسهم والسندات والأدوات الماليّة الأخرى بقدر ما يتوقّع المرء بالنظر إلى مدى عالميّة خياراتهم، وفي المتوسّط لا يتجاوزون المسافة بين طوكيو وسنغافورة. ويميل الاستثمار الأجنبيّ المباشر إلى اتّباع حركة التجارة، حيث يتداول أكثر من نصف التمويل «العابر للحدود» داخل الاتّحاد الأوروبّيّ وحده، كما أنّ الإقراض والاقتراض والاستثمار الأجنبيّ المباشر في آسيا آخذ في الازدياد الآن من البنوك والشركات الآسيويّة.

يميل الناس إلى توجيه حياتهم إقليميًّا أيضًا، فلا يغادر معظم الناس بلدانهم على الإطلاق، ومن يسافر منهم، نصفهم لا يغادر المنطقة الّتي يعيش فيها. والغالبيّة العظمى من المسافرين في الإجازات في أوروبا، هم أوروبّيّون، وينطبق الأمر نفسه على الناس في آسيا وأميركا الشماليّة. وينزع أولئك الّذين يسافرون دائمًا لاختيار إلى بلدان قريبة من بلدانهم الأصليّة، وأغلبهم لا يغادرون أقاليم دولهم مباشرة. وعلى الرغم من أنّ الطلّاب الّذين يغامرون دوليًّا يميلون إلى الذهاب أبعد من المسافرين الآخرين، فإنّ 40% منهم لا يغادرون المنطقة الجغرافيّة الّتي ولدوا فيها.

تحصل أكثر من نصف التدفّقات الدوليّة للسلع والمال والمعلومات والأشخاص داخل ثلاثة محاور إقليميّة رئيسيّة: آسيا وأوروبا وأميركا الشماليّة. بدأ الصعود الاقتصاديّ للصين وكوريا الجنوبيّة وتايوان وفيتنام باستثمارات ومدخلات إقليميّة. وجاء النموّ السريع في أوروبا الشرقيّة لارتباطها بأوروبا الغربيّة. زاد حجم اقتصاد المكسيك بين عامي 1993 و2007 بأكثر من الضعف، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى اتّفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة (نافتًا NAFTA)، الّتي وقعت عليها المكسيك مع كندا والولايات المتّحدة في عام 1993.

وقد ترك تجاهل واقع وحقيقة الأقلمة آثارًا سياسيّة على الولايات المتّحدة الأميركيّة، فعلى الرغم من مراجعة «نافتا» في عام 2020، وصارت الآن اتّفاقيّة الولايات المتّحدة والمكسيك وكندا (أوسمكا USMCA)، فما يزال محور أميركا الشماليّة غير متكامل مثل نظيره في شرق آسيا وأوروبا. حافظ الإنتاج المحلّيّ على تفوّقه في الصناعات الّتي تطوّرت فيها سلاسل التوريد الإقليميّة في أميركا الشماليّة وتوطّدت من أجلها، ولكن في قطاعات أخرى، بما في فيها الإلكترونيّات والمنسوجات، أدّت الأقلمة المحدود للغاية في القارّة إلى انتقال صناعات بأكملها إلى أيّ مكان توفّر فيه الروابط الإقليميّة الفرصة.

لو فكّرنا افتراضيًّا ومثاليًّا، سيكون لزامًا على الولايات المتّحدة أن تدخل في صفقات تجاريّة دوليّة لتوسيع نطاق وصولها إلى الأسواق والسعي لتحقيق أهدافها الجيوسياسيّة، مثل مواجهة صعود الصين، غير أنّ ذلك لا يبدو ممكنًا سياسيًّا في الوقت الراهن، وقد تكون السياسة الأكثر قابليّة للتطبيق هي تقوية الشبكة الإقليميّة والاستفادة منها، ما من شأنه أن يسمح لواشنطن بالوصول إلى مساحة أوسع من السوق العالميّة وتجنّب فقدان المزيد من ميزتها التنافسيّة لصالح البلدان الّتي توسّع بصماتها الإقليميّة.

لماذا تتفوّق الإقليميّة على العالميّة؟

السبب الرئيسيّ وراء انحراف الشبكات الإقليميّة بسيط: الجغرافيا. ما يزال نقل البضائع عبر المحيطات مكلّفًا للوقت والمال، حتّى مع سفن الحاويات الضخمة، وتضيف الرحلة عبر المحيط الأطلسيّ أسبوعًا إلى التسليم، وتضيف الرحلة عبر المحيط الهادئ شهرًا قبل ظهور قطع الغيار أو البضائع في المستودعات والمصانع الأميركيّة، وهذا يعني أنّ المنتجين والمخازن بحاجة إلى الاحتفاظ بمخزونات أكبر من السلع الّتي تأتي من أماكن بعيدة.

وليست البضائع وحدها الّتي يمكن أن تتأخّر أو أن تفقد عند الاتّجار بها لمسافات طويلة، لأنّه حتّى في عصر المكالمات المجّانيّة عبر الإنترنت ومحادثات الفيديو ومشاركة الملفّات، تضيف الصعوبة المتأصّلة في التواصل والتنسيق عبر المكان والزمان إلى تكاليف ممارسة الأعمال التجاريّة. تختلف الإشارات اللغويّة والثقافيّة حسب الدولة، وغالبًا ما تنمو هذه الاختلافات مع المسافة. (هذا هو أحد أسباب حدوث ربع التجارة بين الدول الّتي تشترك بلغة واحدة). وتميل القواعد القانونيّة والمعايير الإداريّة أيضًا لأن يكون لها أثر مشابه كلّما كانت الدول قريبة من بعضها، ممّا يلغي الحاجة إلى وجود فرق مكرّرة من المحامين والمحاسبين والمتخصّصين في الموارد البشريّة؛ ومع زيادة المسافة بين الأشخاص، يمكن أن تزداد صعوبة المهمّة الضروريّة وغير الملموسة المتمثّلة في إيجاد الأمور المشتركة وبناء الثقة والتفاهم للعمل الجماعيّ.

تميل المواثيق التجاريّة أيضًا إلى أن تكون إقليميّة، وعلى الرغم من أنّ التسعينيّات شهدت إنشاء منظّمة التجارة العالميّة (WTO) وتوسيع عضويّتها وسلطاتها الرقابيّة، فإنّ ما كان مهمًّا، إن لم يكن الأكثر أهمّيّة، على مدار الثلاثين عامًا الماضية هو انتشار اتّفاقيّات التجارة الحرّة الثنائيّة ومتعدّدة الأطراف، والّتي توقّع دائمًا مع دول تتشارك الإقليم نفسه. اتّجهت الدول الأوروبّيّة أوّلًا إلى بعضها البعض من أجل التجارة. انضمّت البرازيل إلى الأرجنتين وباراغواي والأوروغواي. وبعد التوصّل إلى اتّفاق تجاريّ ثنائيّ مع إسرائيل، اتّجهت الولايات المتّحدة إلى كندا والمكسيك، ولاحقًا إلى عشر دول أخرى في نصف الكرة الغربيّ. تجمّعت الدول الآسيويّة معًا من خلال منطقة التجارة الحرّة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان ASEAN) ثمّ اتّجهت إلى اتّفاقيّة الشراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشاملة (RCEP). وتعدّ الترتيبات العالميّة مثل الاتّفاقيّة الشاملة والتقدّميّة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، الّتي خلّفت اتّفاقيّة أعدّتها واشنطن، وتخلّت عنها الولايات المتّحدة لاحقًا، حتّى الآن استثناء أكثر من القاعدة.

ترى الشركات اختلافات في صافي أرباحها اعتمادًا على انتشارها الجغرافيّ، وتحرّكت كثير من الشركات إلى الخارج لزيادة دخلها، مستفيدة من المزايا الدوليّة لتنوّع المهارات وانخفاض تكاليف الأجور، ولكنّها إذا ابتعدت كثيرًا، فستبدأ التكاليف في الارتفاع مرّة أخرى. وجدت دراسة أكاديميّة شملت 123 شركة أميركيّة متعدّدة الجنسيّات في عام 2010 أنّ العائدات على الأصول تحسّنت مع توسّع الشركات دوليًّا داخل أقاليمها، ولكنّها انخفضت عندما غامرت بعيدًا عن أقاليمها. تصف مجموعة الاستشارات الإداريّة ماكينزي آند كومباني (McKinsey & Company) هذا الأمر بـ «تكلفة العولمة»، حيث وجدت في دراسة استقصائيّة شملت 500 شركة متعدّدة الجنسيّات أنّ أرباحها تضاءلت مع توسّع عمليّاتها، ويبدو أنّ المسافة المثلى لأرباح القطاع الخاصّ تتلخّص في منطقة غولديلوكس[3]: فهي ليست قريبة جدًّا، ولكنّها ليست بعيدة جدًّا.

قاعدة الثلاثة

تكتسب قوّة الشبكات الإقليميّة الّتي ينتمي إليها بلد ما أهمّيّة خاصّة، مقارنة بالشبكات العالميّة، وهو ما يجعل الدول الأوروبّيّة في صدارة المستفيدين من هذا النوع من الشبكات، لأنّه وعلى الرغم من أنّ خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ، وعلى الرغم من تزايد التشكّك من أن تجعل الشعبويّة الاتّحاد الأوروبّيّ هشًّا، فإنّ القارّة الأوروبّيّة في الواقع المنطقة الأكثر تكاملًا في العالم، لأنّ العلاقات والروابط العميقة بين بلدانها صارت متجذّرة منذ أكثر من نصف قرن في الصفقات الدبلوماسيّة الّتي خلقت سوقًا واحدة، وجواز سفر مشتركًا، وعملة مشتركة، ويصنع الأوروبّيّون اليوم المنتجات معًا، ويبيعون لبعضهم البعض، مع بقاء ما يقرب من ثلثي تجارة الاتّحاد الأوروبّيّ داخله؛ وعلى نحو مماثل، يتجاوز الاستثمار الأوروبّيّ الداخليّ نظيره في بقيّة العالم بنسبة 50%.

وليست آسيًا ببعيدة في تكاملها عن أوروبا، فوفقًا لبنك التنمية الآسيويّ، ارتفعت نسبة التجارة داخليًّا في الإقليم من 45% في عام 1990 إلى ما يقرب من 60%، متجاوزة أميركا الشماليّة ومقتربة من أوروبا. عقود من التنمية الموجّهة نحو التصدير الّتي يقودها قادة الأعمال الآسيويّين والمدعومة من الحكومات ربطت بلدًا تلو الآخر معًا من خلال سلاسل التوريد الإنتاجيّة، فالبلدان الآسيويّة تصنع منتجاتها مشتركة وتشتري بشكل متزايد من بعضها البعض: ما يقرب من ثلث السلع النهائيّة الآسيويّة تباع للمستهلكين في المنطقة.

كما عمقت دول أميركا الشماليّة روابطها الاقتصاديّة مع بعضها البعض، حيث ارتفعت التجارة بين كندا والولايات المتّحدة والمكسيك في أعقاب اتّفاقيّة التجارة الحرّة «نافتًا» أربعة أضعاف، متجاوزة بذلك حجم التجارة بينها وبين الدول الأخرى خارج منطقة الاتّفاقيّة؛ وأصبح الاستثمار بعدها أيضًا أكثر إقليميّة، وخاصّة بالنسبة للمكسيك، حيث ومنذ توقيع اتّفاقيّة التجارة الحرّة عام 1993، صار دولار ا واحدًا، من كلّ دولارين يتدفّقان إليها، يأتي من جيرانها. وتوسّعت في أميركا الشماليّة، على وجه الخصوص، سلاسل التوريد الزراعيّة والتصنيع، وتعزّزت على مدار التسعينيّات، ممّا أدّى إلى قفزة التجارة الإقليميّة بأكثر من الربع.

لكنّ هذا التكامل لم يدم طويلًا، فبعد انضمام الصين إلى منظّمة التجارة العالميّة في عام 2001، تضاءلت التبادلات الإقليميّة، حيث انخفضت من حوالي 47% من إجماليّ تجارة القارّة في عام 2000 إلى مستوى منخفض بلغ 39% في عام 2009، وذلك قبل أن تتعافى قليلًا إلى حوالي 40% بحلول عام 2018، ولكن وعلى الرغم من أنّ الروابط الداخليّة في أميركا الشماليّة أقلّ قوّة من نظيرتها في آسيا وأوروبا، فإنّها تفوق بكثير تلك الموجودة بين بلدان إفريقيا وأميركا اللاتينيّة والشرق الأوسط وجنوب آسيا وهي المناطق الّتي يحدث فيها أقلّ من ربع التجارة والاستثمار بين الجيران.

في الوقت المناسب

دفع إغلاق الحدود وارتفاع تكاليف النقل الشركات خلال جائحة كوفيد -19 إلى التفكير في تقريب الإنتاج مواطنها الأصليّة، وأصبحت الحكومات فجأة حريصة على ممارسة المزيد من السيطرة على سلاسل التوريد الدوليّة للمنتجات الصيدلانيّة والطبّيّة، كما سهّل لابتكار التكنولوجيّ المستمرّ على القطاع الخاصّ في الوقت نفسه توسيع الإنتاج في مختلف الأحياء الجغرافيّة، حيث تعمل الأتمتة على وجه الخصوص في جعل المصانع وسلاسل التوريد البعيدة أقلّ حيويّة وأقلّ ربحيّة؛ ممّا كانت عليه في الماضي، نظرًا لأنّ المستشعرات تراقب بشكل متزايد خطوط التجميع والمعدّات، وتتولّى الروبوتات وأشكال الأتمتّة الأخرى العديد من عمليّات ومهامّ التصنيع، وهو ما جعل الأجور أقلّ من تكاليف التشغيل، وأدّى هذا التطوّر إلى جعل الأماكن البعيدة، أقلّ جاذبيّة، خصوصًا أنّها كانت جذّابة بسبب العمالة الرخيصة.

كما تسهم أساليب التصنيع الجديدة، مثل الطباعة ثلاثيّة الأبعاد، في تغيير عمليّات التصنيع، ممّا يجعل الإنتاج على دفعات صغيرة رخيصًا، ويقلّل من الحاجة إلى مصانع متخصّصة: تقلّل هذه التطوّرات من عدد العمّال المطلوبين للشركات، وتغيّر في مجموعات المهارات الّتي تحتاجها، حيث صار الفنّيّون المهرة (ذوي الأجور الأعلى)، في العديد من القطاعات، أكثر أهمّيّة بكثير من العاملين في خطوط الإنتاج، ويقلّل هذا التحوّل من مزايا وفورات الحجم، ويمكن بعض الشركات على الأقلّ من تقريب الإنتاج من المستهلكين دون التضحية بالأرباح.

ونظرًا لأنّ المستهلكين يتوقّعون تسليمًا أسرع وإرضاء شبه فوريّ، أخذت قيمة الوقت في الازدياد أيضًا، وعليه فإنّ فترات التسليم الأطول للسلع الّتي تنتجها المصانع على بعد آلاف الأميال يمكن أن تعني خسارة المبيعات؛ كما أنّ شعبيّة المنتجات المخصّصة تجعل مرافق الإنتاج الضخمة في الخارج أقلّ أهمّيّة؛ ممّا كانت عليه في الماضي.

وتعمل التحوّلات الديموغرافيّة أيضًا على رفع أجور العمّال المنخفضة الّتي كانت ذات يوم تجتذب العديد من الشركات إلى البلدان النامية، مثل الصين، حيث انتهت، إلى حدّ كبير، الهجرة العظيمة إلى مصانعها والّتي جلبت أكثر من 200 مليون عامل من المناطق النائية إلى مراكز التصنيع، فبعد عقود من تنظيم الأسرة الصارم، يخرج المزيد من العمّال الآن من سوق العمل أكثر من دخوله، ويبدو أنّ هذا الاتّجاه سوف يتسارع: فمن المتوقّع أن تتقلّص القوى العاملة الوطنيّة للصين بمقدار 100 مليون شخص على مدى السنوات العشرين المقبلة. يتقلّص عدد السكّان في سنّ العمل في معظم أنحاء آسيا، ممّا يحدّ من تجمّعات العمالة، ويرفع معدّلات الأجور في قطاعات الإلكترونيّات وسلاسل التوريد الأخرى. ويتراجع عدد السكّان في سنّ العمل في أوروبا، أو أنّه سيبدأ بالانخفاض. توجّه ملايين المجريّين والرومانيّين وغيرهم من الأوروبّيّين الشرقيّين إلى جيرانهم الغربيّين بحثًا عن أجور وفرص أفضل، كما أنّ تدفّق المهاجرين -ومؤخّرًا اللاجئين- يعمل على تجديد القوى العاملة جزئيًّا فقط.

وثمّة عامل آخر يحدّ من العولمة وهو تغيّر المناخ. سيؤدّي الطقس الصعب إلى تقويض استمراريّة الخدمات اللوجستيّة بشكل متزايد، حيث تغمر الموانئ، وتتلوّي قضبان سكك الحديد، وتتعرّض الطائرات للعواصف بشكل متكرّر، وتزيد سلاسل التوريد الطويلة من خطر هذه الحوادث، ومن تكاليفها المحتملة. وفي الوقت نفسه، تؤدّي السياسات المصمّمة لإبطاء ارتفاع درجة حرارة الكوكب، عن طريق خفض الانبعاثات، إلى رفع أسعار النقل العالميّة، وتحفيز الشركات على تصنيع السلع بالقرب من الأسواق الاستهلاكيّة.

قوّة السياسة

ليست التحوّلات التكنولوجيّة والديموغرافيّة وتغيّر المناخ وحدهما هما اللّذان سيحدّان من العولمة، ويدفعان إلى مزيد من الأقلمة، بل يؤدّي التغيير السياسيّ دورًا فيها أيضًا، فبعد عقود من الانفتاح على الاقتصاد العالميّ، بدأت العديد من البلدان في الانسحاب إلى الداخل، وقد حسبت منظّمة التجارة العالميّة، وهي منظّمة غير ربحيّة تتعقّب وتجمع السياسات التجاريّة من مصادر رسميّة في جميع أنحاء العالم، أنّه ومنذ الأزمة الماليّة العالميّة في عام 2008، تجاوزت التدابير الحمائيّة الجديدة للدول التدابير الليبراليّة بنسبة ثلاثة إلى واحد.

وهمشت منظّمة التجارة العالميّة في غضون ذلك، ولم يعد منتداها المحفل الأساسيّ للتفاوض حول القواعد التجاريّة الجديدة، وانتهت جهودها لإعادة تشكيل التجارة العالميّة في عام 2015 عندما انتهت ما يسمّى بجولة الدوحة من المحادثات. وغالبًا ما تعاني جهود المنظّمة المتخصّصة، مثل محاولاتها الحدّ من إعانات صيد الأسماك في الدول الغنيّة، لم تتمكّن منظّمة التجارة العالميّة منذ عام 2018 من معاقبة الدول الّتي تنتهك قواعدها، ورفضت الولايات المتّحدة، في ظلّ إدارتي ترامب وبايدن، الموافقة على تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التابعة لها.

ومع فشل الاتّفاقات الدوليّة في تنظيم التجارة، تدخّلت الاتّفاقات الإقليميّة لتحلّ محلّها، إذ تنظّم «أوسمكا» العلاقات التجاريّة لأميركا الشماليّة، وتحكم في نزاعاتها، وتنظّم اتّفاقيّة «الشراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشاملة» في آسيا الآن التبادلات التجاريّة بين 15 دولة، مزيلة معظم التعريفات الجمركيّة وجامعة بين متطلّبات وقواعد المنشأ لتفضيل سلاسل التوريد الإقليميّة. وتطمح اتّفاقيّة منطقة التجارة الحرّة القارّيّة الإفريقيّة «AfCFTA» إلى تحقيق الأمر نفسه، لتستبدل شبكة معقّدة من القواعد واللوائح الثنائيّة بنظام تجاريّ واحد على مستوى القارّة تقريبًا. تنظّم الاتّفاقات الإقليميّة الآن، وتحكم أكثر من نصف التجارة العالميّة.

وفي ظلّ ارتفاع مخاوف تهديد التوتّرات الجيوسياسيّة بتفتيت التجارة الدوليّة، صارت المنافسة الاقتصاديّة ركيزة للتنافس بين القوى العظمى، ومع عودة السياسة الصناعيّة إلى الواجهة، تضع العديد من البلدان، بما فيها الولايات المتّحدة، حواجز حمائيّة، كأن حدّدت حكومة الولايات المتّحدة أشباه الموصّلات والبطّاريّات ذات السعة الكبيرة والمستحضرات الصيدلانيّة وعشرات المعادن الهامّة باعتبارها ضروريّة للأمن القوميّ، وصارت تنفّذ الآن سياسات، وتنفق عشرات المليارات من الدولارات لتوسيع المخزونات وتعزيز القدرة التصنيعيّة في الداخل، وفي الدول الصديقة وإعادة رسم سلاسل التوريد العالميّة في هذه القطاعات المعيّنة. وتقوم البلدان في كلّ مكان بوضع قوائم منتجاتها الخاصّة، وبعضها يضيف تدفّقات المعلومات والبيانات في قوائمه، ممّا يؤدّي إلى تفتيت تدفّقات الخدمات عبر الحدود، وبينما تعمل الحكومات على إعادة تشكيل بيئة الأعمال عبر المزيد من الصناعات، فإنّها تطلب أيضًا ضمنيًّا أو صراحة من البلدان الأخرى اختيار أحد الجانبين من خلال ضوابط التصدير وغيرها من الآليّات، وسيؤدّي هذا تقييد العلاقات الدوليّة أكثر فأكثر.

وثمّة ضغط من كلّ الجهات في هذا الوقت لإعادة عرض المنتجات والخدمات المهمّة في كافّة الأسواق، ولكنّ ما ستجده معظم الدول هو أنّه باستثناء عدد قليل من المنتجات شديدة الحساسيّة أو الحيويّة، لا تستطيع الشركات، أو لا يمكنها إعادة المصانع وخطوط الإنتاج إلى بلدانها الأصليّة، ومن سيحاول منهم سيكونون أكثر عرضة للإفلاس مع ارتفاع التكاليف وانخفاض الابتكار. السيناريو الأكثر احتمالًا: ابتعاد الشركات متعدّدة الجنسيّات عن سلاسل التوريد المعولمة لصالح سلاسل إقليميّة ثنائيّة وقصيرة، وستكون الأقلمة، لا العولمة، المحدّد الأساسيّ لأجندات الشركات في العقود المقبلة.

الأفضليّة التنافسيّة لأميركا

تصبّ العديد من هذه التحوّلات التكنولوجيّة والديموغرافيّة والسياسيّة لصالح الولايات المتّحدة، حيث إنّ تراجع أهمّيّة الأجور الرخيصة والدور المتزايد للعمالة الماهرة سيفيدان، بكلّ تأكيد، العمّال الأميركيّون ذوي الأجور الأفضل، وستسمح صناعة الملكيّة الفكريّة والأصول غير الملموسة، بما فيها العديد من التقنيّات الجديدة الّتي تحوّل وتغيّر العمل وأماكن العمل، للعديد من الشركات الّتي تتّخذ من الولايات المتّحدة مقرًّا لها بجنيّ فوائد هائلة. التمويل الوفير يعني المزيد من الاكتشافات والمزيد من براءات الاختراع والمزيد من المنتجات. وتتميّز الولايات المتّحدة أيضًا بقوانين وأنظمة تنظيميّة واضحة وبيئة أعمال متقبّلة ورياديّة بشكل عامّ، ما يدفع العديد من المستثمرين لتفضيل الأسهم والسندات الصادرة بموجب قانون نيويورك. ولأجل لكلّ هذه الأسباب، يجدر بالاقتصاد الأميركيّ أن يحقّق نتائج إيجابيّة في الجولة القادمة من العولمة.

ولا يفوت بأن نذكر بأنّ أفضليّة واشنطن في هذا السباق غير مضمونة تمامًا، نظرًا لاستثمار دول أخرى أيضًا في التعليم والبحث والتطوير وتطوير التقنيّات الخاصّة بها والشركات الوطنيّة الرائدة، بالإضافة إلى أنّ المليار القادم من المشترين الجدد للسيّارات والملابس وأجهزة الكمبيوتر سوف يكونون في آسيا، حيث تنمو الطبقات الوسطى بوتيرة أسرع من أيّ منطقة أخرى، وللاستفادة من هذا النموّ، ستحتاج الشركات الأميركيّة متعدّدة الجنسيّات والمصدّرين إلى التكيّف معها.

وينبغي للولايات المتّحدة، من أجل المنافسة الفعّالة، أن تسعى إلى إجراء إصلاحات في الداخل الأميركيّ لتقدّم رعاية واهتمام أفضل لشعبها ولعمّالها ولإعدادهم لمستقبل اقتصاديّ أكثر مرونة وتقلّبًا؛ ويتطلّب هذا توسيع شبكات الأمان، وضمان حقوق العمّال، وتحسين الفرص التعليميّة الّتي ترفع من مستوى مهارات الأميركيّين. كما تحتاج البنية التحتيّة المحلّيّة إلى تطوير وتحسين لخفض التكاليف اللوجستيّة الّتي تثقل كاهل السلع أميركيّة الصنع. ويعدّ مبلغ 1.2 تريليون دولار بداية جيّدة، والّذي خصّص في قانون 2021 للاستثمار في البنية التحتيّة والوظائف لتطوير شبكات الطرق السريعة والجسور والشبكات الكهربائيّة وأنظمة الموجة العريضة (برود باند)، وينبغي أن يتبع ذلك المزيد من الإنفاق العامّ على العلوم الأساسيّة والبحث والتطوير لتحقيق المزيد من الفتوحات العلميّة والتكنولوجيّة.

وستحتاج الولايات المتّحدة، إلى جانب تطوير نظامها الداخليّ، إلى نهج أكثر استراتيجيّة للتجارة، وتتمثّل أحد التحدّيات الّتي تواجهها في تآكل قدرتها التنافسيّة السعريّة لصادراتها في عدد متزايد من الأسواق الدوليّة، وتشكّل البلدان الّتي تتمتّع الولايات المتّحدة بإمكانيّة الوصول التفضيليّ إليها أقلّ من 10% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ، والقليل منها من بين الأسواق الأسرع نموًّا. ومع قيام دول أخرى بتشكيل اتّفاقيّات تجاريّة والانضمام إليها، ارتفعت تكلفة الصادرات الأميركيّة من حيث القيمة النسبيّة. وبسبب اتّفاقيّة «الشراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشاملة»، لم تعد السيّارات المجمّعة في اليابان وكوريا الجنوبيّة تواجه رسومًا جمركيّة من رقمين، في حين ما تزال تفرض على البدائل المصنّعة في الولايات المتّحدة جمارك عالية؛ كما تواجه موادّ الصلب الصينيّ والموادّ الكيميائيّة والآلات رسومًا أقلّ من الخيارات المصنوعة في الولايات المتّحدة.

وفي عالم مثاليّ، سيكون على الولايات المتّحدة أن تتبع أجندة تجاريّة قويّة وشاملة، وأن تنضمّ إلى «اتّفاق الشراكة الشاملة والتقدّميّة عبر المحيط الهادئ» وأن تستأنف المفاوضات حول «الشراكة التجاريّة والاستثماريّة عبر الأطلسيّ TTIP»، والّتي كان من شأنها أن تربط أسواق الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبّيّ، وأن تنشط منظّمة التجارة العالميّة، وأن تفتح المزيد من الأسواق أمام السلع والخدمات الأميركيّة وتعزّز طرقًا أكثر شفّافيّة وعادلة وصديقة للبيئة لممارسة الأعمال التجاريّة. وسيساعد هذا الأمر في استعادة الولايات المتّحدة ريادتها في الهيئات الدوليّة المعنيّة بوضع المعايير، واستعادة دورها التقليديّ كصانع للقواعد لا تابع لها.

ولكن إلى أن تتغيّر سياسات التجارة في الولايات المتّحدة، فمن غير المرجّح أن يحدث أيّ من ذلك، ويمكن لواشنطن في هذا الوقت أن تستفيد من خلال اللجوء إلى جيرانها، حيث يتوفّر لكندا والمكسيك وصول تفضيليّ للعديد من الأسواق العالميّة حيث تدفع الولايات المتّحدة أجرة النقل كاملة، وتغطّي محافظ كلّ منهما (كندا والمكسيك) من اتّفاقيّات التجارة الحرّة نحو 1.5 مليار مستهلك، وهو ما يمثّل نحو 60% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ. يمكن لتغذية سلاسل التوريد الصناعيّة الكنديّة أو المكسيكيّة تمنح المنتجين وصانعي قطع الغيار الأميركيّين وصولًا تفضيليًّا إلى المستهلكين في العالم، وهو ما يفتقدونه حاليًّا بمفردهم. فعلى سبيل المثال، تتجنّب السيّارات مكسيكيّة الصنع والمبيعة في أوروبا من التعريفة الجمركيّة الّتي تواجهها السيّارات أميركيّة الصنع بنسبة 10%، ممّا يقلّل من سعر النهائيّ للمستهلك بنحو 3000$ على سيّارة فورد فوكس وأكثر من 4000$ على سيّارة أودي Q5، وهو توفير يجعل يصعب المنافسة على شركات صناعة السيّارات الأميركيّة. والعكس صحيح بالنسبة لصانعي قطع الغيار في الولايات المتّحدة: تستطيع المصانع المكسيكيّة تفويض ما يصل إلى 40% من سيّاراتها المتّجهة إلى أوروبا من مورّدين في بلدان ليست جزءًا من الصفقة، وهذا يعني أنّ السيّارات المستوردة مكسيكيّة الصنع والمبيعة في فرنسا أو ألمانيا قد تساعد على ازدهار المصانع الأميركيّة.

وفي عالم اليوم الأكثر تركيزًا على الصعيد الإقليميّ، تصبح الصادرات أكثر قدرة على المنافسة عندما تصنعها البلدان معًا. حقّقت ألمانيا نجاحها التجاريّ الدوليّ الكبير عبر علاقاتها التصنيعيّة الإقليميّة؛ ومن خلال نشر المصانع وتوسيع العمليّات في جميع أنحاء أوروبا الشرقيّة، عزّزت الشركات الخاصّة الألمانيّة، الشهيرة بـ ميتلشتاند[4]، قاعدة التصنيع في البلاد، وخلقت وظائف في الداخل مع ازدهار منتجاتها في الأسواق العالميّة، وبالمثل، اعتمد صعود الصين المذهل وديناميكيّتها التصديريّة إلى حدّ كبير على اندماجها في سلاسل التوريد الإقليميّة.

وإذا أرادت الولايات المتّحدة مساعدة شركاتها على تحقيق هذه النجاحات، فستحتاج إلى انتهاج الطريق الإقليميّ، حيث تجلب الأقلمة مزايا تنافسيّة لا يمكن لبلد واحد أن يصلها، حتّى لو كان كبيرًا وغنيًّا مثل الولايات المتّحدة. ولصناعة منتجات ذات جودة عالية وبأسعار معقولة وتنافسيّة، تحتاج الشركات الأميركيّة لأن تكون قادرة على الحصول على أجزاء ومنتجات تصنيعيّة من العديد من الأماكن، وأن تكون قادرة على إكمال تجميع وتصنيع منتجاتها في أماكن أخرى.

كما ستساعد الاستراتيجيّة التجاريّة الإقليميّة على إيجاد العديد من الوظائف في القارّة، وبالتّالي في الولايات المتّحدة؛ وعندما يقع جزء من الإنتاج في كندا أو المكسيك، فمن المرجّح أنّ المورّدين الأميركيّين سيحافظون على عقودهم معها أو أن يوقعوا عقودًا جديدة تضمن بقاءهم في سوق العمل أكثر ممّا لو كان الإنتاج ينتقل إلى الخارج. وعندما ترتفع الطلبات، ترتفع الوظائف على طول سلسلة التوريد. وتقدّر منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة أنّ 40% في المتوسّط من قيمة الواردات الأميركيّة من المكسيك يصنع في الولايات المتّحدة، ويزيد الرقم في كندا عن 25% تقريبًا، ويبلغ متوسّط المدخولات الأميركيّة إلى الواردات من بقيّة العالم 4.4%، ممّا يعكس مدى قلّة عدد المورّدين المقيمين في الولايات المتّحدة، والّذين يشكّلون جزءًا من عمليّة الإنتاج العالميّة.

لتعزيز أقلمة أميركا الشماليّة، تحتاج القارّة إلى تحسين البنية التحتيّة للربط فيما بين بلدانها ولتعزيز الربط الداخليّ، وهذا يعني إضافة معابر برّيّة، وتحسين الطرق المؤدّية إلى الحدود، وتوسيع خطوط السكك الحديديّة والمستودعات، والاستثمار في البشر والتكنولوجيا لتوظيف ودعم موانئ الدخول. ويمكن للمصنّعين في أميركا الشماليّة، بفضل الاتّصالات الأسرع والتكاليف اللوجستيّة المنخفضة، صنع منتجات أكثر قدرة على المنافسة عالميًّا.

ومع انتقال الأجزاء والمكوّنات بين البلدان الثلاثة، يجب تسهيل حقّ تحرّك العمّال، أي ثمّة حاجة إلى مسارات هجرة قانونيّة أكثر وأسهل وقائمة على العمل لجعل المنطقة ككلّ أكثر إنتاجيّة، وستتطلّب وجود أوراق اعتماد وتراخيص وشهادات قابلة للتحويل وتأشيرات عمل، وسبل هجرة مفتوحة على المدى الطويل. ويمكن أن يساعد المزيد من التنسيق في التعليم والتدريب على معالجة الفجوات في المهارات وتحسين بيئات العمل لضمان استمرار النموّ السكّانيّ في أميركا الشماليّة، الّذي يعدّ بالفعل واحد من أهمّ مميّزاتها. ويمكن أن تساعد التبادلات التعليميّة وتعلّم اللغات وتعلّم الحرف الصناعيّة بين الدول وبرامج تنمية المهارات في بناء قوّة عاملة قارّيّة أكثر قدرة على جذب الشركات والاستثمارات الجديدة، وسيؤدّي تشديد حواجز الهجرة إلى دفع المزيد من الشركات للذهاب إلى أماكن أخرى.

وبينما تطرح الحكومة الأميركيّة سياسات صناعيّة لزيادة مرونة مجموعة من سلاسل التوريد الحيويّة والوصول إليها، يمكن لجيرانها المساعدة، ويمكن للتنويع الجغرافيّ أن يعوّض عن المخاطر الّتي تشكّلها الكوارث الطبيعيّة والحوادث على المخزونات والقدرة الإنتاجيّة، ويمكن للتصنيع الإقليميّ أن يقلّل من العبء الماليّ العامّ للدعم، حيث من المرجّح أن تحقّق السلع جودة أعلى بتكلفة أقلّ عند الاعتماد على شبكة من المورّدين من البلدان المجاورة.

لقد تعافت التجارة الإقليميّة في أميركا الشماليّة، وإن كان ذلك قليلًا، من أدنى مستوى لها في عام 2009 بلغ 39 سنتًا فقط من كلّ دولار بفضل التوسّع في سلاسل توريد المنسوجات والآلات والمنتجات، ولكن لا يوجد قائد في أميركا الشماليّة يعطي الأولويّة لمستقبل تجاريّ قارّيّ. تتّجه المكسيك نحو الداخل، مع تهديد تأميم الطاقة والموارد الطبيعيّة لقاعدتها التصنيعيّة. وتتطلّع كندا إلى تنويع علاقاتها التجاريّة الدوليّة عن طريق جنيّ ثمار الصفقات التجاريّة مع المملكة المتّحدة والاتّحاد الأوروبّيّ، وفي آسيا بوصفها عضوًا في «اتّفاق الشراكة الشاملة والتقدّميّة عبر المحيط الهادئ». وتسترشد إدارة بايدن بعبارة أخرى متكرّرة، ولكن لا أساس لها من الصحّة، مفادها أنّ اتّفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة «نافتا» والاتّفاقيّات التجاريّة الأخرى تلحق الضرر بالعاملين الأميركيّين بدلًا من مساعدتهم. وهذا أمر مضلل: فأغلب الدراسات الّتي تهاجم اتّفاقيّة التجارة الحرّة لأميركا الشماليّة لا تحسب الوظائف في قطاع التصدير وذات الأجور الأفضل، والّتي اكتسبت نتيجة للشروط الأكثر ملاءمة في أكبر سوقين للتصدير في الولايات المتّحدة؛ كما أنّهم لا ينظرون في الكيفيّة الّتي أبقى بها انخفاض تكاليف الإنتاج في أميركا الشماليّة الصناعات، مثل تصنيع السيّارات، على قيد الحياة، بل وسمح لها بالازدهار في مواجهة المنافسة العالميّة في الأسعار من السيّارات المصنّعة في مراكز إقليميّة منافسة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا | الجيش الصيني بالأرقام

سيكون اقتصاد أميركا الشماليّة من خلال التكامل القارّيّ أكثر قدرة على المنافسة. بعد ثلاثة عقود على اتّفاقيّة التجارة الحرّة، ووجود سلاسل إمداد متطوّرة في قطاعات محدّدة ووجود روابط واسعة النطاق عبر الحدود بين المجتمعات والعمّال بسبب حركة عشرات الملايين من الناس، يمكننا توسيع كلّ ذلك وتحفيزه، ولكنّ الأقلمة الأعمق والأكثر استدامة ستتطلّب أيضًا تغييرًا في العقليّة، وسوف يتطلّب الأمر الاعتراف بأنّ الطبقة الوسطى والعاملة في الولايات المتّحدة سوف تزدهر من الانخراط في الاقتصاد العالميّ أكثر من ازدهارهم عبر التراجع إلى السوق المحلّيّة، ويأن بإمكان الأميركيّين أن يكسبوا المزيد من الوظائف والأرباح والأمن الماليّ إذا قرّرت بلادهم أن تأخذ المعروض أمامها: قطعة من فطيرة اقتصاديّة كبيرة ومتنامية.


إحالات:

[1] ما يعادل 8529 كيلومتر – (المترجم).

[2] ما يعادل 4828 كيلو متر – (المترجم).

[3] في علم الأحياء الفلكيّ، تشير هذه المنطقة إلى المنطقة المأهولة حول نجم ما، وكما أشار العالم ستيفن هوكينغ: «يتطلّب تطوّر أيّ حياة ذكيّة أن تكون درجة حرارة الكوكب مناسبة تمامًا»، وتعتمد فرضيّة الأرض النادرة على مبدأ غولديلوكس أو مبدأ الاعتدال لحجّته بأنّ الكوكب يجب ألّا يكون بعيدًا عن النجم ومركز المجرّة وألّا يكون قريبًا منه كذلك ليكون قادرًا على دعم تطوّر الحياة. يأتي اسم المبدأ من قصّة الأطفال الشهيرة «الدببة الثالثة»، والّتي أوجد كاتبها 3 نسخ من الحبكة نفسها، تقول أولاها أنّ امرأة عجوز فظّة دخلت إلى بيت 3 دبب (ليست عائلة) في وقت غيابها، وجلست على إحدى كراسيهم وأكلت بعضًا من أكلهم، وكسرت كرسيًّا آخر، ثمّ نامت على إحدى أسرتها، وعندما عادت الدببة واكتشفت المرأة، استيقظت من نومها، وقفزت هاربة من النافذة. في النسخة الثانية، استبدلت المرأة العجوز بفتاة صغيرة اسمها غولديلوكس، وفي النسخة الثالثة كانت الدببة عائلة تتكوّن أب وأمّ وطفل. توظّف القصّة «قاعدة الثلاثة» الكتابيّة، وهو مبدأ في كتابة الأدب يفيد بأنّ طرح الأحداث والشخصيّات من 3 وجهات نظر أو بثلاثة تحويران سيكون فكاهيًّا ومرضيًّا أكثر من أيّ رقم آخر من التحويرات، خصوصًا أنّ جمهور هذا النوع من النصوص الأدبيّة من المرجّح أن يتذكّر المعلومات المنقولة إليها داخلها؛ لأنّ وجود 3 كيانات يجمع بين الإيجاز والإيقاع، إلى جانب أقلّ قدر ممكن من المعلومات لخلق نمط نصّيّ، ويمكننا رؤية ذلك بوضوح في عناوين كثيرة شهيرة مثل الفرسان الثلاثة، أو كما يدرج في الثقافة الشعبيّة «الثالثة نابتة»، أو كما في قصّة علاء الدين، حيث يعطيه الجنّيّ الخيار لتحقيق 3 أمنيّات – (المترجم).

[4] يشير المصطلح عمومًا إلى الشركات الخاصّة الصغيرة والمتوسّطة في الدول الناطقة باللغة الألمانيّة وبإيرادات سنويّة تصل إلى 50 مليون يورو وحد أقصى يصل إلى 499 موظّف – (المترجم).

التعليقات