09/04/2023 - 18:58

ضُروب "الخيانة" في القصّة الفلسطينيّة

تكررت هذه الهجومات على السهول والتلال الموانئ الساحلية في فلسطين التاريخية، حيث حولت الشعب الفلسطينيّ، إلى دفقٍ هادرٍ من اللاجئين الجرحى، والذين يُشارك بعض أحفادهم الآن في مسيرات العودة بالقرب من الأسيجة الشائكة التي تُحاصرهم داخل غزّة

ضُروب

من مظاهرات الثورة الفلسطينية في القدس عام 1936 (Gettyimages)

قرأت قبل عدة أعوامٍ مجموعة تأملات شخصية حول ما يعنيه أن تكون فلسطينيًا في المنفى[1]، وعلق منه بالذات مقالين في ذهني. كان الأول لرجائي بصيلة[2]، أستاذ فخري في الأدب الإنجليزي مكفوف البصر، ولد في القدس، وتعلَّم في الخليل والرملة ويافا، وطُرد من منزله في اللد في مسيرة إجبارية تحت شمس يوليو الحارقة عام 1948، ولم يعد إليها أبدًا. كان عنوان مداخلته «الشجرة»:

"ومثل انتزاع لسانك من فمك، اُقتلعت الشجرة من طينتها الأصلية، وتعرّت كل جذورها، وتلوَّت من هول ما حدث. وتبعثرت الجذور، وشظايا الجذع، والأغصان، والأوراق. تبعثرت في كُل مكان، كل طرفٍ يمد يده يحاول الوصول إلى البقيّة، إلى الكُل، وعندما يفشل في مسعاهِ، يتكوّر على نفسهِ محاولًا الحفاظ على بقي من نفسهِ، من تجربةٍ، أو ذِكرى، أو حلم[3]".

كان اسم المُداخلة الثانية «متروكون»، ويتحرك بك عبر الحالة الفلسطينية في قصة أخف وطأةً من قصص النكبة، بعد مرور جيليْن. حلا عليان[4]، كاتبة فلسطينية أميركية شابة، تتوزع عائلتها في الشتات، من جدٍّ بعيد له جذور في يافا، مثل أبي، إلى عمليات تنقل عديدة في محطات المنفى الفلسطيني: مدن الضفة الغربية، نابلس ورام الله وبيت لحم، وفي العواصم مثل الكويت وبيروت وباريس، وحتى في مناطق بعيدة وغير متوقعة مثل ويتشيتا في كانساس، الولايات المُتحدة الأميركية. تقول حلا:

الشتات غيابٌ لا نهاية له، تصوير اختزالي مقلوبٌ للزمن. ويحيي فيك الرغبة لتصير عالم آثارٍ أو محافظًا على التراث التاريخي، لتصير حاميًا لذكريات الآخرين... وحتى في أحلك اللحظات، مثل الحروب، وتحت القصف والقنابل، يُذكرك الشتات بأنك طالما تملك رئتيك، وطالما تتنفس بهما، وطالما أن أعداءك ما زالوا أحياءً، فستبقى أنت، ومن يأتون بعدك، تذكارًا حيًا، وذِكرىً حيةً للمكان[5].

وكلا بصيلة وحلا شُعراء. وقد كتب كلٍ منهما كتابًا مُدهشًا وأصيلًا حول موضوع القصة الفلسطينية، وهو موضوع قد يعتقد المرء أحيانًا أن الكلام فيه قد انتهى.

ترشَّح كتاب بصيلة «في أرض ولادتي: طفولة فلسطينية»[6] (كتاب مذكرات) مؤخرًا للقائمة القصيرة لجوائز فلسطين للكتاب. كتابٌ متعدد الطبقات، ويحشد بالغضب، والحياة، بل هو أكثر من كتابٍ في كتابٍ واحدٍ. يُقدم فيه بصيلة سردًا زمانيًا لقصة صبيٍ يستكشف عالمًا مضطربًا، ولا يقل هذا الكتاب أهمية عن كتاب «الكلمات»[7] لجون بول سارتر، وكتاب «آكيه: سنوات الطفولة»[8] لوول سوينكا. وهو دليل جليٌ للمبصرين لما يعنيهِ أن تكون أعمىً، ويكاد من قوتهِ أن يغطي على كتاب «الأيام» لطه حسين، في توثيقه القهريّ للتاريخ الاجتماعي والسياسي للسنوات الأخيرة لفلسطين تحت الانتداب البريطاني، وهو كتاب مناسب ليكون دليلًا في يد شاهد يقف أمام محكمة العدل التاريخية المستقبلية، وهو أرشيفٌ حيّ لحقائق طفلٍ لا يعرف الكذب.

بدقةٍ جراحية في تناوله للأسماء والأماكن والأصوات والعواطف والطّموحات والملمَّات، يخدم كتاب بصيلة بوصفهِ جلسة استحضار لروحِه الشابّة الحازمة والضَّعيفة ولقصة ترعرعهِ أعمىً، ولكن ببصيرة فذّة، في فلسطين تحت ظّل (استعارة لا علاقة لها بعماه) الخيانة البريطانية والصهيونية الوشيكة، والتي ستُغير كل شيء. والتي ستترك وراءها شجرة مقطعة الأوصال.

«بيوت الملح» كتاب روائيّ. رواية عاطفية تروي قصة عائلية متعدة الأجيال، دون غضبٍ، بل بحزنٍ توَّاق. تخلق عليان شخصيات مُعقدةً، إحداها امرأة (تتجاوز عالم بصيلة المليء بالمؤسسات التعليمية والتي كانت مركزية في طفولتهِ ومراهقته في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين)، حيث يُسافِرُ الصمتُ الموجع، والمخاوف الاجتماعية، والفقدان المُتسلسل، والثورات الصغيرة، مع هذه الشخصيات على طولِ العُقَدِ المعروفة للتداعيات المُتكررة لنزع ملكية الفلسطينيين. تسكنُ المآسي، العامة منها والتاريخي، والسري منها والخاص، قصصها المُتشابكة.

وعلى اختلاف أسلوب وشكل تأملات هذين الشاعرين في كتاب «أن تكون فلسطينيًا»[9]، إلا أن كلا الكتابين يتمكنان، بنجاح خارق، من تحرير القصة الفلسطينية من التكرارية المُرهقة وغير المجدية للحقائق والتواريخ المنسية، وأعداد وأشكال الظلم المُستمر حتى وقتنا هذا.

في شهر مايو الحاليّ[10]، وفي الذِّكرى السبعين لطرد الفلسطينيين الصّاعقِ والمُدمِّر عام 1948، وهي النقطة التي تنتهي فيها مُذكرات بصيلة (وما يسميه الفلسطينيون بالنكبة)، نقل ترامب بتحدٍ متهوِّرٍ السَّفارة الأميركية إلى القدس، في الوقت الذي تواصلت فيه مذابح الجنود الإسرائيليين ضد الفلسطينيين المتظاهرين سلميًا في مسيرات العودة بحثًا عن الحرية في غزة المُحاصرة. وبعدها بفترة وجيزة، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية وضربت «مواطنين» فلسطينيين في إسرائيل لاحتجاجهم السلمي ضد عنف نقل السّفارة في شوارعِ حيفا. ولا داعي لذكر الأسماء والأرقام، فالناس يحفظونها عن ظهر قلب، ولا داع لذكر القوانين والاتفاقات الدولية المُنتهكة، إذ يبدو أن لا فائدة منها.

يُقدم الكتابان للقارئ تجربة مُعاشة لما يعنيه أن تولد فلسطينيًا، سواء عام 1929، عندما دخل بصيلة هذا العالم المضطرب الذي يعيشه في مذكراته والتي انتشرت مع وصولهِ إلى عيد ميلادهِ التسعين، أو عام 1986، عندما ولدت عليان لعائلة مُتشتتة ضمن أجيالٍ من التهجير المُتواصِل، وما تزال تتمسك بفلسطينيتها. ويأخذك الكتابان بروائح ومذاقاتٍ من الذاكرة الفلسطينية المُشتركة، مثل الياسمين والغاردينيا، والتين والبرتقال، والبطيخ والرمان، والزيتون والزعتر، وحلويات الكنافة والقطايف المعروفة. ويحملانٍ بين دفتيهما الأصوات المرتفعة للجدل السياسي والاهتمام الخافتِ بالإذاعات والتلفزيون. ويُقدمان الجيران والمعلمين والأصدقاء الذين يعيشون حياة تستحق العيش في مُجتمعات غنية (وأحيانًا خانقةً) اجتماعيًا. وينسجان اهتمامك مع أهليهما وأجدادهما وأخواتهما وإخوانهما وعماتهما وخالاتهما وأبناء عمومتهما.

ثم يهجمان عليك بذلك الرعب والاضطراب والشجاعة والمَهانة، والشك، والانتظار، والفظائع. ويتحرك موضوع مثيرٌ للقلقِ والتوتر مثل شفرةٍ حادةٍ بين صفحات الكتابين. وهو موضوع الخيانة. ويحضر بقوةٍ ويكون مصدرٍ وجعٍ مُتكرر في مذكرات بُصيلة، ويتحرك بهدوءٍ خادعٍ في قلبِ «بيوت الملح».

شعر بُصيلة بالخيانةِ، على الرغم من شُكِره الكريم للأشخاص بأسمائهم الكاملة بعد 70 عامًا على الأحداث، وعلى الرغم من تقديرهِ لكل من تركوا أثرًا في حياتهِ، كل مُعلميهِ الذين تحدوه، أو أحبطوه، أو صدقوا بقدراتهِ، ولكل صديقٍ وزميلٍ أخذ بيدهِ عند استقلاله الحافلة أو عند دخوله إلى حديقة لتسلق شجرة فاكهة، أو للمشي في فناء المدرسة، ولكل صبيةٍ وصبيٍ ورجلٍ قرؤوا له صحيفةً أو البيان الشيوعي، أو الشعر الجاهليّ أو شكسبير، وخصوصًا لصديقه في الثانوية العامة حيدر العلمي، والذي تذكر أن يأخذه معه حين تكوّر خائفًا خلف سجادة ملفوفة مرتعدًا من أصوات الانفجارات والرصاصات واللغات الأجنبية، وسحبه معه على طول الطريق الحجرية القاسية، والتي تدفق عبرها سُكان اللد عندما سمح لهم الصهاينة بالمغادرة، بعد أن استولوا على المدينة، وتأكدوا من مسير أهل المدينة إلى منفاهم.

تعرَّض بُصيلة للخيانة عندما كان صبيًا، حينما هرب رفاقه فجأة وتحدّوه لأن يجده طريق العودة لمنزلهِ وحده، أو في واحدة من ألعاب الشاطئ على البحر المتوسط، حينما تركوه لوحده ليحرر نفسه من رمال الشاطئ عند سماعهِ للأمواج وهي تقترب منه. تعرض للخيانةِ من الرب، حين تجاهل أكثر صلواته ودعواته خشوعًا طلبًا لشفائهِ من عماه في ليلة القدر، ليلة نزول القرآن على النبي مُحمدٍ، حيث يُقال إن باب السماء يكون مفتوحًا فيها، ويلبي الله فيه دعوات والمؤمنين.

خانه أباه القَلِق على مستقبلهِ، والذي تركه في عمر السادسة في مدرسة دار الأيتام الإسلامية الصناعية[11] في البلدة القديمة في القدس ليتعلم فنون صناعة الفُرش وتلاوة القرآن. أي مستقبلٍ نتخيله لطفلٍ أعمى في عام 1935؟ الضرب والتبول اللاإراديّ على السرير الحديديّ، وفرك القدم اليومي، وأشجار الزيتون الموبوءة بالديدان، والممرات الحجرية لهذه المؤسسة الدِّيكنزيّة[12]، حتى لو فتحت المغامرات والقصص والأصدقاء عالمًا جديدًا له. خانه صديقٌ مُتبلد الإحساس للعائلة حين أعطاه أحجية صورة مقطوعةِ تبعث على الإحباطِ لبقرةِ وحصانٍ لا يستطيعُ أن يراهما، ولا أن يشعر بهما. كان يُفضل اللعب بالمراصيع والبلابلِ[13]، والطائرات الورقية، وتسلق الأشجار، واستخدام المقلاع اليدوي[14]. كيف؟ لا يُخبرنا بصيلة عن الكيفية، بل ترك هذا الأمر لنا لنتساءل ونتخيّل.

يكتشف بُصيلة عبقريته وأذنه الموسيقية الشعرية عندما يجد والده له مُعلمًا بديلًا: مدرسية افتتحت حديثًا للمكفوفين في الخليل. وفيها يتعلم بصيلة لغة بريل بدلًا من صناعة الفُرش، ويتعلم التاريخ والعربية الشعر والنثر الإنجليزيين. يتفوق في الجيوغرافيا، على الرغم من تركيز أغلب المنهج على الجُزر البريطانيّة. حتى أنه تفوق في أصعب المواد، مثل الرياضيات، والمادّة التي كانت تصعب عليه دائمًا، القرآن، وحافظ على حماسته المشتعلة.

بعد سنواتٍ، وفي لفتة احترامٍ كسب فيها ابنه مُجددًا، وعده والده بأنه لو نجح في اختبارات الثانوية العامة (اختبار المِترك)، فسيبيع كل ما يملك ليضمن دراسته الجامعيّة. عمدت السلطات البريطانية، تجهيزًا لترك فلسطين للقوات الصهيونية، ولمعرفتها بالعنف الذي سيتبع انسحابهم، إلى تقديم الاختبارات عدة أشهرٍ في شهر مارس من عام 1948. ويسمع بُصيلة على الراديو عن نجاحه في الاختبارات، مثله مثل زملائه في المدرسة، ومن ضمنهم والدي[15] وشفيق الحوت[16]، بعد خسارتهم لوطنهم، وتحطم آفاق المستقبل الذي حلموا بهِ[17]. لم يعد لدى والده ما يبيعه. وهنا الخيانة مرة أخرى.

يغضب المُراهق بصيلة من خيانة السلطات البريطانية للفلسطينيين: ألم تحرمهم من حقهم السياسي بوعد بلفور في إيجاد وطنٍ لليهود في فلسطين؟ وتجسدت الخيانة العظمى في الخروج والنزوح الجماعيّ الذي حمل بصيلة إلى نهاية العالم الذي يعرفه. آخر فصلٍ في مذكراته كان بعنوان «سقوط اللد». لا توجد مثل هذه الرواية المروعة للأصوات، والنتانة، ولليأس البشريّ للطرد الصادم والموجع الذي طاقه الفلسطينيون عام 1948 على يد العصابات الصهيونية، والتي سُميت بعملية داني[18].

تكررت هذه الهجومات على السهول والتلال الموانئ الساحلية في فلسطين التاريخية، حيث حولت الشعب الفلسطينيّ، إلى دفقٍ هادرٍ من اللاجئين الجرحى، والذين يُشارك بعض أحفادهم الآن في مسيرات العودة بالقرب من الأسيجة الشائكة التي تُحاصرهم داخل غزّة. أصيب السُكّان وقتها بالصدمة، حيث من المفترض أن تكون اللد، مثل الرملة ويافا، قد نجت، لأنها تقع ضمن الحدود المُخصصة لدولة فلسطين العربية التي أوصت بها خطة الأمم المُتحدة عام 1947.

يُصر بصيلة، البالغ المُشاكس الذي يكتب خاتمة «في أرض ولادتي»، على مواجهة الأكاذيب التي تقدمها الرواية الصهيونية لما حدث في فلسطين. وعمد إلى ذلك عبر استخدام ذاكرة الطفل الحية عن مواصلته الشغوفة للتعليم، وبانتصاراته الصغيرة، وآماله الزائفة، ومسارات سكة الحديد وبرتقال يافا، ومقابلاته مع الأتراك، والألمان، واليهود، وبالطبع، مع البريطانيين، الذين أضرب الطلاب القوميون ضدهم رفضًا لفرض اللغة اللاتينية عليهم في منهج الثانوية العامة. وعلى الرغم من احتجاجات بصيلة، فقد تمكن من شراء آلة الطباعة بلغة بريل من المعهد الملكي للمكفوفين (لم يرَ أي تناقضٍ في ذلك، إلا أنه واجه مشاكلًا في استيرادها بسبب الجمارك، حيث تحكم البريطانيون بدخول البضائع). تتوازن هذه الذكريات مع قصصه وبتجذرهِ مع الناس من حولهِ وفي المكان.

ونرى مرارةَ بصيلة في الكتابة، خصوصًا على التستر الذي وقع على ما عرفه وعاشه شخصيًا. جثث القتلى الفلسطينيين التي مر عليها في شوارع اللد عام 1948، والرعب الذي عاشه أهل المدينة، وكيف استبعدت واختفت هذه المشاهد من مذكرات يتسحاق رابين، ولذكرهِ لاتهامات كاذبة حول وجود مقاومة مُسلحة من جماعات معادية قامت بالجرائم، وتغييبهِ لمذبحةِ دهمش[19]. وتثير هذه القصة سخط بصيلة لما فيها من اختصارٍ واختزالٍ لأحداث ذلك اليوم الدامي المشؤوم في يوليو/تموز إلى بعض رصاصات عشوائية أطلقتها القوات الصهيونية وحطمت بعض زجاج النوافذ وقتلت الدجاج. يقتبس بصيلة مقالًا خادعًا لعاموس كنان نُشر عام 1989 في مجلة الأمة: «لم يحسب أحد، حتى يومنا هذا، عدد الدجاجات والأبقار والحمير والجِمال والنّعاج والماعز التي قُتلت في الحرب». دجاج؟ أبقار؟

ويغضب بصيلة مرة أخرة من تصريح تشرشل حول الفلسطينيين، والذي حُذِف من محضر اجتماع بيل لعام 1937 وكُشف عنه مؤخرًا[20]، حيث قال «لا أوافق على أن الكلب الموجود في المذود له الحق في المذود، حتى لو عاش فيه منذ فترة طويلة... وأنا لا أعترف مثلًا بأننا ارتكبنا خطأ فادحًا بحق الهنود الحُمرِ في أميركا أو السود في أستراليا». لِمَاذا؟ لأنهم اُستبدلوا «بعرقٍ أقوى، وأعلى درجةٍ، وأكثر حكمة». ويستشيط بُصيلة غضبًا لسماح العالم للصهاينة بتجاهل البند الشرطيّ لصحة وعد بلفور لصديقه اللورد روتشيلد: «على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين».

تبدأ رواية عليان بعد 15 عامًا من انتهاء مذكرات البصيلة. أجبر الناس على النزوح من منازلهم، ومدنهم، ومصانعهم، ومزارعهم. وبدؤوا مترددين في إعادة بناء حياتهم وزرع الحدائق الصغيرة لينسوا الألم. قد يصرخ الجد المحتضر «لقد أخذوا منزلي، وأخذوا رئتي» معتقدًا بإيمان راسخ أن «مرضه مرتبط باحتلال يافا، المدينة التي تركوا فيها منزلًا بلون الخوخ». لكن الجو العام للرواية مكبوت، مثل الناس، ولا يحضر العنف السياسيّ إلا متقطّعًا.

تروي عليان روايتها بالحُزن أكثر من الغضب، وبمسافة الوقت، وتحكي عن المشاكل التافهة بين الأمهات والبنات، وعن اللمسات المضطربة بين الأزواج، وعن الخيانات التافهة لوعود الأطفال عن رحلات إلى حديقة الحيوان أو عن فساتين أعياد الميلاد. حتى الراديكاليون المتفاخرون بمواقفهم، ينتهي بهم الحالة يتغازلون ببعضهم في بارات باريس. تعييش الشخصية الرئيسية علياء في الكويت في الثمانينيات مع العديد من الفلسطينيين المنفيين الآخرين، وتشعر بالعزلة. وكانت تحاول في إحدى الأمسيات الهرب من الحرارة اللاسعة، ومن أطفالها، ومن زوجها المُتعبِ في الحمام، متوسلةً سائقها الجنوب آسيوي ليأخذها إلى البحر. يتعطّل المحرك. يحلّ الليل. تتعثر بسبب كعبها العاليّ على الصخور، حيث أرادت أن تشعر بالمياه الباردة بين أصابع قدميها.

تكتب عليان «الحنين إلى الماضي بلاء. قال أحد هذه الجملة ذات مرة أمام علياء، وتشعر بها الآن بعد عامٍ. مثل حمىً أو سرطانٍ، الشوق إلى ما اختفى يقتل الإنسان. ليس فقط الشوق إلى الخسائر البشرية التي لا تُطاق، بل إلى الأشياء الصغيرة أيضًا». وعلى الرغم من أن فصول الرواية تحمل أسماءً مؤنثة في الغالب، مثل سلمى وعلياء ورهام ولينا ومنار، إلا أن الخيانة القابعة في قلب القصة مُذكَّرة. وسياسية. ولو قلت أكثر، فسأحرق الأحداث.

تحفظ عليان الذكريات بحرفية عالية. تجد مجموعة من الرسائل في الرواية طريقها إلى جيل جديد، ويتناولونها بهدوءٍ فيما بينهم. ويجب أن تُحمى هذه الرسائل من قبضةِ ضابط الأمن في إحدى استجوابات مطار بن غوريون، والتي تعد حدثًا عاديًا في قصص الفلسطينيين الباعثة على التوتر حول زيارة «الوطن». يتوقف التحقيق فجأة بسبب قيء صباحيٍ، ما يُنبئ بوجود جيل جديد من الفلسطينيين المُهجرين الذين لن ينسوا.

وهذه هي ضروب الخيانة في القصة الفلسطينية.


إحالات:

(نُشِرت هذه المادّة بتاريخ 7.18.2018 في الذكرى الـ70 للنكبة، في مجلّة publicbooks).

[1] تُشير ليلى أبو لغد إلى كتاب «أن تكون فلسطينيًا: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات» من تحرير ياسر سليمان، ونُشر عام 2016 عبر مطبوعات جامعة إدنبرة ببريطانيا، وحصل على جائزة فلسطين للكتاب في العام نفسه – المُترجم.

[2] أكاديميّ وشاعر وكاتب فلسطيني لاجئ، أصيب بالعمى وهو في الثانية من عمرهِ نتيجة التهاب. درس اللغة الإنجليزي وآدابها في جامعة فؤاد الأول، والمعروفة بجامعة القاهرة الآن، وحصل على درجة الماجستير من كلية هانتر بجامعة مدينة نيويورك (CUNY)، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة نيويورك. توفي في ديسمبر 2020 وهو في عمر الـ 91 في إندياناپوليس، إنديانا، الولايات المُتحدة الأميركية – المُترجم.

[3] كتاب «أن تكون فلسطينيًا: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات»، صفحة 115.

[4] كاتبة فلسطينية وأخصائية في علم النفس الإكلينيكي، ولدت في إلينوي (1986)، وعاشت مع أهلها في الكويت إلى تقدموا بطلب لجوء سياسي إلى الولايات المُتحدة مع غزو العراق للكويت – المُترجم.

[5] كتاب «أن تكون فلسطينيًا: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات»، صفحة 65.

[6] نُشِر عام 2017 عبر مركز الدراسات الفلسطينية في الولايات المُتحدة الأميركية – المُترجم.

[7] كتاب السيرة الذاتية للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، وينقسم إلى قسمين، يتحدث فيهما سارتر عن القراءة والكتابة. نُشرت النسخة العربية من الكتاب عام 1993 عن دار شرقيات للنشر والتوزيع ومن ترجمة خليل صابات – المُترجم.

[8] كتاب السيرة الذاتية للكاتب النيجيري الحائزة جائزة نوبل للأدب وول سوينكا، ويتحدث فيه عن طفولته في إفريقيا قبل الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا في قرية يوروبية تقع غرب نيجيريا اسمها آكيه – المُترجم.

[9] كتاب «أن تكون فلسطينيًا: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات» من تحرير ياسر سليمان، ونُشر عام 2016 عبر مطبوعات جامعة إدنبرة ببريطانيا، حصل على جائزة فلسطين للكتاب في العام نفسه – المُترجم.

[10] نُشرت المقالة عام 2018، أما في عام 2023، فستحل الذكرى الـ 75 للنكبة – المُترجم.

[11] تأسست بمحاذاة المسجد الأقصى المبارك في مطلع القرن العشرين بقرار من المجلس الإسلامي الأعلى، خصوصًا بعد سقوط الدولة العثمانية وبدء الانتداب البريطاني، حيث عم الفقر والجهل، وكثر عدد الأيتام والمعوزين، خصوصًا من أبناء الشهداء، برئاسة مفتي فلسطين وقتها محمد أمين الحسيني – المُترجم.

[12] كلمة إنجليزية تستخدم للإشارة إلى أجواء روايات الكاتب الإنجليزي من العصر الفيكتوري تشارلز ديكنز، والمعروفة بأنها تتحدث عن الأوضاع الاجتماعية السيئة – المُترجم.

[13] أو الدَّوامة، أو الفريرة كما تعرف بالعامية الفلسطينية، وقطعة خشبية أو بلاستيكية يرميها الطفل بخيط، أو بيدهِ، فتدوم على الأرض وتدور، وتعرف أيضًا باسم النحلة أو البلبل (من كتاب ألعاب الصبيان عند العرب) – المُترجم.

[14] والمعروفة بالسياق العامي الفلسطيني باسم الشَّدّيدة – المُترجم.

[15] إبراهيم أو لُغد، أكاديمي فلسطيني أميركي، مواليد 1929 في حي المنشية بيافا، وتوفي في 2001 بمدينة رام الله، حيث انتقل بعد تعيينه أستاذًا ونائبًا لرئيس جامعة بيرزيت عام 1992، وكان أستاذًا للعوم السياسية ورئيسًا لدائرة العلوم السياسية بجامعة نورثويسترن، وكان من أقوى المدافعين عن القضية الفلسطينية في السياق الأكاديمي الأميركي – المُترجم.

[16] سياسي وكاتب فلسطيني وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وممثلها في لبنان وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، وُلِد عام 1932 بمدينة يافا، وتوفي عام 2009 في بيروت بلبنان – المُترجم.

[17] لمعرفة المزيد حول زملاء دراسة بصيلة، انظر كتاب هشام أحمد فرارجة «إبراهيم أبو لغد: مقاومة، منفى وعودة» الصادر عن وحدة الهجرة القسرية واللاجئين بمعهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت، 2003، ومن ترجمة رائد بدر في 2011. اضغط هنا لقراءة الكتاب.

[18] أو خطة داني، وهو هجوم قادته قوات البالماح تحت قيادة إسحاق رابين (نائب قائد القوات آنذاك) في نهاية الهدنة الأولى من حرب 1948 للسيطرة على اللد والرملة.

[19] تمكنت بعض المدرعات التابعة للجيش العربي الأردني من استعادة بعض المناطق الاستراتيجية من مدينتي اللد والرملة من قوات البالماح في الحادي عشر من يوليو/تموز، وقُتل في هذا الهجوم بعضًا من جنود القوات الصهيونية، وهو ما دفعهم للعودة في اليوم التالي مشحونين بالانتقام، ولم يجدوا وقتها أسهل من الفلسطينيين الذين كانوا يصلون في جامع دُهمش في البلدة القديمة باللد، في أثناء شهر رمضان، وقتلوا حينها ما بين 120-136 فلسطينيًا، معظمهم من النساء والأطفال – المُترجم.

[20] نقل بصيلة الاقتباس كتاب مارتن غيلبرت «Churchill and the Jews: A Lifelong Friendship»، صفحة 120، والمنشور مع دار هنري هولت عام 2008.

التعليقات