25/01/2024 - 19:26

الحرب على غزّة: أن تكون الوحشية هدفًا لا أداة

تهدف إسرائيل لجعل قطاع غزّة غير صالح للعيش بعد انتهاء حملتها العسكرية الوحشيّة...

الحرب على غزّة: أن تكون الوحشية هدفًا لا أداة

آثار الدمار جراء القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

على شاطئ خلاّب وسط مدينة غزّة، وعلى بعد 1.6 كيلو متر شمال مخيم الشاطئ للاجئين، الذي دُمّر الآن، تمتد أنابيب سوداء طويلة عبر تلال من الرمال البيضاء، وتختفي تحت الأرض. تُظهِر صورة نشرها الجيش الإسرائيلي عشرات الجنود يوصلون أنابيب ومحطات ضخ متنقلة تهدف، على ما يبدو، إلى ضخ مياه البحر الأبيض المتوسط في الأنفاق تحت الأرض. وتتمثل الخطّة، وفقًا لتقارير مختلفة، في إغراق شبكة واسعة من الممرات والأنفاق التي يقال إن حماس بنتها واستخدمتها لتنفيذ عملياتها.

وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هاليفي: «لن أتحدث عن تفاصيل عملياتنا، لكنها تشمل استخدام المتفجرات المدمرة إلى جانب وسائل أخرى لمنع مقاتلي حماس من استخدام الأنفاق لإيذاء جنودنا. [أي] وسيلة تمنحنا ميزة على العدو [الذي يستخدم الأنفاق]، وتمنعه من استخدامها، هي وسيلة سنفكر في استخدامها. وهي فكرة جيدة [...]»

وبينما تقوم إسرائيل بالفعل باختبار إستراتيجية الإغراق، فهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها أنفاق حماس للتخريب باستخدام مياه البحر، إذ استخدمت مصر البحر في عام 2013 لإغراق أنفاق حماس، والتي يُزعم أنها تستخدم لتهريب البضائع بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. وعلى مدار أكثر من عامين، ظلت المياه من البحر الأبيض المتوسط تتدفق إلى شبكة الأنفاق، مما أدى إلى إحداث دمار كبير في بيئة غزة. وسرعان ما تلوثت إمدادات المياه الجوفية بالمياه المالحة، ونتيجة لذلك، صارت التربة مشبعة بالمياه وغير مستقرة، مما تسبب في انهيار الأرض ومقتل العديد من الأشخاص. وبهذا تحولت حقول قطاع غزة الزراعية الخصبة إلى حفر طينية مالحة، مما ساهم في تدهور حالة مياه الشرب النظيفة، التي كانت غزة تعاني في الأساس من مشكلة نقصٍ فيها.

لا شك أن الإستراتيجية التي تتبناها إسرائيل حاليًا لإغراق أنفاق حماس سوف تتسبب في أضرار مماثلة لا يمكن إصلاحها. وتحذر جوليان شيلينغر، الباحثة في جامعة توينتي بهولندا، موضحة أنه «من المهم أن نضع في اعتبارنا أننا لا نتحدث هنا فقط عن مياه تحتوي على نسبة ملوحة عالية، فمياه البحر على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ملوثة أيضًا بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، والتي تُصرّف بشكل مستمر في البحر من نظام الصرف الصحي المُعطّل في قطاع غزة».

ويبدو أن هذا جزء من هدف إسرائيلي أوسع، ليس فقط لتفكيك قدرات حماس العسكرية، بل زيادة تدهور وتدمير طبقات المياه الجوفية في غزة (الملوثة بالفعل بمياه الصرف الصحي المتسربة من الأنابيب المتهالكة). واعترف المسؤولون الإسرائيليون علنًا بأن هدفهم هو ضمان أن تصبح غزة مكانًا غير صالح للعيش بمجرد إنهاء حملتهم العسكرية المتوحشّة.

نفق في غزّة (Getty)

وقال وزير الدفاع يوآف غالانت بعد وقت قصير من هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول: «نحنُ نقاتل حيوانات بشرية، وسنتصرف على هذا الأساس. سوف نمحو كل شيء، وسنجعلهم يندمون». وإسرائيل تفي الآن بوعدها.

وكأن قصفها العشوائي، الذي أدى بالفعل إلى إتلاف أو تدمير ما يصل إلى 70% من كل المنازل في غزة، لم يكن كافيًا، فإن غمر تلك الأنفاق بالمياه الملوثة من شأنه أن يضمن أن بعض المباني السكنية المتبقية سوف تعاني من مشاكل في صمود هياكلها أيضًا. وإذا كانت الأرض ضعيفة وغير آمنة، فسوف يواجه الفلسطينيون صعوبة في إعادة البناء.

ويقول عبد الرحمن التميمي، مدير عام مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، أكبر منظمة غير حكومية تراقب التلوث في الأراضي الفلسطينية، إن غمر الأنفاق بالمياه الجوفية الملوثة «سيتسبب في تراكم الأملاح وانهيار التربة، مما يؤدي إلى هدم آلاف المنازل الفلسطينية في القطاع المكتظ بالسكان»، وكان استنتجاه الأخير متوقعًا: «سيصبح قطاع غزة منطقة خالية من السكان، وسوف يستغرق الأمر حوالي 100 عام للتخلص من الآثار البيئية لهذه الحرب». وأشار التميمي أيضًا إلى أن إسرائيل «تقتل البيئة» في فلسطين، وقد بدؤوا بقتلها منذ أن أخذوا يدّمرون حقول أشجار الزيتون الخضراء.

لا مزيد من الزيتون

كانت غزة تنتج بالمتوسط خلال العام أكثر من 5000 طن من زيت الزيتون من أكثر من 40,000 شجرة. كان موسم الحصاد في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني بمثابة موسم احتفالي لآلاف الفلسطينيين لفترة طويلة تغني فيه العائلات ويجتمع حوله الأصدقاء، ويأكلون فيه الطعام تحت أشجار الزيتون القديمة، التي ترمز إلى «السلام والأمل والعيش». كان قطف الزيتون تقليدًا مهمًا، ويدل على ارتباط عميق بالأرض وبمورد اقتصادي حيوي. وفي العام الماضي، شكلت محصول الزيتون أكثر من 10% من اقتصاد غزة، أي ما مجموعه 30 مليون دولار.

وبطبيعة الحال، منذ 7 أكتوبر، توقف الحصاد. وأدّت تكتيكات الأرض المحروقة التي اتبعتها إسرائيل إلى تدمير عدد لا يحصى من بساتين الزيتون. وتؤكد صور الأقمار الصناعية التي نُشرت في أوائل ديسمبر/كانون الأول أن 22 في المئة من الأراضي الزراعية في قطاع غزة، بما في ذلك عدد لا يحصى من بساتين الزيتون، قد دُمّرت بالكامل.

يقول أحمد قديح، وهو مزارع من بلدة خزاعة جنوب قطاع غزة: «نحن حزينون على محاصيلنا التي لا نستطيع الوصول إليها. لا نستطيع ري أراضينا أو مراقبتها أو الاعتناء بها. بعد كل حرب مدمرة، ندفع آلاف الشواقل لضمان جودة محاصيلنا ولجعل تربتنا صالحة للزراعة مرة أخرى».

لقد أدَّى القصف العسكري الإسرائيلي المستمر لغزة إلى خسائر لا يمكن تصورها في الأرواح البشرية (أكثر من 22 ألف قتيل، بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال، وآلاف الجثث الأخرى التي يعتقد أنها مدفونة تحت الأنقاض ولا يمكن حصرها). وتعتبر هذه الجولة الأخيرة من الرعب مجرد استمرار قاتم لحملة مستمرة منذ 75 عامًا تهدف إلى انتزاع التراث الثقافي الفلسطيني. اقتلعت إسرائيل منذ عام 1967 أكثر من 800 ألف شجرة زيتون فلسطينية محلية، لإفساح المجال في بعض الأحيان لإقامة مستوطنات يهودية غير قانونية جديدة في الضفة الغربي، وفي حالات أخرى، بسبب مخاوف أمنية مزعومة، أو بسبب الغضب الصهيوني العميق تجاه كل ما هو فلسطيني.

وقد حصد سكان المنطقة بساتين أشجار الزيتون البرية منذ آلاف السنين، ويعود تاريخها إلى العصر النحاسي في بلاد الشام (4300 – 3300 قبل الميلاد)، وكان لتجريف هذه البساتين عواقب بيئية كارثية. «ترتبط إزالة الأشجار ارتباطًا مباشرًا بتغير المناخ الذي لا رجعة فيه، وتآكل التربة، وانخفاض المحاصيل»، وفقًا لتقرير مجلة ييل للدراسات الدولية لعام 2023. «يعمل اللحاء الخشبي المعمر كمخزن للكربون... تمتص شجرة الزيتون 11 كجم من ثاني أكسيد الكربون لكل لتر من زيت الزيتون المنتج».

إلى جانب توفير محصول قابل للحصاد وقيمتها الثقافية، تعتبر بساتين الزيتون حيوية للنظام البيئي في فلسطين. تعتمد العديد من أنواع الطيور، بما في ذلك طائر القيق الأوراسي، والحسَّون الأخضر، والغراب المقنع، والصرد المقنع، وطائر الشمس الفلسطيني، ودخلة السردينيا على التنوع البيولوجي الذي توفره الأشجار البرية في فلسطين، والتي غالبًا ما توجد ستة أنواع منها في بساتين الزيتون المحلية: الصنوبر الحلبي، واللوز، والزيتون، والنبق الفلسطيني (الزعرور الأسود)، والزعرور الصنوبري، والتين.

وكما كتب سيمون عوض وعمر العتوم في عدد 2017 من المجلة الأردنية للتاريخ الطبيعي:

«يمكن اعتبار بساتين [الزيتون] في فلسطين على أنها أنظمة طبيعية ثقافية أو يمكن تصنيفها كأنظمة زراعية ذات أهمية عالمية بسبب الجمع بين تنوعها البيولوجي وقيمتها الثقافية والاقتصادية. وقد اُعترف بقيمة التنوع البيولوجي لبساتين الزيتون التاريخية في أجزاء أخرى من البحر الأبيض المتوسط، حيث أشار البعض إلى أن هذه المناطق يجب أن تحظى بالحماية لأنها موطن تستخدمه بعض الأنواع [الحيوانات والطيور] النادرة والمهددة بالانقراض، كما أنها مهمة في الحفاظ على التنوع البيولوجي الإقليمي».

وينبغي اعتبار شجرة الزيتون المحلية القديمة شهادة على وجود الفلسطينيين ونضالهم من أجل الحرية. تقف شجرة الزيتون، بجذعها اللولبي السميك، بمثابة حكاية تحذيرية لإسرائيل، ليس بسبب الثمار التي تحملها، ولكن بسبب القصص التي تختزنها جذورها عن الأنظمة الطبيعية الممزقة والشعب المُحاصر بعنف وبقسوة لما يزيد عن 75 سنة.

الفسفور الأبيض والقنابل... والمزيد من القنابل

وبينما تقوم إسرائيل بتلويث طبقات المياه الجوفية واقتلاع بساتين الزيتون، فإنها تقوم الآن أيضًا بتسميم قطاع غزّة من الأعلى. تعرض العديد من مقاطع الفيديو التي حللتها منظمة العفو الدولية وأكدتها صحيفة واشنطن بوست لقطات من قنابل مضيئة وأعمدة من الفسفور الأبيض تنهمر على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان. استُخدم الفوسفور الأبيض لأول مرة في ساحات القتال خلال الحرب العالمية الأولى لتوفير غطاء لتحركات القوات، ومن المعروف أنه سام وخطير على صحة الإنسان. إن إسقاطها على البيئات الحضرية يعتبر الآن غير قانوني بموجب القانون الدولي، ويعدّ قطاع غزّة واحدًا من أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض. وتقول لما فقيه، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومديرة مكتب بيروت في هيومن رايتس ووتش: «عند استخدام الفسفور الأبيض في مناطق مدنية مزدحمة، فإنه يشكل خطرًا كبيرًا لإنه يسبب حروقًا مؤلمة ومعاناةً تستمر مدى الحياة».

وفي حين أن الفسفور الأبيض شديد السمية للإنسان، فإن تركيزات كبيرة منه لها أيضًا آثار ضارة على النباتات والحيوانات. يمكن أن يعطل تكوين التربة، مما يجعلها حمضية للغاية لزراعة المحاصيل. وهذا مجرد جزء واحد من جبل الذخائر الذي أطلقته إسرائيل على غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. كانت الحرب (إذا كان بإمكانك تسمية مثل هذا الهجوم غير المتكافئ بـ «الحرب») هي الأكثر فتكًا وتدميرًا في الذاكرة الحديثة، ووفقًا لبعض التقديرات، فهي على الأقل بنفس سوء قصف الحلفاء لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، والذي أباد 60 مدينة ألمانية. وقتل ما يقدر بنحو نصف مليون إنسان.

فمثل قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تقوم إسرائيل بالقتل دون تمييز. ومن بين 29 ألف قذيفة جو-أرض أُطلقت، كانت 40 بالمئة منها عبارة عن قنابل غير موجهة ألقيت على مناطق سكنية مزدحمة. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 70 بالمئة من جميع المدارس في غزة، حتى أواخر ديسمبر/كانون الأول، والتي كان الكثير منها يستخدم كملاجئ للفلسطينيين الفارين من الهجوم الإسرائيلي، قد تعرضت لأضرار جسيمة. كما قُصفت مئات المساجد والكنائس، وأصيب 70 بالمئة من مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى ولم تعد تعمل.

حرب تفوق كل التوقعات

يقول روبرت پيپ، المؤرخ في جامعة شيكاغو: «إن الحرب على غزة واحدة من أشد حملات العقاب المدني في التاريخ. وتأتي الآن في الربع الأعلى من حملات القصف الأكثر تدميرًا على الإطلاق». وما زال من الصعب فهم الخسائر التي تحدث، يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، ليس فقط على البنية التحتية والحياة المدنية في غزة، بل على البيئة أيضًا. كل مبنى ينفجر يترك سحابة باقية من الغبار السام والأبخرة المسببة للاحتباس الحراري. يقول الدكتور إرم ظاهر، أستاذ الكيمياء في جامعة كراتشي: «في المناطق المتضررة من النزاع، يمكن أن يؤدي تفجير المتفجرات إلى إطلاق كميات كبيرة من الغازات الدفيئة، بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وجسيمات دقيقة صلبة معلقة».

دمر الغبار الناتج عن انهيار برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر صحة المستجيبين الأوائل. وأشارت دراسة أجريت عام 2020 أن رجال الإنقاذ «كانوا أكثر عرضة بنسبة 41 بالمئة للإصابة بسرطان الدم مقارنة بالأفراد الآخرين». عانى حوالي 10,000 من سكان نيويورك من أمراض صحية قصيرة الأمد في أعقاب الهجوم، واستغرق الأمر عامًا حتى عادت جودة الهواء في مانهاتن السفلى إلى مستويات ما قبل 11 سبتمبر.

غارات في غزّة (Getty)

وفي حين أنه من المستحيل تحليل جميع آثار القصف الإسرائيلي المستمر، فمن الآمن أن نفترض أن التدمير المستمر لقطاع غزة ستكون لها آثار أسوأ بكثير من آثار أحداث 11 سبتمبر على مدينة نيويورك. وتعتقد نسرين التميمي، رئيسة سلطة جودة البيئة الفلسطينية، أن التقييم البيئي لغزة الآن من شأنه أن «يتجاوز كل التوقعات».

كان الوصول إلى مياه الشرب النظيفة من أهم المعضلات التي واجهها الفلسطينيون في غزة، حتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقد تفاقمت هذه المعضلة بشكل مروع بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل. وأشار تقرير صادر عن اليونيسف عام 2019 إلى أن «96% من المياه من طبقة المياه الجوفية الوحيدة في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري».

كما أدى انقطاع الكهرباء، كنتيجة مباشرة للحصار الإسرائيلي، إلى تدمير مرافق الصرف الصحي في قطاع غزة، مما أدى إلى زيادة تلوث المياه الجوفية، الأمر الذي أدى بدوره إلى إصابات مختلفة وتفشي أعداد كبيرة من الأمراض المنقولة بالمياه والتي يمكن الوقاية منها. ووفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، تستخدم إسرائيل نقص الغذاء ومياه الشرب كأداة للحرب، وهو ما يرى العديد من المراقبين الدوليين أنه شكل من أشكال العقاب الجماعي، وهو جريمة حرب من الدرجة الأولى. لقد دمرت القوات الإسرائيلية عمدًا الأراضي الزراعية وقصفت مرافق المياه والصرف الصحي فيما يبدو بالتأكيد وكأنه محاولة لجعل غزة غير صالحة للعيش بالمعنى الحرفي للكلمة.

وقال مروان البالغ من العمر 30 عامًا لـ هيومن رايتس ووتش: «عليّ أن أسير ثلاثة كيلومترات للحصول على غالون واحد [من الماء]. ولا يوجد طعام. وإذا تمكنا من العثور على طعام، فهو طعام معلب. لا يأكل أي منا أكلًا جيدًا». فرّ مروان مع مئات الآلاف من سكان غزة الآخرين إلى الجنوب مع زوجته الحامل وطفليه في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني.

وفي جنوب قطاع غزة، بالقرب من مدينة خان يونس المكتظة بالسكان، تتدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة عبر الشوارع مع توقف خدمات الصرف الصحي عن العمل. وفي مدينة رفح الجنوبية، حيث فر الكثير من سكان غزة، فإن الظروف مريعة للغاية. مستشفيات الأمم المتحدة المؤقتة مكتظة، ويوجد نقص في الغذاء والماء، والمجاعة آخذة في الارتفاع بشكل ملحوظ. وفي أواخر ديسمبر/كانون الأول، وثقت منظمة الصحة العالمية أكثر من 100 ألف حالة إسهال و150 ألف حالة عدوى تنفسية بين سكان غزة الذين يبلغ عددهم حوالي 2.3 مليون نسمة. ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام كثيرًا في الواقع، وستزداد بلا شك مع استمرار الهجوم الإسرائيلي، الذي أدى بالفعل إلى نزوح 1.9 مليون شخص، أو أكثر من 85% من السكان، نصفهم يواجهون الآن خطر المجاعة، وفقًا للأمم المتحدة.

يقول عمر شاكر مدير شؤون إسرائيل وفلسطين في منظمة هيومن رايتس ووتش: «منذ أكثر من شهرين، ظلت إسرائيل تحرم سكان غزة من الغذاء والماء، وهي سياسة شجعها أو أقرها مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى وتعكس نية تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب».

نادرًا ما يتمكن مرتكبو جرائم القتل الجماعي من التعبير عن نواياهم القاسية بهذا القدر من الوضوح (الذين يُقال إنهم يخشون الآن الدعوى القضائية ضدّهم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية). وعلى حد تعبير الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ في محاولة متوحشة منه لتبرير الفظائع التي يواجهها المدنيون الفلسطينيون الآن: «شعب كامل يتحمل مسؤولية ما حدث. ما يُقال عن وجود مدنيين غير مدركين وغير متورطين هو كلام خاطئ. كان بإمكانهم أن ينتفضوا، وكان بإمكانهم القتال ضد هذا النظام الشرير».

إن العنف الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، والمدعوم بشكل لافت للنظر من الرئيس بايدن وفريق السياسة الخارجية التابع له، لا يشبه أي شيء شهدناه سابقًا وبتغطية مباشرة في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي. إن غزة وشعبها والأراضي التي حملتهم لقرون تُدّنس الآن، وتحوَّل إلى أرض يباب محروقة لا يمكن العيش فيها نهائيًا، وسيكون تأثير ذلك محسوسًا على الأجيال القادمة، لقد ضمنت إسرائيل تحقيق ذلك.

التعليقات