13/02/2024 - 19:58

التجويع أداةً للحرب

حذرت منظمة أنقذوا الأطفال Save the Children من أن الوفيات في قطاع غزّة بسبب المجاعة والأسباب ذات الصلة قد تتجاوز قريبا ما يقرب من 22,000 حالة وفاة ناجمة مباشرة عن الهجوم العسكري...

التجويع أداةً للحرب

أطفال في انتظار الطعام في غزّة (Getty)

اتهمت جنوب إفريقيا إسرائيل في 11 يناير/كانون الثاني بارتكاب جرائم إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية في لاهاي. وأوضحت في قلب حجتها أن إسرائيل تدمر الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة من خلال المجاعة. وتحظر المادة 2 (ج) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية «إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا». وقالت إسرائيل إن الاتهامات «لا أساس لها من الصحة»[1].

انهار النظام الغذائي في قطاع غزة انهيارًا كاملًا، وانهار النظام الصحي، وانهارت البنية التحتية الأساسية للمياه النظيفة والصرف الصحي. ووفقًا للجنة مراجعة المجاعة Famine Review Committee (FRC)، يواجه سكان قطاع غزة احتمالًا حقيقيًا بمواجهة المجاعة[2]: وبدون اتخاذ إجراءات فورية، سنشهد وفيات جماعية بسبب الجوع أو تفشي الأمراض. تقوم لجنة مراجعة المجاعة بتسليم تقييماتها إلى مجموعة من وكالات الإغاثة الدولية التي تدير نظام إنذار مبكر يعرف باسم التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي Integrated Food Security Phase Classification (IPC).

أطفال في انتظار الطعام في غزّة (Getty)

وكما كتبتُ في هذا الموقع فيما يتعلق بالأزمة في تيغراي، يحدد التصنيف الدولي المتكامل لمراحل الأمن الغذائي خمس مراحل لشدة انعدام الأمن الغذائي الحاد: مقبولة، ومنذرة بالخطر، وحادّة (متأزمة)، وخطرة (طارئة)، وبالغة الخطورة (الكارثة/المجاعة). ويقال إن المجاعة تحدث في منطقة معينة عندما «يتأثر ما لا يقل عن 20 في المئة من السكان، ويعاني حوالي واحد من كل ثلاثة أطفال من سوء التغذية الحاد ويموت شخصان يوميًا من كل 10,000 نسمة بسبب المجاعة المباشرة أو نتيجة اقتران سوء التغذية بالأمراض». يمكن أن تكون الأسر في المرحلة الخامسة من الكارثة حتى لو لم يتم الإعلان عن المجاعة في المنطقة الأوسع. وفقًا لأحدث تحليل صادر عن لجنة مراجعة المجاعة عن قطاع غزة بتاريخ 21 ديسمبر 2023 فإن «واحدة على الأقل من كل أربع أسر (أكثر من نصف مليون شخص) في قطاع غزة تواجه ظروف انعدام الأمن الغذائي الحادة والكارثية».

كما يمكن تشخيص وتحديد المجاعة عبر عدد الوفيات الزائدة التي تعزى إلى الجوع والأسباب المرتبطة به. والمجاعة «الكبرى» هي تلك التي يموت فيها 100,000 شخص أو أكثر، أما المجاعة «الكبيرة» فهي التي تبلغ الوفيات فيها تبلغ عتبة الـ 10,000 حالة وفاة زائدة. وتعد هذه الأرقام مفيدة في أرشفة وتصنيف مجاعات التاريخ، وليس لوصف الأزمات الغذائية التي تحصل أمامنا.

حذرت منظمة أنقذوا الأطفال Save the Children من أن الوفيات في قطاع غزّة بسبب المجاعة والأسباب ذات الصلة قد تتجاوز قريبا ما يقرب من 22,000 حالة وفاة ناجمة مباشرة عن الهجوم العسكري. غالبًا ما تقضي العائلات يومًا أو يومين أو ثلاثة أيام دون طعام. وتنتشر الأمراض المعدية، التي غالبا ما تكون السبب المباشر للوفاة بين الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 70 في المئة من المساكن قد دمرت أو تضررت. ولا يتمكن سوى عدد قليل من الناس من الحصول على مياه الشرب النظيفة، وعدد أقل من الناس يصلون إلى المراحيض. إن خطر تفشي الأمراض المنقولة بالمياه وغيرها من الأمراض المعدية مرتفع للغاية.

إذا استمرت الكارثة في غزة في مسارها الحالي، فإن التنبؤات بالوفيات الجماعية بسبب المرض والجوع والتعرض للخطر سوف تتحقق. وإذا قُدّمت المساعدة الإنسانية على وجه السرعة وعلى نطاق واسع، فإن الوفيات الناجمة عن الجوع والمرض سوف تستقر وتنخفض، ولكنها ستستغرق بعض الوقت للعودة إلى مستويات ما قبل الأزمة. وحتى مع الوقف الفوري للأعمال العدائية وتقديم المساعدات الطارئة، إلى جانب الجهود المبذولة لاستعادة خدمات المياه والصرف الصحي والخدمات الصحية، فإن الوفيات ستظل مرتفعة لأسابيع أو أشهر. وحتى هذا من شأنه أن يشكل مجاعة «كبيرة»، وفقًا لتعريف وفاة 10,000 شخص أو أكثر. أو قد نكون أمام مجاعة «كبرى» ووفاة ما يزيد عن 100,000 شخص إذا استمرت الأعمال العدائية والدمار على المستوى الحالي نفسه.

عُرّفت جريمة الحرب المتمثلة في التجويع في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنها: «استخدام تجويع المدنيين وسيلةً من وسائل الحرب عمدًا من خلال حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف».

المواد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة Objects indispensable to survival (OIS) لا تشمل الغذاء فحسب، بل تشمل أيضًا الماء والدواء والمأوى. ولا يعد موت الأفراد جوعًا شرطًا لتحقق ارتكاب الجريمة، بل يكفي حرمانهم من المواد التي لا غنى عنا لبقائهم على قيد الحياة. وخلصت هيومن رايتس ووتش وآخرون إلى أن تصرفات إسرائيل في قطاع غزة تحقق شروط جريمة الحرب المتمثلة في التجويع.

وقد كتب الجنرال غيورا إيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي: «قد يتساءل الناس عما إذا كنا نريد لشعب غزة أن يموت جوعًا. لا نريد ذلك [...] يجب أن يقال للشعب إن أمامه خيارين: البقاء والجوع، أو المغادرة». وهو ما يُعدّ جريمة تجويع أيضًا.

إن حرب الحصار ليست غير قانونية في حد ذاتها، ولكنها يمكن أن تصبح كذلك إذا حرمت المدنيين بشكل غير متناسب ومنهجي من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة. يعد حصار غزة منذ عام 2006 وما بعده حالة مثيرة للجدل: فقد سيطرت إسرائيل على الغذاء والمياه والإمدادات الطبية والكهرباء بشكل شبه كامل، وكانت صارمة في تحديد السلع التي يسمح بدخولها إلى القطاع، في حين تسعى إلى عدم الوقوع في مخالفة للقانون الإنساني الدولي. وعلى حد تعبير دوف فايسغلاس، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت، فإن «الفكرة هي وضع الفلسطينيين على نظام حمية غذائية، لا جعلهم يموتون من الجوع».

وعلى مر السنين، تسبب الحصار في حالة حرمان شديد. «قبل الصراع الحالي»، وفقا لنتائج الأمم المتحدة التي نشرت الشهر الماضي، فإن «64 في المئة من الأسر في قطاع غزة تعاني من انعدام الأمن الغذائي أو معرضة لانعدام الأمن الغذائي، ويعيش 124,500 طفل صغير في فقر غذائي [...] وبالإضافة إلى ذلك، وقبل بدء الأعمال العدائية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أفادت الأونروا أن أكثر من 90 في المئة من المياه في غزة اعتبرت غير صالحة للاستهلاك البشري».

هذا هو الوضع الذي تحول منه قطاع غزة بسرعة إلى حالة الكارثة. لقد تصرفت الحكومة الإسرائيلية وهي على علم تام بالظروف الإنسانية القائمة وتأثيرات أي إجراءات تختار اتخاذها. وكذلك فعلت حماس أيضًا. لكن ذلك لا علاقة له بتحديد مسؤولية إسرائيل. وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر، قال وزير الدفاع يوآف غالانت: «لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة. سنقطع الكهرباء والطعام والوقود. لن يدخل شيء». لا تقلل الكميات الضئيلة من المساعدات الإنسانية التي سُمح لها بعد ذلك بالدخول إلى غزة من قوة هذا البيان ولا تأثيره.

وفيما يتعلق بالإطار الذي وضعه ديفيد ماركوس، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، فإن هذا مؤشر ظاهري على «جريمة مجاعة» من الدرجة الأولى. وحتى لو كان بيان غالانت لا يعكس سياسة الدولة أو الإستراتيجية العسكرية، فإن حقيقة استمرار الحملة العسكرية الإسرائيلية دون أي تغيير ملموس في أساليبها بعد أن أصبحت العواقب الإنسانية واضحة، تعني أن العملية في قطاع غزّة هي أيضًا جريمة مجاعة من الدرجة الثانية. وفي كلتا الحالتين فإن تحويل قطاع غزّة إلى وضع حيث تكون المجاعة فيه وشيكة لا يشكل جريمة حرب فحسب بموجب نظام روما الأساسي، بل هو جريمة ضد الإنسانية.

وُضع التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) عام 2004. وبالرجوع إلى إجراءاته ومعاييره، فقد أعلنَ عن مجاعات في الصومال عام 2011 وجنوب السودان عام 2017. وفي حالات أخرى، بما في ذلك إثيوبيا ونيجيريا واليمن، وحددت لجنة مراجعة المجاعة ظروف المرحلة الرابعة (الخطرة والطارئة) من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي وحذّرت من مجاعة وشيكة إذا لم تُتخذ إجراءات إنسانية فورية. لم يتم الإعلان عن المجاعة في سوريا، حيث لم يقم المركز بجمع البيانات. وفي السجل التاريخي للمجاعات وحوادث المجاعات الجماعية، من الصعب العثور على تشابه وثيق مع الوضع في قطاع غزّة. حالات قليلة تجمع بين مثل هذا الحصار الشامل ومثل هذا التدمير الشامل للمواد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة. إن الأعداد النهائية للبشر الذين يموتون في غزة لن تتطابق مع أعداد المجاعات المأساوية التي حدثت في القرن العشرين، وذلك لأن عدد السكان المنكوبين أقل، إلا أن عدد الوفيات بالنسبة لعدد السكان قد يكون مماثلًا.

إن دقة وحجم وسرعة تدمير المواد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة وإنفاذ الحصار تفوق أي حالة مجاعة أخرى من صنع الإنسان خلال الـ 75 عامًا الماضية. ويحذر مجلس بحوث اللاجئين من أن ظروف المجاعة الصريحة قد تكون واسعة النطاق في وقت مبكر من الشهر المقبل[3]. ويمكن إجراء مقارنات مع المجاعة القسرية في بيافرا (1967-1970)، وحصار سراييڤو (1992-1995)، وتكتيكات «الإركاع أو التجويع» التي استخدمتها حكومة الأسد في سوريا وجرائم التجويع التي ارتكبتها حكومات إثيوبيا وإريتريا في تيغراي (2020-2022).

في تصنيف تاريخي مقارن، حددت أنا وبريدجيت كونلي تسعة أغراض للتجويع بالنسبة للجهات الفاعلة السياسية والعسكرية التي ترتكبها على نطاق واسع، وأول خمسة منها هي: الإبادة أو الإبادة الجماعية، والسيطرة من خلال إضعاف السكان، واكتساب السيطرة الإقليمية، وطرد السكان، والعقاب. بالنسبة لحكومة إسرائيل، فإن مجاعة قطاع غزة تتوافق بلا شك مع الأربعة الأخيرة من هذه الأغراض. وإذا أخذنا بعض التصريحات الصادرة عن كبار الساسة الإسرائيليين على محمل الجد، وإذا استمرت إسرائيل في حملتها كما هي، بعد التحذيرات الواضحة من المجاعة، فإن الحجة لصالح الإبادة والإبادة الجماعية قد تصبح أكثر إقناعًا. إن محاسبة الجهات المسؤولة هي المفتاح لإنهاء جريمة التجويع، وإسرائيل ليست استثناءً.


إحالات:

[1] نُشرت المقالة في 11 يناير/كانون الثاني 2024، أي قبل الجلسة التي أوضحت فيها محكمة العدل الدولية معقولية اتهامات جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.

[2] تشير الأخبار إلى أن بعض مناطق قطاع غزة، مثل المحافظات الشمالية، أنه لم يعد لدى الناس ما يأكلونه، كما لا توجد منظومة صحية طبية لرعاية السكّان. وتشير الأخبار والمعلومات الأممية إلى تفشي الأمراض الناتجة عن سوء التغذية وتلوث مياه الشرب وعدم إمكانية الوصول إلى مراحيض نظيفة في أنحاء القطاع كافّة.

[3] المقصود به هنا شهر يناير/كانون الثاني 2024، وهو ما تحقق بالفعل.

التعليقات