التراث العربي والعقل المادي: دراسة في فكر مروة

-

التراث العربي والعقل المادي: دراسة في فكر مروة
تكمن اهمية دراسة كتاب التراث العربي والعقل المادي.. دراسات في فكر حسين مروة الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر للباحث موسي برهومة ليس في اعادة قراءة احد الكتب الموسوعية التي تناولت الفكر العربي الاسلامي بمنهجية ومعالجة جديدتين وايضاً في الزمن الراهن الذي صدر فيه الكتاب لتبدو القراءة بمثابة مراجعة للاصداء التي تركها مروة في دراسة التراث العربي في زمن تتعرض فيه حركة التحرر العربي الي النكوص والانحسار ويتعرض فيه الاسلام الي الاتهام.

وتتعزز مثل هذه الاهمية بالجهد الاكاديمي الذي بذله الباحث برهومة لالقاء الضوء علي كتاب ظل يثير الكثير من ردود الافعال منذ صدوره لأكثر من ثلاثة عقود ولم يخطر بالاهتمام من المؤسسات الاكاديمية، ليربط بين جدوي البحث والاهتمام بقضايا المجتمع من خلال التركيز علي مسيرة مروة الحياتية والعلمية التي انتهت بطريقة دراماتيكية، حيث تم اغتياله العام .1987

ويقارب الباحث بين آراء الكاتب مروة والآراء الفكرية السائدة مقاربة نقدية، تثري الدراسات التي تناولت اعمال مروة الفكرية والدراسات المشابهة التي تناولت مفردة التراث والفكر العربي المعاصر. مؤكدا علي الاسهامات الريادية لصاحب النزعات المادية في تعميق منهج البحث العلمي في الدراسات التراثية من ناحية وربط ذلك المنهج بالفكر العربي الاسلامي من ناحية اخري، وتوقف الباحث برهومة عند احدي الاشكاليات التي وقع فيها مروة الذي توسل الذرائعية لتسويغ آرائه، وتعسف في انطاق النصوص وتأويلها علي نحو ايديولوجي غير ان الباحث برهومة في كتابه الذي يقع في 96 صفحة من القطع المتوسط، وهو بالاصل اطروحته لنيل درجة الماجستير في قسم الفلسفة بالجامعة الاردنية يوازن بين منهجية ونوايا مروة الذي اراد توظيف التراث العربي الاسلامي لخدمة حركة التحرر العربي المعاصر، وتأكيد عناصر الوحدة التاريخية بين ماضي الامة وحاضرها، واحالة الظاهرة التراثية الي سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، والاهم من ذلك هو نفي المقولة التقليدية التي نشأت لدي الباحثين حول توفيقية الفلسفة العربية الاسلامية وتكمن اهمية الكتاب في المقاربات المحاكمات التي اجراها الباحث مع عدد من النصوص العربية المعاصرة.

وقد جهد الباحث برهومة كثيرا في سعيه الي تطهير الكتاب من صورته البحثية ومتطلباتها الاكاديمية ومصطلحاتها ولغتها الصارمة الي مُؤلف غني بالمعلومة والفائدة، والمتعة التي تلقي الضوء علي مروة وسيرته والمناخات السياسية والثقافية المحيطة به، وتحولاته الفكرية فضلا عن الماحه الي التيارات الفكرية والاحداث التي وقعت مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، لينسجم ذلك مع رأي مروة في ضرورة ابراز الانتماء الطبقي للمفكر عند دراسة آرائه لما لذلك من علاقة وثيقة بمقولاته.

ولا يكتفي الباحث في دراسته لفكر مروة من خلال كتابه الابرز النزعات المادية.. وانما يتتبع آراء مروة في العديد من المؤلفات والحوارات والبحوث وما كتب عنه ليقدم كتابا يوازن بين اهتمام الباحث الاكاديمي والقارئ العادي، بلغة بسيطة ومعالجة شاملة وتبويب ميسر يظل معه مخلصا للرسالة التي ارادها مروة من وضع موسوعته الفكرية التي صدرت العام 1978 عن دار الفارابي في لبنان في جزئين ونحو 800 صفحة من القطع الكبير.

واذا كان الباحث برهومة لا يخفي اعجابه بآراء مروة وفكره الا ان ذلك لم يثلم موضوعيته، ولم ينسق وراء الاهواء، بل ظل مخلصا لمنهجية العلم واخلاقية البحث، وضالة الحقيقة رغم ما يعتري الموضوع من شراك تغري بالوقوع في المغريات التي تزينها مقولات الايديولوجيا التي جعلت من الباحث في احايين كثيرة يسلك طريق السير علي حبل رفيع يستفز كل حواسه وانتباهه ويقظته، خصوصا عندما يتعلق الامر بالفرق والجماعات الاسلامية التي نظر اليها مروة وفق تطبيقاته ومقولاته.

قسم برهومة الدراسة الي ثلاثة فصول وخلاصة وخاتمة وقائمة بالمصادر والمراجع، وحاول خلال هذا التقسيم ان يتخفف من متطلبات البحث العلمي في شكلانيته ويكون حريصاً علي تقديم المعلومة باسلوب شائق مفضلا التكثيف علي الاطالة للوصول الي زبدة الموضوع لينسج فكرة البحث بالتداخل مع ظروف التأليف والمؤلف في رحلته المكانية والمعرفية التي طاولت سفره من لبنان الي العراق ثم (الاتحاد السوفييتي) وزمنيا بين العصر الاسلامي الوسيط والراهن في اختلافاته وتقاطعاته. تناول الفصل الاول حياة حسين مروة المولود في لبنان العام 1910 والمتوفي فيها العام 1987 وتطوره ودراسته الدينية منذ ان كان في الثانية عشرة من عمره، ثم انتقاله الي النجف بالعراق لدراسة الفقه، وانفتاحه علي التيارات الفكرية وانعطافته لقراءة الماركسية انطلاقا من الاسئلة التي كانت تثيرها نفسه فيه لطلب الحقيقة، وتأثره بالاحداث التي كانت تنوء بها المنطقة وقتذاك، ثم تحوله الي الماركسية التي وفرت له نافذة لدراسة التراث بمنهجية جديدة.

وذهب مروة الي موسكو، ومكث هناك عشرة اعوام ينقب في التراث الفكري العربي الاسلامي، حتي انجز اطروحته في 21 آب (اغسطس) 1978 في كتاب موسوعي حمل صفة الريادة التأسيسية في تناول حركة التراث العربي الاسلامي، ومسيرته في سياق منهجي علمي مادي معاصر اثار عاصفة من ردود الافعال الساخنة والمتناقضة .ص 30

ويلقي الباحث برهومة في الفصل الثاني الضوء علي الاسئلة التي اراد مروة الاجابة عليها من خلال بحثه في التراث، التي تتعلق برفد حركة التحرر العربي بالمنهج العلمي، وتأكيد اصالتها وانسياقها التاريخي، ويناقش ذلك من خلال مقاربات مع آراء العديد من الباحثين والاكاديميين والمفكرين العرب الذين درسوا فكر مروة وخصوصا كتابه النزعات المادية ومنهم: جورج طرابيشي، طيب تيزيني، محمد اركون، محمد عابد الجابري، محمود امين العالم، فهمي جدعان، مهدي عامل، علي حرب وسواهم.

وتكشف آراء الدارسين التي تناولت فكر مروة عن بعض الاشكاليات التي وقع فيها وخصوصا فيما يتعلق باشكالية المنهج: وتطبيقه علي دراسة التراث قد مثل اشكالية جديدة للفكر العربي المعاصر ص 45 وان تحويل التراث الي اسلحة من اسلحة ايديولوجيا الكفاح والتوظيف النضالي للتراث قد يدخل في تعارض مع الوظيفة المعرفية بحد ذاتها ص36

ويناقش الباحث برهومة في الفصل الثالث مدي نجاح مروة في تطبيق المنهج المادي التاريخي علي التراث الفكري العربي الاسلامي من خلال جملة مؤلفاته النزعات المادية... ، دراسات في الاسلام و دراسات وحوارات مع مروة ويحلل الادوات التي وظفها مروة لدراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للعصر الوسيط منذ ما قبل نشوء النظر الفلسفي في عصور الجاهلية الاولي وحتي استقرار الفلسفة، مروراً بملامح التفكير الفلسفي الجنيني علي أيدي الشيعة والخوارج وما تلاهما وصولاً الي علم الكلام وبروز المنطق، وتبلور ظاهرة التصوف بمناهجها السياسية والنظرية والفكرية وظهور اخوان الصفا ص58

ويعاين برهومة المشكلات المنهجية التي وقعت فيها قراءات مروة لافكار الجماعات والفلاسفة المسلمين...
وعلي الرغم من اقرار مروة بعدم معرفته كيفية معالجة الكندي الموضوعات التي تضمنتها الاسماء والعناوين التي حملتها مؤلفاته غير المنشورة، الاانه ــ اي مروة ـ لا ينفك بذرائعيه التي تتبلور بشكلها الصارخ في هذا السياق.. ص66
وان آفة القسر المنهجي تنخرعلي نحو ملموس، تسويغية مروة التي تتأرجح بين (العجر التاريخي) حينا و(الخشية من القمع والاضطهاد) حينا آخر ... ويري مروة ان ذلك يعني اولئك الفلاسفة ـ تاريخياً ـ عن ادراك القوانين الموضوعية للحركة بذاتها ص78

ويفسر برهومة ان الالتباس الذي برز في دراسة مروة ناتج عن خوضه في مسائل خلافية جَدَلَت مفاهيم (التراث) و(المعاصرة) في نسق جديد يقوم علي استخدام صحيح، فالأداة ليست هي المشكلة وانما الغاية التي يريد ان يصل اليها الباحث كما يقول مهدي عامل:

التراث شيء، ومعرفة التراث شيء آخر ، ويؤكد الباحث برهومة ان مروة (ادلج) التراث وان كان الباحث برهومة يلتمس الاعذار التي توفر لمثل هذا المنهج تمكين (الجماهير) من توظيفه في معركته اليومية المطلبية المعاشية، فضلاً عن اتخاذ التاريخ متكأ كي تمدنا ظواهره بروائع لمواجهة تحولات الراهن وتشابكاته الطبقية الملتبسة ... ص89
الا ان ذلك يوقعه في الاشكالية ذاتها التي وقع فيها مروة الذي اختار التوفيق بين المنهج والغاية.

مشيراً الي ان مروة رغم ما يؤخذ علي تقسيماته للمناهج والتيارات الفكرية فإنه نجح في قيادة اتجاه فكري لا يمكن للباحث تجاهله او القفز عنه مهما اختلف مع أسسه ونتائجه ص85.

ومع ذلك فان مثل هذه الملاحظات لا تقلل من الجهد الذي بذله الباحث حيث يقول د. فهمي جدعان ان دراسة برهومة نجحت في ابرازها للغاية القصوي التي تثوي وراء مشروع حسين مروة وهي توظيف التراث العربي الاسلامي في المواقف الايديولوجية الطبيعية، وفي ربط حركة التحرر العربي المعاصر بالنزعات المادية في الحضارة الاسلامية.

يشار ان برهومة من مواليد عمان العام 1966، حاصل علي بكالوريوس في الأدب العربي، وماجستير الفلسفة من الجامعةالاردنية، عضو رابطة الكتاب الاردنيين ونقابة الصحافيين، صدر له كتاب بعنوان هذا كتابي .

التعليقات