العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم

العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم
د. بشار خليف طبيب سوري، باحث وأديب. صدر ت له مجموعة من الكتب القيمة «دراسات في حضارة المشرق العربي القديم»، «مملكة ماري السورية»، «الحفيدة ـ قصص» وغيرها..

في كتابه «العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم» يقوم خليف بإجراء مقاربة تاريخية آثارية نفسية يكشف فيها عن العلاقة بين المؤسسة الكهنوتية العبرانية التي قامت في منتصف الألف الأول قبل الميلاد ـ حوالي سنة 500 ق.م ـ والحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، والتي يعتبر فيها د. بشار أن الحركة الصهيونية، إذا كانت قد قامت كرد فعل على (ذوبان) اليهود في المحيط الذي يتواجدون فيه ـ محاولة لملمتهم ـ فذلك كان قيام المؤسسة الكهنوتية قبل حوالي 2500 عام. إذ إن معظم الدراسات والأبحاث التاريخية المستندة إلى حقائق التنقيبات الأثرية التي جرت في فلسطين تجمع على عدم وجود أي دليل أثري ـ مادي أو كتابي ـ يؤكد أنه كان هناك وجود حقيقي وفاعل للعبرانيين في بلاد كنعان الجنوبية، بل إن كتاب التوراة كما يرى د. بشار خليف؛


ولاسيما في أسفاره الخمسة الأولى (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية» والتي جُيِّرت لموسى التوراتي، تبين ألا رابط بينها وبينه، حيث كتبت بعد حوالي 600 عام عن وجوده المفترض في التوراة، وقد كتبها الأحبار اليهود، رواد المؤسسة الكهنوتية العبرانية إبان السبي البابلي، حيث إن «الحقائق التاريخية» التي ذكرها الأحبار، أخذت مفاعيلها مع الزمن،


وبات التاريخ الإنساني بشكل عام، وتاريخ المشرق العربي ومصر بخاصة يُقرأ وفق الرواية التوراتية، إلى أن بدأت الكشوفات الأثرية اعتباراً من القرن التاسع عشر تميط اللثام عن المخزون الحضاري التاريخي والكتابي، بدءاً من الجناح الشرقي الرافدي للمشرق العربي، ثم تتالت الكشوفات على مدى مواقع المشرق إلى يومنا هذا.


ولعل الهزة الأولى التي بدأت تزلزل رواية التاريخ التوارتي، شكلت مفصلاً مهماً في إسقاط النظرية التوراتية في قراءة تاريخ منطقة المشرق العربي. ففي 3/12/1872 وقف «جورج سميث» أمام جمعية الآثار التوراتية في لندن ليعلن اكتشاف رقم مسمارية في موقع مدينة نينوى، تحتوي على وقائع مشابهة بشكل صميم لرواية الطوفان التوراتية، بما يعني أن التوراة أخذت هذه الرواية من وثائق المشرق العربي القديم.


وبذا يصرح «سميث» أن التوراة لم يعد هذا الكتاب يختلف عن بقية الكتب، وليس الكتاب الذي أملاه الله، أو كَتَبَهُ بنفسه. وباطراد، ومع المزيد من الكشوف والوثائق لمواقع بابل وأوغاريت وإيبلا وماري ونوزي وأور.. الخ.. اتضح أن معظم مرويات التوراة ولاسيما في أسفاره الخمسة الأولى، منحولة عن تراث المشرق العربي الذهني والفكري والأدبي والحقوقي،


ومنها ما هو مختلق، ولا يتناسب مع روحية المشرق العربي المنفتحة. ولعل الأمر الأخطر من هذا، هو تعمد كتاب التوراة إلى صياغة مفترضة وهجينة لتواجدهم في المشرق العربي وذلك عبر إرجاع تواجدهم المزعوم في البدء إلى مدينة «أور» الرافدية عبر جدهم المزعوم إبراهيم التوراتي وذلك في حوالي 1900 ق.م.


ثم ونتيجة طروءهم على بلاد كنعان في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، حيث بالغوا وضخموا من أخبارهم بما نفته الحقائق الأثرية، يلاحظ أن هناك تضاداً وتعاكساً بين النفسية المشرقية الحضارية المتفتحة، وبين نفسية المؤسسة الكهنوتية التوراتية التي خطت التوراة في أسفاره الخمسة الأولى،


بما يعطي انطباعاً غير مألوف ومضاد لنفسية المشرق العربي وذهنيته، بحيث يمكننا إيجاز ذلك بالقول إننا أمام صراع بين نفسية منفتحة وحضارية، وبين عالم ظلامي، مغلق، متحجر، حاقد، كللته الأحبار في توراتهم من أجل أن يبقى المجموع العبراني دون تفاعل مع محيطه، وبالتالي الذوبان فيه.


أيضاً، لا يمكن فهم عقيدة التوراة عبر (يهوه) الإله الخاص لشعب مختار في أرض مختارة له، إلا من منظور عنصري ألصقته نفسية الأحبار بإلههم الذي جاء مماثلاً لما يعتلج في خافيتهم ـ لا شعورهم الجمعي ـ وعليه بتنا نفهم أن هذا التحجر والانغلاق والعنصرية الذي سعت المؤسسة الكهنوتية التوراتية إلى تكريسه لدى المجموع العبراني، كان من نتائجه تعرض العبرانيين عبر تاريخهم إلى النبذ والتأديب من قبل شعوب الأرض، فهو نتيجة لا سبب.


وعلى هذا نفهم أيضاً لماذا أدبهم المصريون في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، حين كانوا عبارة عن قبائل مرتحلة تعيش على السلب والنهب والارتزاق في أطراف بلاد كنعان. ثم تعرضهم لتأديب الكنعانيين، والفلسطينيين، والآراميين، والآشوريين، والبابليين.


ويتبدى هذا الأمر جلياً في العصر الهلسنتي الذي اتسم بالتفاعل والتلاقح الفكري والحضاري بين الشعوب. فكان طبيعياً أن يتعرضوا لتأديب السلوقيين وصولاً إلى العصر الروماني، حيث سيتم تدمير هيكلهم، وتشتتهم في المحيط التاريخي الحيوي. وهؤلاء من يشكلون بالأدبيات المعاصرة (اليهود الشرقيين) والذين لا رابط يربطهم مع (المتهودين الخزريين) نسبة إلى امبراطورية الخزر ـ الذين اغتصبوا فلسطين في منتصف القرن العشرين، وهم ينظرون إلى اليهود الشرقيين على أنهم أدنى مقاماً منهم.


بعد هذا يتابع المؤلف مناقشة التواجد العبراني في المشرق العربي استناداً على المكتشفات الأثرية، بعيداً عن مبالغات ومغالطات التوراة واختلاقاته، ومن ثم يدرس ويحلل المرويات التوراتية المنتحلة من تراث المشرق، وما سمي بخوارق موسى التوراتي، مروراً باصطلاح السامية، فالإضاءة على حركة فكرية إسرائيلية جديدة أطلق عليها «المؤرخون الجدد» والذين أصبحوا يشكلون عبئاً معرفياً على البديهيات التاريخية التي سعت إليها المؤسسة الكهنوتية التوراتية، وتالياً الحركة الصهيونية.


ثم يعمد بعد ذلك المؤلف إلى قراءة ودراسة حضارة المشرق العربي القديم بجناحيه ـ الرافدي والشامي ـ لتبيان مدى ضحالة وضآلة فترة التواجد العبراني، نسبة إلى عمق التواجد الحضاري للمشرق ـ أي فلسطين ـ بحيث يتتبع خط الإشغال البشري المشرقي المتواصل، والذي بدأت ملامحه بالوضوح والتبلور مع الثقافة النطوفية، صعوداً نحو العصور اللاحقة، على أن حركة الاجتماع البشري لكامل المشرق العربي آنذاك، أخذت طابعاً تواصلياً ومستمراً حتى العصور اللاحقة وبشكل متجانس وحتى طروء العبرانيين إلى أرض كنعان.


ولعله أهم خاصية في حركة الاجتماع المشرقي كانت تتأسس على فعل التمازج والتفاعل الديموغرافي بين الأرومات الاجتماعية المختلفة بما يشكل في النهاية محصلة تعبر عن كل هذا، في نشوء شخصية مجتمعية منفتحة وأصيلة في الوقت نفسه ـ الشخصية المشرقية العربية.


والذي يبدو أن من شذّ عن هذه القاعدة كان التجمع العبراني الذي رفض قادته، ومؤسسته الكهنوتية تفاعله مع محيطه الطبيعي أثناء طروءه على بلاد كنعان.


وعلى هذا يلاحظ أن آلية حركة التاريخ في المشرق لم تخلق ثنائية متضادة بين مؤسساته، وبين الشعب المشرقي. بمعنى أن المؤسسات كانت للمجتمع، في حين أن التجمع العبراني عانى من تدخل رجال الكهنوت المنغلقين، ما أدى إلى اعتبار أن المجتمع العبراني عبر تاريخه كان للمؤسسة الكهنوتية وليس العكس. وهنا ـ حسب المؤلف ـ تقع أسباب هذه الإشكالية التي عصفت بالمشرق العربي القديم وصولاً إلى اللحظة الراهنة.

(انور محمد - "البيان")

التعليقات