كتاب جديد "جدار شارون" تأليف: آلان مينارغ/مراجعة: نواف الزرو

-

كتاب جديد
انه جدار اسمنتي ارتفاعه 8 امتار وعرضه يتراوح بين 70 و100متر ، مع الخنادق والاسلاك الشائكة ، ومجهز بكاميرات ورشاشات توجه عن بعد وبطول 700 كم: ذلكم هو "الحاجز الامني "الذي يقوم برفعه الجيش الاسرائيلي "لإيقاف تسلل الانتحاريين الفلسطينيين " والذي يشاد شيئا فشيئا امام انظار الولايات المتحدة وبمباركتها.

هذا الجدار الذي يضم المستعمرات الاسرائيلية والاراضي الزراعية في الضفة الغربية ويشطر القرى الفلسطينية الى نصفين او يعزلها : يفرق ما بين اعضاء الاسرة الواحدة .. يبعد التلاميذ عن مدارسهم والفلاحين عن حقولهم والمؤمنين عن اماكن عبادتهم...انه "جدار العار" كما دعاه الفلسطينيون يشاد وسط لا مبالاة تامة من قبل الاسرة الدولية .

يرسم لنا "آلان مينارغ" المراسل الصحفي الفرنسي الكبير والاختصاصي بشؤون الشرق الاوسط في كتابه الجديد الذي اطلق عليه اسم " جدار شارون " (الذي يتكون من ستة فصول كاملة تمتد على مساحة 357 صفحة) خطوط ذلك المشروع الهائل الذي يقوم وسط اماكن تاريخية تستأثر بالاهتمام ، ضاربا عرض الحائط كافة قرارات الامم المتحدة ومبددا آخر الآمال بقيام مصالحة او سلام في المنطقة .

في الفصل الاول من الكتاب الذي عنونه المؤلف ب"لم الجدار...؟"يلقي مينارغ الضوء على المقدمات والجذور الايديولوجية "الغيتوية " والسياسية الراهنة التي تقف وراء مخطط الجدار فيقول في هذا السياق عن الخلفيات الايديولوجية مثلا :

منذ زمن طويل والخوف من "العربي " متجذر بعمق في نفوس الاسرائيليين ، لقد بدأ من قبل ان يبدأ المهاجرون اليهود القادمون من اوروبا الوسطى بالاستقرار في فلسطين ، ثم تبلور من بعد ليتحول من أزمات الى حروب ومن مذابح الى هجمات ومن حالات عنف الى اعمال اغتصاب..يضاف الى ذلك ان الحروب الاسرائيلية – العربية التي ظلت تدور بعيدا عن حدود الدولة العبرية منذ انشاء اسرائيل قد ازدادت اقترابا مع مرور السنين.

لقد اصبح الخوف اليوم ارهابا حقيقيا وتسبب ذلك التوتر الدائم والخوف المستمر بصدمة عميقة للراي العام الاسرائيلي واستلزم حاجة فورية لأحلال الامن وحينئذ اضحى كل شيء مقبولا ما دام يهدف الى وضع حد لذلك القلق المدمر .

لقد حقق شارون تقدما واضحا في انتخابات 6 شباط 2001 لمجرد وعده بأحلال السلام والامن، وكان اعلان حكومة باراك السابقة عن وضع فاصل ملموس مع الفلسطينيين عبارة عن جدار قد أشاع ارتياحا حقيقيا بين المواطنين، وبدا الخيار المتمثل في ان يوضع "حول "الضفة الغربية ما جرى وضعه في غزة خيارا منطقيا ومعقولا. وأضحى "السياج"اذا مركز الاهتمامات كلها ،كما اعتبر الدواء الناجع من قبل غالبية الاسرائيليين ،فهو الوسيلة الفضلى لأبعاد الفلسطينيين بكل ما يمثلون .

ولكن ... يقول البروفسور الاسرائيلي "غادي الغزي" استاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل ابيب :"ليست هذه المرة الاولى التي يستخدم فيها الخوف لتبرير "مشروع سياسي يخلق باسم الأمن على المدى القصير وضعا خطيرا على المدى الطويل" وليست المرة الاولى التي يخلط فيها الاسرائيليون ما بين الأمن والحياة وراء الأسلاك الشائكة ".
للدلالة على هذا البعد الخطير يستشهد المؤلف هنا بما كان جابوتنسكي قد اعلنه في مقالة نشرت له عام 1923 قائلا : "يستحيل على المرء ان يحلم باتفاق طوعي بيننا وبين العرب لا الآن ولا في مستقبل منظور...فكل أمة متحضرة كانت ام بدائية تنظر الى ارضها على انها موطنها القومي الذي تريد البقاء فيه مالكة وحدها، فلن تقبل مثل تلك الامة ابدا وبملء ارادتها مالكين جددا، ولسوف تظل تقاتل المستعمرين ما دامت تأمل في التخلص منهم، وعلى هذا النحو سيتصرف العرب وعلى هذا النحو سيواصلون التصرف ما دامت في قلوبهم ومضة أمل بمنع فلسطين من ان تتحول الى ارض اسرائيل ...وحده الجدار الحديدي من الحراب اليهودية قمين بارغام العرب على القبول بما ليس منه بد " كانت تلك اول مرجعية للجدار –السياسي – ويضيف مينارغ : ان فكرة الفصل التي جاء بها جابوتنسكي عام 1923 يتم تنفيذها بعد ذلك بثمانين عاما على يد خلفائه السياسيين وعلى رأسهم شارون .

وينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن عناوين الجدار والفصل فيتطرق مثلا الى الفصل الجغرافي والديموغرافي ومن ثم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ليدلل ايضا على البعد العنصري وراء الجدار .

ينتقل الكاتب الفرنسي مينارغ في الفصل الثاني من كتابه وهو بعنوان "بدأه العماليون وحققه الليكود "لشرح البدايات العملية السياسية /التخطيطية لأقامة الجدار العازل فيقول:

"بعد مرور اكثر من ستين عاما على وفاة جابوتنسكي اعتمدت كافة الاحزاب الاسرائيلية باستثناء اقصى اليمين مفهومه" بشأن جدار لحماية العالم المتمدن "، وبدءا من عام 2000 اضحت تلك الرؤية ملموسة ، فوضعت لها الخطط وجرى التشجيع عليها والتعريف بها من قبل ادارة ايهود باراك العمالية، لكن الحكومة المشتركة بين العمال والليكود التي كانت اقيمت في مطلع التسعينيات هي التي طورته واقامته حين جعلت التصميم الاستعماري الخاص بالايديولوجية الصهيونية يساهم فيه .

ومع بداية الانتفاضة في تشرين اول 2000 طلب رئيس الوزراء الاسرائيلي اهود باراك من اجهزته الامنية تقييم القرارات التي يمكن لرئيس السلطة الفلسطينية ان يتخذها ،فجاء في تقرير الجميع ان"شخص عرفات يشكل تهديدا لأمن دولة اسرائيل وان الضرر الذي سينجم عن اختفائه اقل من الضر ر الناجم عن بقائه " وعندئذ اعطى باراك الضوء الاخضر لعملية "حقول الشوك "وسرت شائعات عن اعادة احتلال للاراضي مع تفاصيل عديدة...

وقد ادى الضغط السياسي والعسكري الذي مارسه الاسرائيليون على الفلسطينيين الى زيادة الحدة في حلقة عنف الانتفاضة داخل اسرائيل فتوالت القنابل البشرية بمعدل ثلاث شهريا بدءأ من ايلول 2000، فأمر باراك ببناء "حاجز ضد المركبات "على طول منطقة الفصل وعلى كافة الطرق المحاذية للخط الاخضر، وجرى تكليف عوزي دايان مدير المجلس الوطني للامن بالتنسيق بين الاعمال، غير ان التفجيرات الفلسطينية توالت وعند ئذ اتخذ باراك قرارا بتدمير السلطة الفلسطينية سياسيا لأنها "لم توقف الارهابيين" فقام بتشكيل فريقين مكلفين بالعمل سرا من اجل تلك الغاية وكان على الاول الاهتمام بالافعال السياسية والعسكرية فيما يتولى الثاني وسائل الاعلام .

قام الفريق الاول بتشكيل لوبي قادر جدا في واشنطن وتولى الشرح مفصلا امام الشيوخ واعضاء الكونغرس وكبار الموظفين في كافة الوزارات وامام رجال الاعمال مشيرا الى ضرورة القيام بقلب السلطة الفلسطينية، وتلتها عمليات تلاعب احسن تنسيقها حتى ان الفلسطينيين الذين لا حول لهم ولا قوة في تلك الميادين بدوا عاجزين عن مواجهتها بتكذيب من اي نوع .

ويتابع المؤلف قائلا : ما كان على شارون لدى وصوله للسلطة بعد ذلك سوى جني ثمار تلك الحملة و "ان يفتح الفصل الثاني من حرب 1948 " .

وفي 6 شباط 2001 سحق شارون باراك بالمعنى الحرفي للكلمة، وباشر بعد ذلك العمل قبل ان تصبح نتائج الانتخابات رسمية ، ويقول البروفسور ارنون سوفر الخبير في الشؤون الديموغرافية : "تلقيت في الليلة نفسها مكالمة هاتفية من معاوني شارون فرغبوا الى مقابلته باسرع ما يمكن وطلبوا مني احضار الخرائط ".
وكان سوفر قبل ذلك بعام اي في شباط 2000 قد القى محاضرة في هرتزليا حول التطور السكاني في اسرائيل ومخاطره وقال فيها انه سيكون 58% من العرب و 42%من اليهود ما بين النهر والبحر المتوسط في عام 2020 ، ودعا الى انسحاب اسرائيلي احادي الجانب من الاراضي المحتلة، اذ يمكن للكيان الصهيوني من دونه ان يتلاشى في الاعوام القادمة، ولاحظ ان الطوق الديموغرافي يضيق الخناق على اسرائيل بسرعة جنونية وبالتالي يمكن للنزاع ان يدوم لكن الزمن يعمل ضد مصلحة اسرائيل، لذلك ينبغي عليها ان تتخذ قرارا شجاعا وصعبا بانسحابها من الاراضي انسحابا احادي الجانب ...وينبغي على الفور رسم حدود لاسرائيل والا فان العرب سوف يقومون باغراقها فلا يعد للكيان اليهودي وجود ".

وكان سوفر يدعم اقواله بالخرائط التي تظهر الضفة الغربية مقسمة الى ثلاثة اقسام محددة بتسوير مكهرب: قسم من جنين الى رام الله ،وآخر من بيت لحم الى الخليل ،وثالث صغير حول اريحا .

بعد ذلك قام شارون الذي كان يصغي للمحاضرة بالاجتماع به مطولا للتحدث والمناقشة على انفراد فصار سوفر على نحو مباغت الشخصية المسموعة اكثر من السياسيين المدافعين عن فكرة الانسحاب احادي الجانب.

بعد ذلك بشهور اكتشف سوفر مصورا لخط سير" جدار الفصل " في احد المكاتب التابعة لرئيس الوزراء فصاح متعجبا : "انها خارطتي تحديدا وكأنما اخذت عنها نسخة طبق الاصل" لكن الفكرة لم تكن جديدة على شارون ،اذ قال رون ناحمان عمدة مستعمرة " ارئيل " "رايت خارطة مماثلة لدى شارون عام 1978 وقال لي انه يفكر بذلك منذ 1973 " .

كان شارون يعتقد انه لا يكفي كبح مسيرة السلام بل يجب تدميرها لكن القادة الغربيين لن يؤيدوا عملا عنيفا كهذا، لذلك لا بد له من بديل باظهار حسن نيته في البداية على الاقل، فبدأ" باظهار تأييده لدولة فلسطينية " مفسحا المجال امام محيطه لرؤية "تنازلات مؤلمة " وشكل حكومة اتحاد وطني فيها وزراء عماليون من ضمنهم بيرس الحائز على جائزة نوبل للسلام، فاسند اليه حقيبة الخارجية واظهر شارون على الملأ ارادة في المضي نحو السلام وانطلت الخديعة على الاسرة الدولية.

يقول الجنرال الاحتياط مئير داغان الذي وضع خطة شارون:" لقد اجاد شارون في نصب الفخ وقد فعل ذلك حتى قبل الانتخابات "، وبعد ذلك كانت اولى التعليمات التي اعطيت لواضعي خطط الجيش الاسرائيلي "اعداد هجوم شامل يرمي الى تدمير السلطة الفلسطينية والقضاء على زعيمها ياسر عرفات او سجنه".

وجرى تقديم مخطط تدمير السلطة ونزع اسلحة القوى المسلحة الفلسطينية من قبل رئيس الاركان موفاز الذي قدمه للحكومة في 8 تموز 2001 ، وينبغي لأمر الهجوم ان يصدر عن الحكومة على اثر هجوم انتحاري واسع الاثر في اسرائيل يتسبب بوقوع عدد كبير من القتلى والجرحى.

يشير المؤلف الفرنسي هنا الى الانقلاب في المواقف الذي احدثته تفجيرات 11 ايلول 2001 ، فالطائرات التي دمرت البرجين الشهيرين وركزت اهتمام العالم على نيويورك خففت من حدة الضغط الدولي الذي كان يثقل حكومة شارون بل قدمت فوق كل ذلك امكانية خلط جاء في اوانه بالنسبة للاسرائيليين " عرفات وبن لادن ..انه الارهاب نفسه الواجب محاربته " وهرع الناطقون باسم شارون للمثول امام الكاميرات واجراء مقارنه بين "الارهابيين الاثنين " وحسب شارون نفسه فقد تلقى ضوءا اخضرا من الرئيس الامريكي بوش لمهاجمة السلطة الفلسطينية .

وفي 17 تشرين اول 2001 قتل رحبعام زئيفي وزير السياحة الاسرائيلي على يد ناشطين من الجبهة الشعبية في القدس وكان ذلك الهجوم المناسبة التي انتظرها شارون طويلا، فأطلق دباباته باتجاه المدن الفلسطينية المتمتعة بالحكم الذاتي واستعرت الحرب بشكل جنوني واعلن شارون عاليا وبقوة "ان الحملة الجديدة حرب على الارهاب ".

الواقع ان القصد من ذلك التصريح كان تهميش عرفات ناهيك عن القضاء عليه وما عاد شارون يريد من بعد محاورا فلسطينيا معترفا به في الداخل كما في الخارج حتى لا يعود ملزما بالتفاوض، "اما بشأن مخططات السلام فسوف نرى لاحقا...اما الشيء الاكيد فهو اننا لن نقبل ابدا بوجود دولة فلسطينية فذلك سيكون كارثة " كما اعلن شارون .

وتسارع مسلسل العنف بعد ذلك اذ انفجرت اثنتا عشرة قنبلة بشرية في شهر آذار، اي عمليا بمعدل عملية واحدة كل ثلاثة ايام والحصيلة 81 قتيلا و521 جريحا، ولم يعد الاسرائيليون يغادرون بيوتهم اثر ذلك. وبدأ شارون وهو في حالة عجز ينوء بعبء حملات النقد فاقترح عليه بنيامين بن اليعازر وزير الدفاع العمالي استئناف بناء الجدار وسلمه مخططات جدار بطول 350 كم بين اسرائيل والضفة الغربية ورفضه شارون لانه يشكل عائقا امام تطور اسرائيل – على حد زعمه -. واكد قائلا :"ان حرب الاستقلال لما تنته بعد ولم تكن حرب عام 1948 سوى الفصل الاول، فكل متر نكسبه هو متر يضاف الى اسرائيل ولسوف تتواصل الحرب ما دامت المعارك لم تتح امتلاك الارض الاسرائيلية كلها ".

واوضح عوزي دايان في تقرير سلمه لرئيس الوزراء قبل ان يغادر مجلس الامن القومي الذي كان يراسه " ان على اسرائيل بناء فصل يقوم على الاسس الديموغرافية " وبصيغة اخرى بناء حاجز يضم اقل عدد ممكن من الفلسطينيين .

وقد وافق شارون على هذا الاقتراح فحددت وزارة الدفاع مشروع بناء المقطع الاول من الجدار بطول 110 كم من الحدود الشمالية للضفة ويرتأي المشروع ايضا جدارا بطول عشرات الكيلومترات يحاذي الحدود الشمالية والجنوبية للقدس .

بدأت اعمال البنية التحتية في نقاط عديدة من الجدار فباشرت العمل كل يوم نحو خمس مئة بلدوزر لتمهد لبناء واحد من اضخم المشاريع في تاريخ اسرائيل . وقد حظي هذا المشروع بالاجماع الاسرائيلي باستثناء اليمين ، وطرأت لاحقا تعديلات على الجدار كلها باتجاه الشرق .

وكانت عمليات بناء الجدار تتم بتكتم شديد واخذ مكتب شارون المسمى"ميديا "على عاتقه كافة البلاغات المتعلقة بالجدار فلم يتسرب شيء عنه طيلة شهور عديدة، وكانت الاخبار كلها تتركز على اعادة احتلال الضفة الغربية، بينما كان الفلاحون الفلسطينيين الوحيدون الذين بوسعهم الكلام عنه فهم الذين انتزعت ملكياتهم للاراضي بالقوة.

لم يكشف شارون رسميا عن خطة الفصل مع الفلسطينيين الا في 18 كانون اول 2003 قائلا :"ان هدفه ان يرسم خط الامن المجدي الى اكبر حد ممكن بالنسبة لليهود باقامة فصل على ذلك الاساس بين اسرائيل والفلسطينيين ".

لقد تقدم شارون بمشروعه الى جورج بوش في اواخر نيسان 2004 وكان يحتوي على "مخطط الفصل من جانب واحد ؟ ان الفلسطينيين لا يفعلون شيئا للتقدم من اجل السلام " والمخطط بسيط :انه يقوم على فصل اسرائيل عن الفلسطينيين بجدار والقيام بموازاة ذلك باخلاء احدى وعشرين مستعمرة يهودية قائمة في قطاع غزة ضمن مدة اقصاها آذار 2005 على ابعد تقدير " فوافق بوش وكفل الاقتراح الاسرائيلي.

وهكذا تحقق لشارون واحد من اجمل انتصاراته الديبلوماسية .
وفي الفصل الثالث من الكتاب وعنوانه "كيف يبنى الجدار ...؟" يتحدث المؤلف عن التسميات المختلفة التي اطلقها الاسرائليون على الجدار والتي ابتدأت ب"عائق الفصل" الى "الحاجز (السور) الامني لتصبح "الحاجز ضد الارهاب " فكان يجري اختيارها بدقة متناهية اثناء الاجتماعات، فالصقت بالتسميات مثل "العائق" و"حاجز –سياج" التي تعتبر ذات وقع لطيف وتوحي بفصل بسيط يدل على حدود حقل او مرعى نعوت ازدادت قسوة بالتدرج :"فصل " و"امن " و"ضد الارهاب " لبث الطمأنينة في نفوس الاسرائيليين مع توالي الهجمات ولأقناع الراي العام العالمي .

اما الفلسطينيين –حسب مينارغ – فكانوا يطلقون على الجدار "الجدار "مشيرين الى انه يبنى فوق اراض فلسطينية بينما التعابير التي استخدمتها الصحافة العربية والدولية ايضا فكانت :" جدار العار" و"جدار الفصل العنصري " و "جدار الغيتو " .

وحول التحالف بين المستوطنين والعسكريين في قصة الجدار يشير مينارغ قائلا :ان اي تعقيد او اصغر شاغل يتعلق بالجدار يستدعيان مباشرة مراجعة عوزي كيرين مستشار رئيس الوزراء لشؤون المستعمرات، وتجري مناشدته من قبل المستوطنين على نحو دائم من اجل ان يضم الجدار هذه المستعمرة او تلك فيقوم بالتدخل ضمن ذلك الاتجاه تدخلا منتظما .

ولذلك ما انفك مسار الجدار يتغير وفي كل مرة يقضم قطعة اكثر من الضفة الغربية، اما التدخل الاشد ضغطا فهو مجلس"ييشع " –اي المستوطنين اليهود في الاراضي المحتلة - وقد تبنت وزارة الدفاع الاسرائيلية عددا من مقترحاته وخصوصا ما يتعلق باحتجاز مدينة قلقيلية والالتفاف لحماية المستعمرات الرئيسية في المنطقة.

اكدت مصادر "الكريا" وهي مجمع وزارة الدفاع الاسرائيلية " ان الطول النهائي اللجدار سوف يتجاوز 730 كم عند الانتهاء من العمل فيه وان هذا الطول لم يحدد بشكل نهائي ووصفته بانه مشروع هائل .

وتحت عنوان "منطقة عمل على طول الجدار " يبدأ المؤلف فصله الرابع قائلا : ان المقارنة التاريخية الاكثر جلاء التي يسعنا القيام بها ان نقارن هذا العمل بجدار برلين ، فهذا الاخير كان بطول 155 كم اما الطول الكلي للجدار الذي يبنيه الجيش الاسرائيلي في الضفة فسوف يبلغ طوله قرابة 730 كم، وبينما كان ارتفاع جدار برلين 3 امتار و60 سم فان الجدار في الضفة ينبغي ان يص ارتفاعه الى 8 او 9 امتار وعرضه الى 70 مترا لكنه يمكن ان يصل الى 100 متر .

ويشير مينارغ الى ان الاساس الاعرض للجدار سيكون في المناطق الوعرة والاقل سكانا وسوف يرتفع في وسطه سياج ذكي الكتروني مجهز برشاشات فائقة الحداثة تسمح بالتصويب عن بعد، ويشبه ذلك من حيث المبدأ العاب الفيديو .وسوف تتولى كاميرات تصوير تصوير المتسللين فتوفر للجنود امكانية القضاء عليهم وتدميرهم عن بعد. وقد تم تزويد القسم الاول الذي يتصف بالاراضي الوعرة بالجهزة على هذا النحو، اما على الخاصرة الشرقية من الجانب الفلسطيني فهناك خندق لمنع وسائل النقل وبكرات من الاسلاك الشائكة تحد طريقا يتم تمشيطه بانتظام لتظل ارضه لينة ورخوة بحيث تطبع عليها آ ثار اقدام المتسللين.

البوابات - وقد بنيت على طول الكيلومترات المئة والخمسون- التي اقيمت حتى انجاز الكتاب – تسع وعشرون بوابة زراعية يمر عبرها الفلسطينيون الى مزارعهم وحقولهم .

خط المسار – وكان من اولويات الحكومة الاسرائيلية احتواء اكبر عدد ممكن من المستعمرات اليهودية الواقعة الى الشرق من الجدار لضمها الى اسرائل ...

لكن الجدار يضم ايضا عند الغرب من الضفة وهي منطقة بمنتهى الخصوبة القسم الاكبر من الطبقة الجوفية بحيث سيصبح الماء بكل وضوح بايدي اسرائيل، وضمن استراتيجية شارون فانه "يسجن " الاراضي الفلسطينية مانعا تقريبا كل اتصال بين شمال الضفة وجنوبها وفي النهاية فان الاقتصاد الفلسطيني كله مهدد بالانهيار جاعلا الفلسطينيين تابعين لاسرائيل تبعية تامة .

في مطلع عام 2003 ادركت المنظمات الفلسطينية غير الحكومية ان الجدار ليس سوى عنصر من مشروع اوسع بكثير فليس ما يشاد عملية فصل وانما مشروع متكامل لم تتضح حدوده وابعاده بعد بشكل تام ،الا ان الخريطة المرسومة تقدم فكرة عنه فهو يتكون من اربعة عناصر هي:

1- الجدار الغربي الاكثر شهرة يغوص في عمق الضفة الغربيةحتى قرابة 30 كم نحو الشرق ويضم المستعمرات الكبرى منها ارييل وايمانويل.

2- سلسلة من الجدران في القدس وضواحيها تقطع قسما من بيت لحم وتطوق عددا من الضواحي الفلسطينية قتقطع اوصالها وتعزلها عن بعضها وعن القدس .

3- ينبغي ان يرتفع جدار ثالث بمحاذاة نهر الاردن عند اسفل التلال من اجل حرمان الضفة الغربية من الاراضي الصالحة للزراعة على ضفة النهر.

4- اما البعد الاخير فيقوم على مضاعفة الاراضي الفلسطينية المحاصرة بل ان البعض منها قد جرى الانتهاء منه .

وعليه فاذا اخذت كل هذه العناصر مع فانها تعبر عن مشروع سياسي اجمالي .
اسرائيليا:

يأتي مينارغ في الفصل الخامس ليستعرض لنا ردود الافعال الختلفة على الجدار فيورد اولا بعض ردود الفعل الاسرائيلية قائلا :
في اسرائيل ظهرت هناك اصوات عديدة تعترض على بناء الجدار ،فهاهو "ابراهام شالوم " رئيس الشين بيت سابقا يتسائل قائلا : هذا الجدار يثير اسئلة عديدة :فكيف السبيل الى حمايته ؟ وما الفائدة منه في واقع الامر ؟. ويضيف: يقع الجدار في الضفة فوق ارض الفلسطينيين فهم في كل جانب فهو اذن غير منيع ، وينبغي من ناحية اخرى وكي يكون الجدار منيعا ان يكون بموافقة الطرفين وان يؤدي فائدة مشتركة ام الآن فالحال غير ذلك ". ويواصل : ان جدار الضفة عبثي احيانا من وجهة نظر جغرافية وطوبو غرافية دون ان نحسب مسالة فتح ما يقارب من ثلاثين نقطة عبور للمعلمين والمزارعين والتجار والمستوطنين اليهود وكافة الشخصيات الهامة ستكون هناك اذن عشرات آلاف عمليات العبور يوميا في الاتجاهين وما سينجم عن ذلك هو الفوضى .

ويؤكد شالوم : لن يصدقنا احد اذا ما قلنا انه جدار امني فقط فلو كان الحال كذلك لبني قريبا من الخط الاخضر لعام 1967 ، او فوق الخط الاخضر نفسه ولكان موضع اعتراف من الاسرة الدولية وحتى من الفلسطينيين .

كما تجمع رؤساء الشين بيت القدامى للاعراب علنا عن تضافر آرائهم قائلين : لم نتشاور فيما بيننا قبل ان نلتقي لكننا توصلنا الى النتائج نفسها :ان سياسة اسرائيل الراهنة تمضي معاكسة لما نريد ، فالحكومة لا تريد الدمار لاسرائيل ،لكننا نريد اقناعها بان عملها يمكن ان يؤدي بنا الى نكبة سياسية ".

ويعلق مينارغ على ردود الفعل لدى جنرالات اسرائيل قائلا : ان كافة الجدران في تاريخ العالم قد جرى الالتفاف عليها او انها انهارت، ويعرف جنرالات اسرائيل حق المعرفة ان الجدار ليس سوى حاجز يتناسب وانعدام الامن ،كذلك هم واعون كل الوعي ان هذا الجدار في خدمة مشروع سياسي استعماري ،وان كان يبنى لمقاومة "الارهابيين " الا انه في واقع الامر لاخضاع الفلسطينيين نفسيا وارغامهم على الرحيل .

ويضيف مينارغ : قلة هم الاسرائيليون الذين يعرفون خط مسار الجدار حق المعرفة بل كثيرون منهم لم يروه قط، فهو من جهة يمر في المناطق الفلسطينية التي لا يضع الاسرائيليون قدما فيها مطلقا ، ومن جهة اخرى فان الجدار الذي يساير الخط الاخضر في قلقيلية مثلا تأتي اكمة من الازهار والاشجار التي نصبت عند صفحته الغربية بعناية واتقان فتجعله يتوارى عن النظر عمليا من الجانب الاسرائيلي.

ويعبر الكاتب سامي ميخائيل عن ارتياعه قائلا : ان القول اننا في حالة حرب لا يقل غباء عن التاكيد بوجود حرب بين فيل وذبابة ، فنحن قوة عسكرية في مواجهة شعب محتل ".

*فلسطينيا :

اما في فلسطين فيعتبر الفلسطينيون ان الجدار استراتيجية اسرائيلية تهدف الى خنقهم ،فقد رأوا على مدى جيلين تلك التلال - وهي روح البلاد التي لم تغتصب قط – تصادر مصادرة لا شرعية من قبل المستوطنين قدموا من روسيا ومن امريكا اللاتينية ثم من قبل الجيش الاسرائيلي الذي جاء على اعقابهم لضمان امنهم ..

*عربيا :

يشعر العالم العربي الذي يتابع على شاشات التلفزيون الوضع في فلسطين يوميا بظلم عميق ،فتتولاه غضبة حقيقية خافتة غير مسموعة في القصور وصاخبة مدوية في الشارع ، ويرتبط تدهور الوضع في العراق جزئيا بهذا الاحساس فصور الاحتلال الامريكي تتطابق تماما مع الصور القادمة من غزة او من الضفة .

وتنوء البلاد العربية تحت عبء الانطباع بان الاسرة الدولية تعمل ما بوسعها للتستر على تجاوزات الاسرائيليين .

* في الغرب :

ويتطرق الكاتب هنا الى القرار رقم 14/10 الذي تبنته الجمعية العامة للامم المتحدة في 8كانون الاول 2003 باغلبية تسعين صوتا ومعارضة ثمانية وامتناع اربعة وسبعين والذي يطلب الى محكمة لاهاي الدولية ان تصدر بصورة مستعجلة فتوى استشارية حول المسالة التالية : "ما هي حسب القانون النتائج المترتبة على بناء الجدار الذي تقوم به اسرائيل وهي القوة المحتلة ببنائه الآن في الاراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك داخل القدس ومن حولها وفقا لما هو معروض في تقرير الامين العام للامم المتحدة مع الاخذ بعين الاعتبار انظمة القانون الدولي ومبادئه،وخصوصا اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والقرارات المخصصة للمسالة من قبل مجلس الامن والجمعية العامة ".

وبع ذلك بسبعة شهور اصدرت المحكمة قرارها :ان مسار الجدار غير شرعي بصورة تامة وينبغي هدمه..."


*حليف امريكي لا يزول :

وينتقل المؤلف للحديث في هذا السياق عن الحليف الامريكي لاسرائيل فيقول :
يجعل الدعم الامريكي الدائم من الاسرائيليين المنفذين لأختبار حرب غير متناظرة يشنها القوي ضد الضعيف ، وترمي واشنطن في الميدان بالثقل الذي كان مخصصا فيما مضى لحماية اسرائيل ايام كانت في موقف ضعف. وقد وضح الرئيس بوش في 24 حزيران 2002 رؤية دولتين هما اسرائيل وفلسطين تقومان جنبا الى جنب فوق الاراضي المقدسة "...ولكن الكل يعلم والفلسطينيون اولا انه لن يتم الرجوع الى الخط الاخضر 1967 ، وبالتالي لو كان لدولة فلسطينية ان ترى النور بجانب اسرايل فسوف يكوم مقتطعا منها جزء من الاراضي الفلسطينية .


* الامم المتحدة :

في 27 آذار 2003 اكد جون ديوغارد من لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة ان بناء الجدار يساوي ضما بالقوة لقطاعات واسعة من الضفة الغربية ، وبع ذلك بسبعة شهور اعادت الامم المتحدة التاكيد في تقرير نشر على الملأ في جنيف على :ان قيام اسرائيل ببناء "خط امني " على طول الضفة الغربية يؤدي الى ضم غير شرعي لقسم من الاراضي الفلسطينية، ويشير الى ان الجدار يلحق بالاراضي الاسرائيلية "اجزاء كبيرة من الضفة الغربية وخصوصا بضم المستعمرات اليهودية القائمة ، واكد : "ان هذا الضم الفعلي الذي يعتبر غزوا في القانون الدولي امر محظور بميثاق الامم المتحدة واتفاقية جنيف الرابعة" ويضيف : ان الوقت قد حان للتنديد بالجدار مثلما تم التنديد بضم القدس الشرقية ومرتفعات الجولان من قبل اسرائيل " .
وفي الفصل الاخير من الكتاب يستعرض مينارغ النتائج والخلاصات المتعلقة بالجدار ومضامينه وردود الفعل عليه فيقول :
حيال اسرائيل اولا :
فان الجدار يحدث شرخا عميقا في اسرائيل على الرغم من الظواهر ،فاختلافات وجهات النظر تتعلق بالمسار المتبع وبمستقبل المستعمرات . وبالمدى السياسي لهذا الجدار تظهر وتتسع شروخ اكثر فاكثر عمقا هيهات ان يخفيها الجدار .

وتؤكد وزيرة الثقافة الاسرائيلية السابقة شولميت الوني على ان الجدار نقطة استدلال معنوية واخلاقية يرافقها ضياع نقاط استدلال معنوية واخلاقية "وتضيف :" ان مجتمعنا منخور بتثبيط المشاعر وتمجيد القوة ،فالانهيار الاخلاقي يثير فزعي ..انني اصاب بالهلع بفعل صلفنا والسهولة التي نقتل بها الفلسطينيين ونغتالهم .. يرعبني اقتلاع اربعة آلاف زيتونة من الاراضي الفلسطينية دون ان يثير ذلك اي اضطراب او تحرك ..ان تبلد احاسيسنا الاخلاقية المطلقة ناجم عن سيطرتنا ".

وعلى نحو ؟ آخر يقول مينارغ ان الجدار يخلق غيتو ثانيا يفعل فعله ضررا بالاسرائيليين كما بالفلسطينيين انما بطريقة مختلفة ،فهو يحتجز الاسرائيليين فوق اراضيهم الى حد يحول بين الفلسطينيين وبين ان يروا يوما شيئا من مزايا الاسرائيليين او من رغتبتهم في السلام .

وبالنسبة للفلسطينيين فان الجدار يؤدي الى خلق امر واقع على الارض عن طريق ضم اكبر قسم ممكن من الاراضي الفلسطينية وذلك على نحو يجعل انشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة امرا مستحيلا وتؤكد السلطة ان الجدار حين انتهائه سيكون قد بتر من الضفة ما يعادل 23% من مساحتها .


(آلان مينارغ من مواليد 1947 ويعد واحدا من اكبر الاختصاصيين الفرنسيين بالشرق الاوسط حيث عمل طيلة 15 عاما صحافيا مراسلا وكاتب تحقيقات ،وكان يشغل حتى ظهور هذا الكتاب في تشرين اول 2004 منصب المدير العام المساعد لأذاعة فرنسا الدولية "آر.ف.آي"وما ان نشر الكتاب حتى قامت حملة دعائية صهيونية منظمة تتهمه كما جرت وتجري العادة ب"معاداة السامية"على غرار عمالقة فرنسيين آخرين من امثال "روجيه غارودي " و "الاب بيير " ولم تهدأ الحملة الا بازاحته عن منصبه ،واعجب ما في الامر انه يتنبأ بحدوث ذلك في كتابه .

نال مينارغ جوائز عديدة على انجازاته الصحفية في تغطية الاحداث الكبرى في العالم العربي، و له عدة مؤلفات اشهرها :"دموع الغضب " و "اسرار الحرب اللبنانية: من انقلاب بشير الجميل حتى مذابح المخيمات الفلسطينية "ويقوم الآن باعداد كتاب عن الجولان السوري المحتل .)

التعليقات