"عودة إلى التاريخ المقدس: الحريدية والصهيونية"

لا تتوقف ظاهرة الحركات الأصولية والتداخل السياسي مع الديني في مشاريعها على الإسلام، بل هي تطال المجتمعات المسيحية واليهودية، حيث يشكل ذلك ظاهرة عالمية حاول الباحثون التوقف عندها، وتبيان أسبابها، ودلالاتها، ويعتبر كتاب «عودة إلى التاريخ المقدس: الحريدية والصهيونية» للباحث الفلسطيني المهتم بالدراسات الدينية والمقيم في أراضي 1948 نبيه بشير، إضافة جديدة للبحث في طبيعة هذه الحركات التي أخذت تتسع في العقدين الأخيرين في المجتمع اليهودي في إسرائيل مما أدى إلى تعزيز الخطاب الديني، والدمج بين المفاهيم الدينية والسياسية، حيث أدى ذلك إلى تعزيز تأثير المجتمع اليهودي المتزمت دينياً داخل إسرائيل وخارجها على صعيد القرار السياسي. يشير الباحث في مقدمة الكتاب إلى أن المجتمع والسياسة والثقافة شهدت منذ نهاية السبعينات تحولات عميقة على صعد عديدة وتعود أحد مصادر هذه التحولات المركزية إلى النتائج المتناقضة لحربي يونيو 1967، وأكتوبر 1973,.


ثم يؤكد على مسألتين أساسيتين تقفان في صلب هذه التحولات وإعادة تعريف الصهيونية من جديد، ومحاولة شرائح واسعة من المجتمع والساسة الإسرائيليين تقويض السياسة الاتحادية التي اتَّسمت بها السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع المجتمع اليهودي الداخلي، ومع الطوائف اليهودية في الخارج.


أما بالنسبة للتغيرات التي تظهر في صلب هذه التحولات، فإن هناك المجموعات التي تضم الفئات الحريدية ذات الطابع اليهودي المتشدد دينياً، وتعتبر هذه الفئات المركزية التي تجمع في منطلقاتها ومطالبها إعادة تعريف الصهيونية من جديد وتعزيز مكانة القانون الديني وإخضاع الجميع له، ولا تتوقف هذه النزعات على فئات الحريدية،


إذ إن هناك شرائح واسعة تسعى لتعزيز الخصائص اليمينية في الصهيونية، ومن ضمنها أحزاب وحركات يمينية علمانية، أو يسارية بالمفهوم الإسرائيلي، وقد ترافق ذلك مع بروز ظاهرة التدين وتعزيز الخطاب الديني الذي يدمج بين الديني والسياسي.


وقبل الحديث عن محاور الكتاب الأساسية لابد من تعريف كلمة «حريديم» التي تطلق على الأشخاص المتدينين في المجتمع اليهودي، وهي كلمة لم يتغير معناها منذ ستينات القرن الماضي وحتى الآن، ويظهر دور هذه الفئة من خلال تزايد عدد مقاعدها في البرلمان الإسرائيلي، والذي بلغ زيادة مقدارها 70%،


لكن هناك ظاهرة أخرى يشير إليها الباحث، وهي تعزيز ظاهرة التقارب أكثر فأكثر إلى أنماط دينية محددة في التفكير والحياة، ودراسة الدين والتراث اليهوديين بين الشرائح العلمانية في إسرائيل ليس بهدف معرفة هذا التراث، وإنما من أجل إدراك الهوية الشخصية والجماعية، وقد تجلى ذلك من خلال ظهور الكثير من المعاهد والكليات التي برزت في العقد الأخير، والمثير أن هذه الظاهرة تجمع بين أنماط جديدة من التدين ذات الطابع الروحاني الصوفي وأسلوب الحياة والتفكير ما بعد الحداثة،


بعد ذلك ينقل عن دائرة الإحصاءات المركزية في إسرائيل أن نسبة عدد أفراد الفئات الحريدية تبلغ حوالي 6% من مجموع السكان وهي تتوزع في نقاط سكنية أهمها مدينة القدس ومدينة بني براك قرب تل أبيب.


إن المجتمع الحريدي في اسرائيل يتميز بخصوصيات دينية وثقافية واجتماعية وعقيدية محدّدة، والثقافة في مفهومهم تنبع من النظرة الشاملة إلى التراث الديني والكتاب المقدس، حيث يحتوي الأخير (كما يعتقدون) على كل علم وثقافة ممكنين، في حين أنهم على المستوى الديني يتقيدون بالتفاسير الأكثر مغالاة وصرامة في التراث الديني، وإذا لم يجدوها فيه فإنهم يبتدعونها أما على المستوى الاجتماعي فيعتبرون أنفسهم المثال الأعلى الذي يجب على جميع اليهود التمثل به.


ينطلق الباحث في دراسته من التأكيد على السياق التاريخي والثقافي والسياسي الأوروبي الذي نشأت عليه فئات الحريدية، ويبيّن في هذا الصدد آثار الثورة البروتستانتية عليها، كما يوضّح آثار التغيرات التي ظهرت على صعيد بناء الدولة الأوروبية على الجماعات اليهودية في القارة الأوروبية، إضافة إلى دور الحركات الإنجيلية في دفع اليهود إلى اعتبار أنفسهم شعباً بالمفهوم الحديث.


وفي الفصل التالي يناقش الباحث قضايا عرقية في التكوين اليهودي تتعلّق بالعلاقة بين الدين والعرق، ويحدد منذ البداية معالم المنهج البحثي القائم على الاختيار بين المنهج اللاهوتي الديني، والمنهج التاريخي، ثم يُناقش حقيقة المنهج اللاهوتي الذي يفترض فوق تاريخية الكتاب المقدس، ولذلك يحاول تعزيز الطرح القائل بأنّ اليهودية كما تتجلى في التوراة تعترف بوجود آلهة متعددة، وبالتالي فهي غير توحيدية،


إذ أن كلمة «الوهيم» هي جمع لكلمة (إله) باللغة التوراتية، والمقصود بها هي العديد من الآلهة ثم يحاول تحليل فكرة القداسة، أو حلول الرب باليهود، ولعلّ هذه النزعة العرقية تفسر التشديد الكبير على متابعة شجرة العائلة الإسرائيلية منذ آدم وحتى فترات متأخرة من تدوين التفسيرات الشفوية للتوراة، وقد جعلهم ذلك يعيشون في خوف دائم من الاندماج بالشعوب الأخرى.


وينتقل الباحث بعد ذلك إلى التعريف بالتيارات الحريدية المركزية، بما فيها الحسيدية والمعارضين، وجماعة حبد، واليهودية الإصلاحية، واليهودية المحافظة، مبيناً أهم طروحاتها العقائدية، ومفاهيمها الدينية، ينتقل بعد ذلك إلى دراسة رد فعل الحريدية على ظهور الصهيونية، وفي البداية يحدّد السمات المركزية للصهيونية وسياقات ظهورها، ثم يتناول جوهر المعارضة الحريدية للصهيونية، القائمة على تبدل مفهوم التاريخ، والتاريخ المقدس، وفاعلية الفرد، والفكر الإنجيلي.


لقد جاء ظهور التنظيمات الحريدية في العصر الحديث بسبب ظهور النزعات المعادية لليهود في أوروبا، وسيادة مبدأ المساواة المدنية بين السكان في المجتمعات الأوروبية، وقد جاء ظهور أول تنظيم حريدي على يد القيادات الدينية الحريدية في ألمانيا 1885، وقد كان تأثير هذا التيار قويّاً على تطور الفكر الديني والتنظيم الحريدي، ثم يعرض للأدوار التي لعبها عدد من رموز هذا التيار الديني، بالإضافة إلى الحركات والأحزاب الحريدية،


لا سيما في إسرائيل حيث واجهت هذه الحركات واقعاً جديداً ينطوي على تناقضات عديدة، فمن جهة تعيش واجب الانصياع لعقيدة ترى في الصهيونية تعبيراً ساخراً للتمرد على مشيئة الرب، والواقع التاريخي لدولة إسرائيل، ومن جهة أخرى تشكّل هذه الحركات قوة اجتماعية وسياسية كبيرة، تهدّد القوى العلمانية في المجتمع الإسرائيلي.


لقد شهد النصف الثاني من السبعينات الماضية انقلاباً في الخريطة السياسية الإسرائيلية مع انتقال الحكم لأول مرة من حزب العمل إلى حزب الليكود، إذ ساهم ذلك في تعزيز قوة الأحزاب السياسية الحريدية في صنع القرار السياسي الإسرائيلي، و قد كشف المجتمع الإسرائيلي عن تضامنه مع المجتمع الحريدي باعتبار أن مصدر العديد من المفاهيم الصهيونية يقوم على مفاهيم دينية يهودية إضافة إلى أن النخبة السياسية ترى بأنّ الحريدية هي تجسيد لليهودية الخالصة،


وكان عام 1977 نقطة التحوّل في تعزيز قوة هذه الأحزاب، حيث نجم عن ذلك تعزيز قوة تأثيرهم خارج إطار المجال الديني سواء على الصعيد الثقافي، أو على الصعيد الديموغرافي، ويتناول الباحث حركة شاس باعتبارها نموذجاً جديداً لحزب حريدي جلب معه إلى الساحة السياسية الإسرائيلية نوعاً جديداً من السياسيين، وخطاباً مختلفاً لم يكن معهوداً في السابق، فقد كان من الأوائل الذين اخترقوا الإطار العلماني، وتحاوروا مع الجمهور والممثلين العلمانيين،


ويبحث كذلك في أسباب ظهور حركة شاس كحركة إثنية ودينية قامت على أربعة متغيرات: هي تعاظم النزعة الإثنية في المجتمع الإسرائيلي، واندثار سياسية الاحتواء في هذه السياسة، وتعزز نمط الفصل في الأمور المتنازع عليها، إضافة إلى انسجام الخطاب الديني وتزامن ظهوره مع تفاقم أزمة الهوية، وتعاظم ظاهرة التديّن في المجتمع الإسرائيلي، ثم يناقش هذه المتغيرات الجديدة، مبيناً أن ظهور حركة شاس جاء بفعل تراكم وتفاعل تاريخيين.


وفي النهاية يبيّن الباحث أن حركة شاس لا تعمل على احتلال الأرض بواسطة إنشاء مستوطنات بشكل مكثف، إلا أنها لا تعترض على الانتقال إلى مستوطنات جديدة، كما أن جمهور الحركة وقيادته يعتبرون أنّ دولة إسرائيل هي دولتهم، ويجمل في النهاية واقع المجتمع الحريدي الذي يتبنى السجال الصهيوني بأطيافه العسكرية والتصورية والاستيطانية،


لكنه يسعى جاهداً لتفريغ هذا السجال من محتواه شبه العلماني، واستبداله بتصورات ومعانٍ دينية حريدية وتاريخية مغايرة، وبذلك تكون الحركة الصهيونية قد خلقت واقعاً ومنظومة عقدية دون أن تتمكن من فرض منطلقاتها على جميع الفئات والمجموعات الإثنية، والطائفية اليهودية.


يضم الكتاب في نهايته ملاحق بالمستوطنات الحريدية في فلسطين التاريخية ووثيقة الحفاظ على الوضع القائم لممثلي إدارة الوكالة اليهودية، إضافة إلى هوامش الكتاب التي تتناول الطوائف اليهودية في أوروبا، والسياق التاريخي والثقافي الذي ظهرت فيه، إلى جانب ملخص للظاهرة الحريدية وثبت بالمراجع العربية والمترجمة، والمراجع العبرية، وتقارير ووقائع المؤتمرات الصهيونية، والمراجع الإنكليزية، إلى جانب ثبت بالأعلام، وثبت جغرافي وثبت الأحزاب والمنظمات، والنصوص التوراتية

(احلام سليمان- "البيان")الكتاب: عودة إلى التاريخ المقدس: الحريدية والصهيونية

الناشر: دار قدمس ـ دمشق 2005

الصفحات: 571 صفحة من القطع المتوسط

التعليقات