تعود الفصليّة الثقافيّة الفلسطينية الصادرة في حيفا، “مشارف” في عددٍ جديد، زاخر بمختلف الفنون الأدبيّة النقديّة الراقية، كما عهدها قراؤها. في هذا العدد، تستهلّ المجلة موادّها، بوعدٍ وولاء من هيئة التحرير الملتزمة، بمناسبة إطلالة سنة جديدة على شرفاتها. يتمحور هذا الولاء بالتخصيص حول كل ما هو جادّ وملتزم من الموقف المتجلّي بالكلمة، شعرًا ونثرًا، فتقول في مستهلّها: “سبق لنا في سياق آخر أن تطرّقنا إلى الرهان، الذي آلت “مشارف” على نفسها أن تتجوهر فيه منذ عودتها المتجدّدة. ويمثل فيما يمكن اعتباره ولاء للنصّ الراقص في وهج الضوء، مع مراعاة الاستعاذة بالله من أية إيحاءات مغرضة لكلمة ولاء”.
وتنفيذًا لهذا الرهان الجادّ الذي تخوضه “مشارف” بكل ما “أُوتيت من فنون”، تستقطب في هذا العدد الجديد، العديدَ من المحاور الرئيسيّة في مجالاتها، فتخصّص لقرائها الزوايا التالية: شعر، نصوص، ثقافة عبريّة، رؤى، شهادَة، حوَار وغياب.
في زاويتها “شِعْرْ”، تقدِّم لنا مشهدًا شعريّا غني المناخات و?انوراما من الكلمات يقف وراؤها شعراء يختلفون بأوطانهم، لكنهم يتحدون بموقفهم من الكلمة. زمرة المشاركين في هذه الزاوية تتكوّن من كل من الشعراء: عبد المنعم رمضان (المصريّ)، وسام هاشم (العراقيّ المقيم في الدنمارك)، نوال نفّاع (فلسطينيّة تقيم في بيت جنّ) ومارك ديلوز (الفرنسيّ).
يهدينا الشاعر المصري، عبد المنعم رمضان، ستّ قصائد جديدة له، تتأمّل الإنسانيّ وتسعى نحو استكشاف الجوهر:
”طفولة /
فوق طاولة
كانت الكلمات القديمة
مصفوفة
والهويّة
والكتب العربيّة
والماء
والظلّ
والحرث
كان الجميع يعانون مثلي القطيعة
لكنه
حين مرّر فوق السجاجيد
رجليه
أقبل مضطربًا
تتأخّره أُمه
ثم أسند كفًا على جذع طاولتي
فانحنت كلّ أشجارها
الهويّة
والكلمات القديمة
والكتب العربيّة
وادّحرجت
مثل شمس كساها الغمامُ.. إلى آخره
وحين انحنيت
أُنظّف آنيتي والهواء
من الكسر العالقات به
كان يصرخ:
تاتا
وكنت أُرتّب حاشيةً
عن بقاء العربْ”.
مشترك آخر في هذا المشهد هو من تعرّفه “مشارف” على أنه “شبّ شاعرًا ورحّالاً غصبًا عنه”، الشاعر الفرنسيّ مارك ديلوز. قام أنس الحكيم، من ?اريس، بتقديم ترجمات ممتازة لخمس قصائد لديلوز خصّ المجلّة بها. تلامس قصائد هذا الشاعر الحسّ العالي لمن ينتمون إلى وطن اسمه العالم، خالقةً معه حوارًا:
” أي حطام هذا العالم
عاجز عن إيقاف هطول المطر..
وعبثًا أُنادي لأمنع غياب الشمس..
نظرتي.. صمت موسيقيّ..
شعراء رفيعون كالنبيذ الفاخر..
يتكدّسون في الأقبية..
والغبار يتراكم على كتفيهم..
مثل مشلح شفّاف: رداء من الوهم..«.
في نصوصها، يجتمع كل من الكتّاب: حميد العقابي (عراقي مقيم في الدنمارك)، فؤاد ميرزا (عراقي يقيم في الولايات المتّحدة)، علي مصباح (تونسيّ مقيم في برلين) ومحمّد علي طه (فلسطينيّ من ميعار يقيم في كابول / الجليل).
يشكّل هؤلاء الكتّاب في نصوصهم النثريّة تناغمًا فكريًا، على الرغم من اختلاف الموضوعات والأشكال الكتابيّة، حيث يسعى جميعهم نحو “أعماق” المكان، كلّ وفق أصله. فنقرأ مشاركة حميد العقابي، بشظاياه، قصصه القصيرة جدًا التي عنونها “شظايا المرآة”:
” وهم/
عوليس العائد من وهمه جلس واهن الخطى يعيد ترتيب الماضي، يمحو ويضيف، ويستبدل سنة بسنة ومكانًا بمكان، يزيل الغبار عن فضّة الذكريات ليحبّ امرأة بلا ذاكرة. ولأوّل مرة بعد سهد طويل أخذته سِنَةٌ، وحينما استيقظ أحسّ بورم في روحه، وراح يكبر ويكبر حتى صار امرأة حبلى بالوهم والغبار”.
يطلّ علينا القاصّ الفلسطيني، محمّد علي طه ذو الأصل الميعاريّ والذي يقيم في كابول الجليل، بفصل أوّلي من رواية قيد الكتابة، تحت عنوان “الجرّة”. اسم الفصل هو “مصطفى بلّوط ينتسب”. يسرد هذا الفصل بداية أحداث القصّة، إذ يحاول مصطفى جابر بلّوط سبر غور جذوره وتفكيك لغز المكان والانتساب إليه. يكتب طه بأُسلوب يعتمد على السخرية، ككثير من قصصه الأُخرى، ويجابه الواقع الصارخ بصراخ أقوى منه له أصل راسخ مثل مصطفى جابر بلّوط.
في زاوية الثقافة العبريّة، اختار الشاعر الفلسطينيّ والمترجم سلمان مصالحة، مناقشة أعمال الشاعر العبريّ المُشْكِل أهارون شبتاي. عن إشكاله يقول مصالحة: ”شبتاي هو واحد من الشعراء الإسرائيليين المعاصرين المثيرين للجدل. مضامينه الشعريّة متعدّدة وهي، من جهة، تشمل العاديّ الشخصيّ الذي يبوح بتجارب حياتيّة لا تختلف كثيرًا عن يوميّات وتجارب الأفراد في كلّ مكان، وحتّى التعبير عن التجارب المغرقة في الفردانيّة والإيروسيّة دون أن يجد حرجًا في استخدام الألفاظ المباشرة الدارجة على ألسنة الناس في الحديث اليوميّ، في الشارع وفي غرف النوم”.
تتميّز كتابة هذا الشاعر بجرأتها على المجابهة، والوقوف أمام الواقع العنيف. لا يأبه شبتاي بتقريع العسكرة الإسرائيليّة ومؤسّساتها. تتجلّى الخلفيّة العميقة لهذا الشاعر في توظيف الأسطرة عبر أشعاره المختلفة التي تتأرجح على مستويات عدة كالسياسيّ البحت والفردانيّ المحبّ بجهتيه: الروحانيّة والإيروسيّة. يعمل شبتاي محاضرًا في جامعة تل أبيب، في قسم نظريّة الأدب العامّ، حيث يدرّس الشعر والأدب اليونانيّ القديم. إسهاماته بارزة إذ ترجم حتى الآن قسمًا لا يستهان به من روائع المسرح الشعريّ الإغريقيّ.
ينتقي الشاعر سلمان مصالحة مجموعة من القصائد مترجمًا إياها، من العبريّة إلى العربيّة، ناجحًا في خلق صورة مصغّرة شاملة تكشفنا على عالم هذا الشاعر.
تستحضر “مشارف” النصّ الأخير الذي كتبه المبدع الكبير إدوارد سعيد في مجلة “?راند ستريت” الصادرة في نيويورك. وبعد حصولها على إذن خاصّ بترجمة المقالة، قامت هيئة تحرير “مشارف” بنقل النصّ إلى العربيّة، ودمجته مع معرض إميلي جاسر، التي “طلبت من فلسطينيين مقيمين في المنافي، لا يستطيعون الدخول إلى فلسطين، أن يرسلوا لها طلباتهم / أُمنياتهم الشخصيّة لكي تقوم بتنفيذها بدلاً منهم. ثم قامت بتوثيق ذلك بالصور”.
دمج هذا الملفّ ما بين العمل الإبداعي الخاصّ بمعرض إميلي وما بين تعليق إدوارد سعيد عليه جنبًا إلى جنب. يحاور العملان، النصيّ والصوريّ، جدليّة المكان المستحيل الذي لا مجال لاختراقه، فهو يفرض على الفلسطينيين أن يكونوا “محاطين بالقيود ووصاية العقليّة البيروقراطيّة الحديثة قوانين وقصاصات ورق تسمح لك بالذهاب إلى مكان ما أو تمنعك من الذهاب إليه”.
في شهادة هذا العدد، يبدع الشاعر الفلسطيني الغّزاويّ أحمد يعقوب بإسهابه عن مشهد الاجتياح الإسرائيليّ لغزّة. فيصنع من الموقف “الحرج” نصًا يتيه وسط الإعصار العاتي، إعصار الطائرات التي يكتب عنها، ويوثّق لَكَمَاتها البربرية، التي لا تأبه على حدّ تعبيره من قصف فندق قيد التشييد، كما لا تأبه لأنين الأطفال. يستحضر يعقوب فلسفة متناثرة في واقع متشظٍّ، ويستجلب الكتّاب الشعراء والناثرين، الأحياء منهم والأموات، مثل خليل حاوي وحسين البرغوثي وسركون بولص، معتمدًا على نصوص لهم محاورًا إياها بمونولوجه المطوّل. في هذا النصّ الملاذ، يصنع يعقوب من هوّة الواقع السحيقة مادة للإبداع، وبذا، يتغلّب كباقي مبدعي فلسطين على الاحتلال.
زاوية “حوار” في هذا العدد مخصّصة لمقابلة أخيرة مع الكاتب المغربيّ محمّد شكري، قبيل وفاته بفترة وجيزة جدًا. عبر هذه المقابلة، التي أجراها، في طنجة، الكاتب المغربيّ ياسين عدنان. كانت محاورة ملخّصة لسيرة رجل غنيّ بالتجارب المفرطة في الواقعيّة والتي تجلّت في أدبه الصريح، الذي ارتاح بعضهم بتسميته إياه بالفضائحيّ.
يدلي محمّد شكري عبر هذه المحاورة بآرائه دون أن يهاب أي شخص، كعادته على إلقاء الصراحة بالوجه. يعبّر شكري عن غضبه واستيائه وأرقه من طنجة الوطن، يتحدّث عن غربته. يتكلّم عن موته، وبأي طريق يفضّله. وعن جدلية الجنس التي هاجمه الكثير بسببها يقول: “أنا لا أملك مؤسسة للتهييج الجنسي هدفها مساعدة المصابين بالعجز الجنسيّ. أنا كاتب ملعون وإنسان عاش في الشارع، فهل يريدون مني أن أُرسل لهم الفراشات؟ هذا غير معقول. لقد أفرطت شخصيًا في المجون، وأسرفت في الإقبال على الّلذة بكل أشكالها. لكن “حياة الانحراف”، إذا جاز أن نستعمل هذه التسمية التي تعكس أحكامًا معيارية وأخلاقيّة، هي نتيجة خلل اجتماعي كبير يجب أن يُدَان. ولا يكفي أن ندين الضحايا وحدهم”.
عن طنجة، هوس شكري الدائم، يصرّح هذا الكاتب عن عقد القران بينهما: “ولكن لي غيرة كبيرة على هذه المدينة. وأنا مرتبط بها بعقد زواج كاثوليكي. قد نفترق، لكننا لن نطلّق بعضنا أبدًا. لهذا أقول دائمًا إنني لا أعتبر نفسي كاتبًا مغربيًا. بل كاتب طنجاوي. فأنا كاتب التاريخ المتجوّل لهذه المدينة ومؤرّخ مباءاتها الليليّة”.
كرّست “مشارف” في عددها الحاليّ المساحة الأكبر لرحيل العلامة الفلسطينيّ الأصل إدوارد سعيد، الذي استطاع أن يكون مندوبًا عربيًا في العالم أجمع. حمل هذا المثقّف همّ العرب عامّة والفلسطينيين خاصة وطرحه طرحًا علميًا بحتًا، حتى صار مدرسة في أبحاثه القيّمة التي حازت على أعلى التقديرات. استطاع أن يواجه بقامته الشامخة الكثير الكثير من الأصوات المعادية للحقّ العربيّ، أو على الأقلّ تلك التي تحاول الطمس.
في هذا الملفّ يتحدّث الكاتب الروائيّ، ?روفيسور أنطون شمّاس، عن سعيد قائلاً: “كان إدوارد سعيد يصف نفسه، بكلمات الروائي الألماني ?ينتر ?راس، بأنه “مثقّف غير مُنْتَدَب”. فمع أنه كان يُعتَبر عادةً، وليس فقط من قبل مناهضيه، من المتحيّزين الأوفياء لنهج سياسي معيّن، إلا أنه لم يكن ذات يوم يرى نفسه من أنصار تحزّب بعينه، أو يشعر بأنه “بالبيت” تمامًا في مكان ما”.
يضيف حميد دباشي، الإيراني، رئيس كرسيّ لغات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، قائلاً: “اليوم، لا شيء يهمني من الأُمور التي لا تعد ولا تحصى والتي تعلمتها من إدوارد سعيد أكثر من فصاحة صوته الحماسيّة كذلك الهيبة والثقة والشجاعة والاندفاع والاتزان في خطابه، التي من دونها لكان أبناء جيلي من المثقفين المهاجرين ظلوا تحت رحمة المرتزقة من الأكاديميين والصحافيين المتواطئين الذين أغرقوا قنوات وسائل الإعلام الجماهيريّة، وهم ينفثون علوم أمراضهم بلهجات عربيّة وفارسيّة أو جنوب آسيوية ثقيلة، ويتكلمون في الوقت ذاته بلهجة الجمع “نحن” المثيرة للغثيان والمنحازة إلى المهندسين المفلسين لهذه الإمبراطوريّة الضارية”.
أما الروائيّ إلياس خوري فيقول بدوره: “كتب إدوارد سعيد كثيرًا عن المنفى لأنه كان يسعى إلى تحرير المنفيين ومقاومة الظلم. لذا ولدت فلسطين في العالم تحت قلمه وصارت وطنًا لكل اللاجئين والمنفيين والفقراء والشرفاء. كأنما جسّد في سيرته وأعماله الوجه الآخر للوطن. هناك داخل السجن الإسرائيلي كان محمود درويش وإميل حبيبي يصوغان لغة الوطن، وهنا في المنفى كان غسّان كنفاني يتلمّس حكايته. وهناك في أمريكا كان يبنيه في وصفه ذاكرة الجريمة وحلم العدالة”.
في هذا الملّف شارك أيضًا كلّ من الباحثة العراقيّة فريال جبوري غزّول، والباحث المصري هاني حلمي حنفي، والباحث الفلسطيني صقر أبو فخر، و?روفيسور عوديد بلبان المحاضر في جامعة حيفا.
تستكشف ثلّة الكتّاب هذه عوالم سعيد وتسلّط الأضواء على ميّزاته، كل من زاوية معيّنة ووفق وجهة نظره.
رئيسة تحرير “مشارف” سهام داوود. هيئة تحرير “مشارف« تضم: الناقد أنطوان شلحت، دكتور سلمان مصالحة، دكتور محمود رجب غنايم، ?روفيسور رمزي سليمان، الشاعر محمد حمزة غنايم و?روفيسور أنطون شماس. ويتولى هشام نفاع مسؤولية سكرتير التحرير. يصممها شريف واكد. المجلة من ٦٥٢ صفحة.
عنوان المجلة الالكتروني:
masharef@netvision.net.il
العناوين البريدية والهاتفية:
P.O.Box 6370 Haifa 31063
Fax: 972-4-8233849
Phone: 972-4-8233478
31/10/2010 - 11:02
"مشارف" (العدد 23): استقطاب لمحاور فنيّة تجادل الواقع بالإبداع

التعليقات