"السلام ممكن"- إلاّ العودة إلى الماضي!/ أنطوان شلحت *

من موقعه المنحاز جدًا لإسرائيل وسياستها الإقليمية والكونية ومن موقع المدافع عن مسوّغات هذه السياسة يكتب رجل الأعمال اليهودي الأميركي دانيال أبراهام كتاب "السلام ممكن"، الذي يشتمل على حوارات متصلة مع قادة عرب وإسرائيليين أجراها على مدار سنوات عديدة سوية مع عضو الكونغرس عن ولاية يوتا، وين أوينز.

غير أن انحيازه هذا لا يحول دون انحياز آخر يتوازى معه، وقد يفارقه من حيث الدلالة والحيثيات، هو انحيازه للسلام الذي يعتقد أنه ممكن بين إسرائيل وجيرانها العرب. بل إن قارئ الكتاب يصعب عليه أن لا يخرج بانطباع أن ممكنية السلام، وفق قراءة المؤلف، تشكل الدافع الأساس لإحداثيات الحوارات المسجلة فيه.

ينطلق أبراهام من قاعدة عامة تذهب إلى أن بلوغ السلام في الشرق الأوسط يمكن أن يتأتى إذا ما رنا القادة بأبصارهم نحو المستقبل، وأشاحوا بها عن الماضي، مرة واحدة وأخيرة. ولا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق كي يستريب بهذه المعادلة، لأن وقائع الكتاب ذاتها تشفّ عن حقيقة لا لبس فيها تفيد غايتها بإعفاء إسرائيل من المسؤولية عما اقترفته في هذا الماضي، أكثر من إفادتها بحلم بناء المستقبل لمصلحة الأطراف كافة.

وكل ما دون ذلك هو تفاصيل والمزيد منها، عن تلك اللقاءات وما دار فيها من سجالات وتجاذبات وما خلصت إليها من نتائج سرية أو معلنة [قام أبراهام، برفقة عضو الكونغرس الأميركي أوينز، بأكثر من ستين رحلة إلى الشرق الأوسط ما بين الأعوام 1988 و2002 قابلا خلالها عددًا كبيرًا من القادة العرب، منهم الرئيس المصري حسني مبارك، الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ولي العهد السعودي آنذاك (الملك حاليًا) عبد الله، ملك الأردن الراحل حسين والملك الحالي عبد الله الثاني، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، محمود عباس، بالإضافة إلى عدد من رؤساء وزراء إسرائيل؛ إسحق شامير، إسحق رابين، شمعون بيريس، بنيامين نتنياهو، إيهود باراك وأريئيل شارون. وقد استخدم أبراهام، كما يقول، خبرته في عالم الأعمال والمفاوضات الصعبة، التي يتقنها، لتنظيم لقاءات فردية ودقيقة خلف الكواليس، ما بين اللاعبين الأساسيين في الصراع، حاثًّا هؤلاء القادة على التركيز حول ما يحتاجونه وليس حول ما يريدونه لتحقيق السلام. ومنذ وفاة أوينز المفاجئة العام 2002، يواصل أبراهام عمله بمفرده في ترتيب لقاءات تهدف برأيه إلى تحقيق السلام].

وجميع هذه التفاصيل يسجلها أبراهام من وجهة نظره طبعًا. وبالتأكيد فإن للأطراف الأخرى المذكورة وجهة نظرها، التي تنطوي بطبيعة الحال على ما يصحّح ويفنّد ويدحض وما إلى ذلك من ردود أفعال مضادة. فضلاً عن ذلك فإن هذه اللقاءات لم ترّج العديد من المسلمات الصنميّة التي طوى أبراهام ضلوعه عليها "كشخص ذي تربية والتزامات صهيونية"، وفقما يعرّف نفسه. وإن "حكم القيمة" هذا ينسحب أيضًا حتى على موقفه من الاحتلال الذي يرى أنه "ليس سيئاً فقط للشعب الخاضع للاحتلال فحسب، إنما هو سيء للمحتل، اقتصاديًا وأخلاقيًا، وفي مجالات أخرى عديدة ومفاجئة"، متماهيًا بذلك مع عدد من حكام إسرائيل الحاليين.

في ضوء هذا كله نقول إن ما زكّى نشر هذا الكتاب، من طرف المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، يندرج في إطار الرؤية العامة للمركز التي تسعى، ضمن أشياء أخرى، إلى تعريض القارئ العربي إلى مختلف القراءات عن الواقع الإسرائيلي، سواء تماشت مع قراءتنا لهذا الواقع أو فارقتها، جملة وتفصيلاً.

وسوية مع التنويه بذلك نرى وجوب إيراد الملاحظات التالية على هذا الكتاب:

* يعرض كتاب "السلام ممكن"، كما هو جليّ عيانًا بيانًا، وجهة نظر إحدى الشخصيات الفاعلة في الجالية اليهودية الأميركية. وهي جالية لا يجوز الانتقاص، بحال من الأحوال، من مقدرة تأثيرها على السياسة الإسرائيلية وعلى سياسة الإدارة الأميركية حيال النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي وقضية الشرق الأوسط عمومًا. وبالتالي فإن وجهة النظر هذه وسائر وجهات النظر بين تلك الجالية من المفترض أن تقف، أو ينبغي بها أن تقف، في صلب اهتمام الساسة وأصحاب القرار الفلسطيني والعربي. [يؤكد أبراهام أنه بعد أن غادر مصر، على أثر أول لقاء في هذه الرحلة، شعر "أن الوقت حان للجالية اليهودية الأميركية لتسخير أي نفوذ وقوة تملكهما من أجل المساهمة في دفع عملية السلام، وأنه قد يكون من الجيّد القيام برحلات أخرى كالتي قمنا بها أنا ووين، حيث أن تأثير مثل هذه الزيارات سواء على القادة العرب أو القادة اليهود قد يكون عظيمًا"].

* لا يبدو أبراهام، وإن في أحيان قليلة، ضنينًا في تعرية المواقف الإسرائيلية الرسمية التي لا تتسّق مع رؤيته الأثيرة. وهي مواقف تظهر، في التحصيل العام لهذه التعرية، مشدودة إلى جذر أساس واحد هو الخوف من السلام مع الطرف الفلسطيني والعربي. غير أنه في الحالات التي تمّ فيها تجاوز هذا الخوف لناحية "الرغبة في السلام"، فإن ما يمكن استنتاجه هو أن هذه الرغبة تبقى أسيرة الرؤيا الأحادية الجانب التي تتوسل بمطالب من الطرف الآخر، هي أقرب إلى إملاءات فجّة قد يتفق الكاتب معها وقد لا يتفق، إلا أنه لا يجابهها بالحسم المرتجى.

* يجهد أبراهام لتقنين مواصفات السلام إلى "ما يحتاجه الفلسطينيون والعرب"، كما لو أن ذلك يتعيّن أن يكون في تضادِ تام مع "ما يريدون أو يرغبون فيه"... غير أنه خلال هذا يعرض بعض جوانب الرواية الفلسطينية والعربية التاريخية، لكن بطريقة التفسير المتنائي عن التبرير الذي من شأنه أن يجعله متماثلاً معها. ورغم ذلك ثمة أهمية ما لهذا العرض، ربما ترجع إلى شخص الواقف خلفه فحسب، لا إلى سياقه الذي لا ينمّ عن أي تطوّر واعد.


* في حقيقة الأمر لا يقع تصوّر أبراهام لـ"السلام الممكن" بعيدًا عن التصوّر الإسرائيلي التقليدي المستجدّ بعد اتفاق أوسلو (العودة إلى حدود 1967 مع بعض التعديلات، دون حق العودة ومع تقسيم القدس حسب السكان لخدمة غايات التوازن الديمغرافي) مع تشديده على "ضرورة" استمرار تفوّق إسرائيل العسكري بعد إنجاز الحلّ الدائم. فهو يكتب قائلاً: "أنا أقول إن أساس حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والإسرائيلي- السوري هو التفاوض على السلام على أساس حدود العام 1967 مع بعض التعديلات، وبناء سياج أمني قوي والاحتفاظ بأفضل جيش في المنطقة والباقي أشياء هامشية"... ويمضي قائلاً، في تسويغ موضوع "التفوّق العسكري" لإسرائيل: "بسبب التاريخ الطويل من الكراهية المتجذرة لإسرائيل في العالم العربي، فإن على إسرائيل لكي تشعر بالأمن الاستمرار الآن وفي المستقبل المنظور بالتفوق عسكريًا على كل الدول العربية المحيطة وبالتحالف مع أميركا"!.

* ثمة تلميحات متفرقة في الكتاب إلى الأسلوب المراوغ الذي يلتجئ إليه، عادة، الساسة الإسرائيليون (إسحق شامير وإيهود باراك مثلاً). وهي تلميحات لا تمسّ جوهر الموقف المتسّق مع الرواية الإسرائيلية ولا تخفّف من غلوائه. أما التسليم شبه التام، الاستثنائي، مع المطالب العربية فهو منحصر في التسليم بأن الخوف العربي من إسرائيل وسياستها التوسعية هو خوف حقيقي [بعد أول رحلة إلى مصر كتب أبراهام ما يلي: "بدأت بالاقتناع أن الخوف العربي من إسرائيل كدولة توسعية لم يكن وسيلة للتحريض ضد إسرائيل، وإنما كان خوفًا حقيقيًا"].

* ينهي المؤلف كتابه بفصل يستعرض تأهب إسرائيل "لترك" غزة، تطبيقًا لخطة الانفصال الشارونية المعروفة والتي يرى أنها تؤشر إلى "خطوة ذات تأثير هائل"، يتوازى مع التأثير الذي انطوى عليه انتخاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، في كانون الثاني 2005.

لكن قبل هذه النهاية يتوقف المؤلف عند حرب الخليج الأولى (في العام 1991) ويقرأ بعض دلالاتها السياسية على إسرائيل.
ولعل من المثير الآن قراءة ما يكتبه بشأن مترتبات سقوط صواريخ السكود في العمق الإسرائيلي آنذاك:
"بدا لي أن طريقة التفكير الإسرائيلية تأثرت من تلك الحرب بطريقة جعلت الإسرائيليين أكثر انفتاحا مما كانوا عليه في السابق لفكرة التنازل عن الأرض. فقد بينت حرب الخليج أنه بالرغم عن كل عظمة إسرائيل العسكرية فإنها غير قادرة على الدفاع عن نفسها وحدها ضد صواريخ السكود. بالطبع فإنه من غير دعم الولايات المتحدة كانت إسرائيل سترد على الهجوم العراقي، لكن ما كان في استطاعتها صدّ الصواريخ وحدها. ولذا بدأ العديد من الإسرائيليين بالاقتناع أن الطريقة الوحيدة التي ستمكن إسرائيل من حماية نفسها ومواطنيها هي عملية سلام شاملة مع العالم العربي، وكلما حدث الأمر في وقت أقرب كان ذلك أفضل. لم تكن الصواريخ التي أطلقها صدام حسين تحمل رؤوسا كيماوية أو بيولوجية، كما كان خوف إسرائيل، ولكن هاجس أن يقوم قائد عربي معاد في المستقبل بإطلاق صواريخ كهذه تجاه إسرائيل أصبح أقرب إلى الحقيقة في حينه، وهكذا فلن تكون القوات الإسرائيلية فقط مهددة بالخطر بل المجتمع الإسرائيلي ككل، مع احتمال سقوط العديد من القتلى. قبل ذلك بعدة سنوات فقط توقع جورج شولتز، وزير الخارجية في إدارة رونالد ريغان الأميركية، بأن تغيّر الصواريخ مستقبل الحروب في المنطقة، والعديدون لم يأخذوا كلماته بعين الاعتبار، ولكن الآن، تحقق ما تصوره شولتز. خلال أيام قليلة فقط جعل صدام حسين من الواضح، في شهر كانون الثاني 1991، أن ضغطة واحدة على زرّ قد تهدّد حياة العديد من الإسرائيليين أكثر بكثير من إرسال قوات الجيوش العربية".

مثلما كانت الحال فيما مضى فإن هذه العبارات تحمل في ثناياها الكثير من المعاني والمداليل لمجرّد تصادف صدور هذا الكتاب مع انتهاء الحرب على لبنان، التي كان من أبرز نتائجها تعرّض هذا العمق الإسرائيلي لقصف الصواريخ على مدار أكثر من شهر وتحقق احتمال سقوط العديد من القتلى، بما يمكن اعتباره تزكية للنتيجة السالفة نفسها التي خلص إليها أبراهام في قراءته لحرب الخليج الأولى، لناحية أن الطريقة الوحيدة التي تمكن إسرائيل من حماية نفسها ومواطنيها كامنة في عملية سلام شاملة مع العالم العربي.

ومن نافل القول إنه بدون سلام إسرائيلي- فلسطيني فإن عملية كهذه ستظل كسيحة.

في الوقت الراهن ما من جواب على السؤال: إلى أي مدى سيتأثر مستقبل السلام، الذي يسعى الكاتب لتحقيقه، بهذا الحاضر الأكثر جدة، وهل سيتم القفز عن هذا الحاضر بعد حين بادعاء أن الخوض فيه سيكون عودة لا طائل منها إلى الماضي؟.

غير أن السؤال الذي يتطلب تصديًا جسورًا هو: هل يمكن تكوين واعتماد رؤيا للمستقبل دون العودة إلى الماضي وفهمه، كما في "مثال شولتز" السالف على الأقل؟.

يقينًا أن لماضي النزاع مستحقات ليست هامشية البتة، لا يستقيم المستقبل بدونها، بينما الحاضر لا يزال غير مستقيم أصلاً مع تواصل التهرّب منها. وأية محاولة للتغاضي عنها أو لمواصلة تهميشها تؤول إلى ركوب مركب مهمة ليست يسيرة على الإطلاق، إن لم تكن مستحيلة تمامًا. وهي الصفة نفسها التي يبدو أنها تنطبق على المهمة، المسبقة الأدلجة والمسبقة الاختيار، التي أخذها دانيال أبراهام على عاتقه وكرّس لها هذا الكتاب من ألفه إلى يائه.

__________________________


* هذا المقال هو نصّ تقديم الترجمة العربية للكتاب.

التعليقات