ايهاب بسيسو.. طائر الشعر ورهاب الاماكن المغلقة

ايهاب بسيسو.. طائر الشعر ورهاب الاماكن المغلقة
تتسم قصائد مجموعة الشاعر الفلسطيني الشاب ايهاب ياسر بسيسو بتوتر وحرقة ناريين لا يهدأن.. ومن خلال عنوانها الموحي "نورس الفضاء الضيق" تختصر بعض آلام الفلسطينيين ومعاناتهم المتعددة الاشكال خاصة محنة الاطفال منهم.

يوحي العنوان بأجواء ما يعرف في الدراسات النفسية باسم "كلوستروفوبيا" CLAUSTROPHOBIA الذي يترجم الى العربية بتعبير "رهاب الاماكن المغلقة." وفي اجواء التأثر التي تحدثها قصائد بسيسو واستنادا الى صور الموت والعذاب والقهر والرعب التي أصبحت من يوميات حياة الفلسطيني.. قد يجد القارىء نفسه مستدرجا الى قراءة العنوان ذهنيا بصورة أخرى توحيها المعاناة التي تصورها المجموعة وهو "ارهاب الاماكن المغلقة."

والنورس هو ذلك الطائر البحري الذي يصح بأن يقال فيه ان العالم ومحيطاته وسواحله هي ملعبه الواسع. انه الان محصور في فضاء أو "حيز" ضيق يطبق على أنفاسه. ويحفل المكان الضيق بكل صفات المناطق الفلسطينية التي يتحكم بها وبناسها.. واقعا ومجازا الحصار والموت والرعب. الا أن الافق الضيق يطبق كذلك على من يحاصر الفلسطيني ليصبح السجان سجينا بصورة من الصور.

أهدى بسيسو مجموعته "الى الراحلين دون وداع.. الباقين في فضاء الذاكرة." ويبدو أنه عندما يضيق الفضاء الحقيقي.. هذا الضيق الذي نجده في نتاج فلسطيني متعدد من أبرزه نتاج المرحلة الاخيرة عند الشاعر الكبير محمود درويش وعند عزمي بشارة واخرين .. يتحول الفضاء النفسي الى أيام مضت أو أخرى آتية.

شعر بسيسو الذي يندرج في مجال قصيدة النثر قد لا يكون فيه من حيث نمط التعبير أمر جديد وهذا مما يمكن توقعه لدى شاعر شاب.. لكن ميزته الاولى هي أنه مشحون بمشاعر تجمع الى النبض الشعري المتوتر تخمرا في الرؤية الانسانية وعمقا في التجربة الشعرية ينعكس في كلام متوهج يفيض ألما ولا يخبو ليجعل علاقته مع القارىء تنقطع أو تذبل. انه يشد القارىء اليه باستمرار حتى حين يتكرر نقل الحالة النفسية الواحدة أو المتشابهة في صور وأشكال مختلفة. لغة بسيسو ومفرداته الشعرية تحمل في شكل عام شخصية مميزة.

المجموعة صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 131 صفحة حملت 22 قصيدة توزعت في "فضاءين" حمل كل منهما عناوين رئيسية اندرج تحتها عدد من القصائد. بعد الفضاء الاول عنوان رئيسي هو "الليل ومرايا الموت" وقد استهل بقصيدة "أحاديث الساعة العاشرة" وفيها يقول بسيسو :

"خلف النوافذ الرمادية
يأخذ البحر وجه مدينة تلهو
على عتبات الموج
تصنع ثوبها المزركش في استراحة الرصاص
ليمر الوقت دون احتراق أو بكاء..
سيعود ضجيج البارود بعد غياب مؤقت
ليكمل مشوار الحزن في الازقة
وسيكبر طفل الحزن في لحظتين
حين تلتقي جمرة النحاس مع طقس الموت
في أزيز عابر."

ويمضي في نقل أجواء الرعب والموت وحلكة الليل الفلسطيني فيقول

"انها تمام العاشرة..
التصق القادمون باقدامهم الثقيلة
ليدوسوا كل النجمات التي اغتسلت
على شاطىء البحر...
وليفركوا ليل النائمين بملح الموت
قبل أن ينصرفوا."

ويضيف
"انها.. المسافة تضيق بين طلقتين
طفل يركض فوق صدري
خوفا من عواء البارود..
يحاول الخلاص من وجه القاتل.. والقذيفة
كي يعود الى حضن امه يغتسل بالحكايا..
صراخ يعبر صدري
يشق المدى المفتوح على الرصاص
طفل يتشكل كالفراش
يغادر صدري.. والقميص المثقوب بحكاية حمراء..
..ابحث عني في فراغ الوقت المحترق..
كي يخرج القناص من دمي
وأمشي في أعين الخارجين من فوضى الرماد
محملا بنكهة الطرق التي
تحترف الغناء على أكياس الرمل."

في مجال اخر وفي قصيدة حملت عنوان المجموعة نفسه يقول

"الطفل الذي جاء بحزنه صباح اليوم الى المدرسة
كان بلا قدمين
يحمل بين يديه قبر أخيه
صوت المشيعين في الجنازة
وبعض الملصقات/وفما باردا/ودمعتين."

في قصيدة أخرى هي "أقدام صغيرة" يصور بأسى "بانورامي" واسع عالما أضحى فيه موت الاطفال شأنا يوميا:

"كلما مشيت في جنازة طفل
رأيت صغارا يشقون طريقهم للمقدمة
تغرق وجوههم بنحيب صامت..
يفكرون في الموت الذي جاء على ظهر رصاصة
ليأخذ صديق اللعب الى مشوار أبعد من حدود الحي..
يا لعبة الدم القذرة
الموت يسير في الازقة على قدمين
كلما اقنعت القمر بحكاية
صعد الدخان الى قمة روحي
وصعد الاطفال باقدامهم الصغيرة
وجلسوا يتحدثون عن اخر جنازة
ركضوا امامها بالاعلام والدموع."

في قصيدة "انتظار" التي وردت تحت عنوان رئيسي هو "الكتابة بذراع يحترق" يقول الشاعر

"الطاولة تلتهم أصابعي في صمت
فيما الاوراق وجوه تقفز بين يدي
علني التقط الوجه الهارب من أرقي ..
لاشيء ينبىء بما تخبئه مناقير الغربان القادمة
وحدها النوافذ مشرعة على الانتظار
وحدها الشرفات تنقب في العتمة
ترى ما لون الموت القادم من علو."

وفي قصيدة "الى جندي" يخاطب الشاعر الانسان في الجندي.. والطفل الذي كان وكان له أهل وأحلام بيضاء ويذكره بعذاب قومه اليهود والمحرقة النازية ويعجب كيف يتحول الضحية الى جلاد وكانه يقول له ان رمز النورس والبحر سيف ذو حدين يطبق على الفلسطيني واليهودي.

يقول :

"كلما تمدد المساء
وجاء الليل بوجهك المعدني
صعدنا قمة الروح
لنعد الوقت
للمواجهة..
توقف قليلا قبل أن توقد من ظلك ليلا
يمطر في الازقة.. غبارا وشظايا
وعد بذاكرتك الى المراة
ربما ترى جدتك التي تئن من البرد وهي تعد اطفالها
الناجين من المحرقة
ربما ترى وجهك قد شاخ عشرين خريفا
كلما أطل القادمون من موتهم..
في عينيك..
هل سألت الناجين
كيف أصبحت طفلا يحب لعبة الرصاص
واللون الاحمر..
من كان يحقن رأسك.. ان السنابل لا تعرف لغة الشمس
وان البلابل لا تجيد الغناء
وان الدوري الجيد
هو الدوري الذي يحيا في قفص حلمك
وانك كي تحرس حلمك من هذا الفضاء
لا تأمن النورس
كي لا يبتلعك البحر."

التعليقات