بل هو ألذ من الفستق يا شيخ حنّا/ رشاد أبو شاور

-

بل هو ألذ من الفستق يا شيخ حنّا/ رشاد أبو شاور
يقولون عندنا في الأمثال: الدهن في العتاقي، ويعنون أن الدجاجة العتيقة أكثر دسماً، ناهيك عن إنها تبيض (والديك لا يبيض)، وفي المثال يقولون: بيضة الديك.

وحنّا أبوحنّا هو من شيوخ الأدب الفلسطيني الأحياء، وله فضل يذكر فيشكر في جمع تراث شعراء فلسطين الغابرين، ورواد الشعر الفلسطيني الحديث في فلسطين المحتلة منذ عام 48.
والشيخ ـ هكذا أصفه ـ أبوحنّا دوّن مذكراته في جزء أوّل عنونه بـ(ظّل الغيمة)، فسّر وأطرب، ولقي الثناء الجزيل من الأجيال (العتيقة) ومن الشباب المرد، أي الذين لم تطّر لحاهم بعد.

ولأن الدهن في العتاقي، فإن الشيخ أبوحنّا قد صمت، وقيل في الأسباب: صمته بسبب الشيخوخة، ولوهن داهم الجسد، فراهنّا علي شبوبيّة الروح، فإذا بنا نكسب الرهان. والبرهان أن شيخنا جاءنا من جليل فلسطين وقد تأبّط الجزأين الجديدين من مذكراته، وكتاباً عن رحلاته، وبخّاصة رحلته الأندلسية البرتغالية، وكتاباً رابعاً عنونه بـ(فستق أدبي )...

الكتاب هذا ألّذ من نقرشة الفستق، وأقرب وأمتع إلي النفس بحلاوة الحكي، ولمعات الخيال، وسرحاته مع شعراء سمعنا عنهم وبعد بيننا وبينهم العهد فكأنهم ليسوا منّا ولا نحن منهم، ولذا باتوا صدي باهتاً في الذاكرة.

وكما هو شأنه يعود الشيخ حنّا ليغرف من التراث حفنات تروي الظمأ، وتزيد من الرغبة في الشرب، والنقرشة، والعودة إلي زمن الشعر والشعراء الذين مررنا بمضاربهم ذات زمن في صحراء العرب، وبواديهم، وواحاتهم.

من الذي يقرأ من أبناء وبنات الأجيال الطالعة كتاب الأغاني هذه الأيّام، في زمن هيفاء وأخواتها؟

الشيخ أبوحنّا يستخرج عسلاً من الأغاني سائغاً سلسبيلاً، ويجرّعه للنفس بملعقة من نور الحكايات التي تشنّف الآذان وتعيد إليها نعمة السمع بهدوء فتستمتع وتطرب بعد أن يلذ لها السمر مع عمر بن أبي ربيعة ومجونه المحبب،وكثيّر عزّة، ونعيد الاكتشاف مع صائد اللؤلؤ المكنون حنّا أبوحنّا الشغف بحكايا الحب المجنون. وهل عاشق يتصرّف بواقعية؟ نحن نحكي عن العشق، والوله لا عن (أوسلو ) و(شرم الشيخ) يا ناس...
نكتشف أن جدنا الماجن عمر بن أبي ربيعة ـ ما زالت قبيلته في العراق ومنها كتّاب وشعراء و..مقاومون ـ كان مولعاً بالنساء اللحومات، ذوات الأكفال المهولة، ولا تلوموه فلكّل زمن ذوقه وحسّه الجمالي.

لو أن (عمر ) عاش في زمننا لتندّر (المثقفون) و(الحداثيون ) من ذوقه، فهم يعيشون في زمن كلوديا شيفر، ونعّومي كامبل، والعارضات اللواتي لا معد لهن، ولا مؤخرات، ولا مقدمات، وهنّ من فرط الرشاقة، والنحافة، يكدن يشبهن الملاعق الخشبيّة الصينيّة، بحيث لو أنك عصرتها قليلاً لانكسرت، فهي عظم عليه غطاء من جلد رقيق نحيل بلا دسم.

لزمن طويل هيئ لي أن عمر بن أبي ربيعة كان مولعاً بالرشيقات كالغزلان، ذوات العيون الحور، المتبخترات برشاقة، فإذا بالشيخ أبوحنّا يطلع علينا بصورة مغايرة، وينيخ بجماله وعليهن نسوة لا صلة لهّن بالريجيم، والعناية بغذائهن الصحّي، بل المتباهيات بما تكتنز أجسادهن من لحم وشحم.

الثريّا واحدة من النسوة اللواتي تغزّل بهن عمر، فانظر وصفها: كانت الثريّا تصّب عليها جرّة ماء وهي قائمة فلا يصيب فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها.

ومّما قاله عمر في الثريّا:
من رسولي إلي الثريّا فــإنّي ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
سلبتني مجاجة المسك عقلي فسلوها ماذا أحّلّ اغتصابي

وماذا عن زينب وهي إحدي اللواتي تدلّه في عشقهن؟:
خدلّجــــة إذا انصــــرفــــت رأيت وشاحها قلقا
وساقـــاً تمـــلأ الخلخــــال فيه تراه مختنقا

إذا كان عمر شغوفاً بالبدينات، فماذا عن كثيّر عزّة؟
كثيّر أحد أعلام الشعر في العصر الأموي كان مولعاً بالقصيرات، نعم بالقصيرات، ولم يتردد في مدحهنّ والتودد إليهنّ، وبخّاصة متيمته عزّة التي قال فيها أجمل وأعذب شعره. ومّما قاله في جمال قصرها (بضم القاف):

وأنت التي حببت كلّ قصيرة إليّ وما تدري بذاك القصائر
رأي إبراهيم بن سعد أنه لفرط السحر الذي في شعر كثيّر، أنه لو رقّي بثلاثين قصيدة مّما يحفظ علي رأس مجنون لفاق (يعني لاسترّد عقله)!

وبحسب فستق الشيخ أبوحنّا العائد من أغاني أبي الفرج الأصفهاني، فإن كثيّر مرّ بنسوة من بني ضمرة ومعه غنم، فسألهنّ عن الماء، فقلن لعزّة وهي جارية حين كعب ثدياها: أرشديه إلي الماء، فأرشدته وأعجبته. فبينما هو يسقي غنمه إذ جاءته عزّة بدراهم، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا بهذه الدراهم كبشاً من ضأنك. فأمر الغلام فدفع إليها كبشاً، وقال: ردّي الدراهم، وقولي لهنّ: إذا رحت بكنّ اقتضيت حقّي. فلمّا راح مرّ بهنّ، فقلن له: هذا حقّك فخذه.فقال: عزّة غريمي، ولست أقتضي حقّي إلاّ منها. فمزحن معه وقلن: ويحك ! جارية صغيرة وليس فيها وفاء فأحله علي إحدانا فإنّا أملأ به منها، وأسرع له أداءً، فقال: ما أنا بمحيل حقّي عنها...
ثمّ نكتشف مع الشيخ أبوحنّا أن كثيّر نفسه كان قصيراً، وأن عشقه لعزّة كان مع القصر لطلاوة حديثها، وبراعتها في المجالسة، وسرعة بديهتها.
من الخفرات البيض ودّ جليسها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
سرعة خاطرها تتجلّي بردها علي سؤال الخليفة عبد الملك بن مروان الذي استفسر منها عن سّر قول كثيّر فيها، عمّا أعجبه:
لعزّة نار ما تبوخ كأنها
إذا ما رمقناها من البعد كوكب
فأجابت:
ـ كلاّ يا أمير المؤمنين، فوالله لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرّة (الباردة).
ومع التلذذ بهذه الحكايات التي تعيدنا إلي زمن يعرّفنا به الشعر، نقرأ أنّ أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان سألت عزّة:
قضي كلّ ذي دين فوقّي غريمه
وعزّة مطلول معنّي غريمها
ما هذا الذي ذكره؟
فأجابتها عزّة:
ـ قبلة وعدته إيّاها.
قالت لها أم البنين:
ـ أنجزيها وعليّ إثمها...
طبق الفستق هذا جاء من مطبعة في (حيفا)، ولقد أحببت أن أشارك فيه القرّاء لعلّهم إن لم يذهبوا إلي وجبات جدّهم صاحب الأغاني ، يميلون إلي عمهم الشيخ حنّا أبوحنّا، الذي من عمق فلسطين يمّتعهم بسير أجدادهم العشّاق، وأذواقهم، بخبرة شيخ مجرّب...

التعليقات