حضارة وادي الرافدين- العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الافكار الفلسفية

حضارة وادي الرافدين- العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الافكار الفلسفية
تأليف :د.عبدالوهاب حميد رشيد



ثمة مقولة يعرفها المؤرخون جيداً تفيد بأن «من أطلق الرصاص على الماضي أطلق المستقبل مدافعه عليه» وهي مقولة تحمل في طياتها أهمية قصوى للماضي بغية معرفة الحاضر والتخطيط للمستقبل ،ورغم ان الكثير من المؤرخين يشيرون إلى أن التاريخ لا يعيد نفسه وإن حدث ذلك «سيكون على شكل مهزلة»


ذلك أن لكل مرحلة ظروفها ومعطياتها المختلفة بالضرورة عن السابق واللاحق غير أن ذلك لا يلغي وجود قواسم مشتركة بين هذا الحدث وذاك ولا ينفي تاليا بأن ثمة استنتاجات وامثولات يمكن استخلاصها من تجارب الماضي مع التركيز على النواحي الإيجابية فيها بحيث يستطيع المرء الاستفادة منها في حاضره مع الأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية لكل مرحلة «فالتاريخ يقدم دروسا سخية شريطة أن تُستَوعب هذه الدروس وتصبح جزءا من ذاكرة الإنسان»


كما يؤكد الروائي الراحل عبد الرحمن منيف. ولعل هذه الآراء والتحليلات شكلت الحافز الرئيسي للباحث العراقي عبد الوهاب حميد رشيد لإنجاز دراسته المعنونة بـ «حضارة وادي الرافدين» الصادرة مؤخرا عن دار المدى بدمشق ،


والتي تحاول تقديم قراءة موضوعية لأولى الحضارات البشرية الناضجة التي تكونت في العراق القديم من خلال غربلة مختلف المصادر التي أتيحت له للتعرف على تلك الحضارة التي بناها الأسلاف وأخذت تشرق نورها ـ حسب تعبير الباحث ـ منذ حوالي 3000 ق. م «وهي ما زالت تعيش معنا بهذا القدر او ذاك في أفكارنا ومعتقداتنا وممارساتنا».


ولا يهدف الكتاب الى تدوين الواقعة التاريخية فحسب بل «يطمح الى المساهمة في التوعية الثقافية وبناء وعي موضوعي باتجاه نقد الذات»، بحسب مقدمة الكتاب، وفي محاولة لتحقيق هذا الغرض يتقصى الباحث مختلف جوانب حضارة وادي الرافدين سعيا للإجابة عن أسئلة عديدة تشغل ذهنه كما تشغل ذهن القراء من قبيل:


ما هو موقع هذه الحضارة في الحضارات السابقة واللاحقة عليها وهي التي بنت أول مجمع سياسي بأنظمته وقوانينه وعلمت البشرية القراءة والكتابة؟ وكيف نشأت هذه الحضارة؟ و لماذا اندثرت في حين شكلت جذوراً لحضارات عصرية؟ ومن هم السومريون الذين أسسوا هذه الحضارة؟ هل جاؤوا من خارج البلاد؟ أم انهم كانوا أبناء أولئك الرواد الذين خرجوا من كهوف كردستان العراق؟


ما هي الفلسفة والمعتقدات التي بنيت على أساسها هذه الحضارة؟ و كيف كانت حياة إنسان حضارة وادي الرافدين ومعيشته ،مزاجه وسلوكه؟ وما طبيعة البيئة الاجتماعية التي أنشأتها؟ وسوى ذلك من الأسئلة التي يسعى الكتاب الى الإجابة عليها ليدفع القارئ الى ان يقارن بنفسه جوانب الاختلاف والاتفاق بين أفكار الأسلاف ومعتقداتهم وممارساتهم مع الحياة المعاصرة.


تتضمن الدراسة سبعة عشر فصلا وتركز في البداية على البيئة الطبيعية لأهميتها في حياة الإنسان الغابر، وبعد وصف تاريخي موجز لعصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية المتعددة بالعلاقة مع سلالات الحكم المختلفة التي تعاقبت على حضارة وادي الرافدين منذ عصر المدن السومرية ،


يتابع الباحث التطورات السياسية لهذه الحضارة بدءا بإمبراطورية سرجون الاكدي «العصر الاكدي» مرورا بإمبراطورية أور الثالثة ثم العصور الآشورية والبابلية وصولا الى العصر البابلي الأخير ـ الحديث الذي سجل سقوط هذه الحضارة.


ويولي الباحث في سياق هذه الدراسة أهمية خاصة للأفكار والمبادئ والمعتقدات التي شكلت أساسا راسخا لحضارة وادي الرافدين فيدرس الأسس الدينية ودور المؤسسة الكهنوتية وبعد عرض ومناقشة العناصر الرئيسة لهذه الحضارة بأنظمتها السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية يعود ليخضع هذه الجوانب بشيء من التفصيل الى المناقشة التحليلية النقدية في نهاية الكتاب.


يرى الباحث ان حضارات وادي الرافدين تركت آثارها في الحضارات البشرية اللاحقة والمعاصرة، فالعراقيون الأوائل هم أول من اكتشفوا الزراعة والكتابة ووضعوا أسس الرياضيات وعلم الفلك وتوصلوا الى نظرية فيثاغورس قبل فيثاغورس بـ 1500 سنة وصنعوا آلات الحياكة والخياطة، وابتكروا إنتاج الفخار والعجلة والسفينة، واستخدموا معدن النحاس، وصنعوا القصدير،


وأبدعوا في الفنون، وبنوا أول مجمع سياسي منظم كما كان الحال في دول المدن السومرية، وأقاموا نظام الملوكية وتقاليدها، وطبقوا نظرية «الحق الإلهي المقدس» قبل نظرية توماس هوبز بأكثر من 4500 سنة، وفق ما يذهب الباحث، وبنوا الدولة الوطنية الموحدة كما جرى في عهد سرجون وحمورابي على سبيل المثال، وأهدوا الإنسانية أول قانون منظم للحياة الاجتماعية شكل أساس القانون العبري وامتدت آثاره للحضارة المعاصرة،


وكتبوا أولى الملاحم «ملحمة جلجامش»، وابتدعوا القصص على لسان الحيوانات قبل إيسوب الإغريقي بأكثر من ألفي عام، وأسسوا نظاما متكاملا للدين شكل أساس الديانات الرئيسة الثلاث، ووضعوا أول كتاب مقدس «ملحمة الخليقة البابلية»، والسومريون كما يرى الباحث هم اصل العراقيين وهم أجداد ابراهيم الخليل الأب الأكبر لليهود والمسيحيين والعرب.


من هنا يتبين زخم هذه الحضارة ومدى ثرائها وهو ما ترك تأثيرا على الحضارات اللاحقة بل امتد تأثير هذه الحضارة في الزمن الى المراحل التاريخية القريبة والمعاصرة، وفي سياق هذا العرض التاريخي يرى الباحث بان الزراعة كانت عماد المدينة السومرية أما الموارد الأساسية التي بنوا عليها حضارتهم فهي الماء والتراب والشمس. ونمت في هذه الظروف الأعمال التجارية وتطورت الحرف والصناعات بحكم النمو الحضاري في هذه الرقعة الجغرافية التي تسمى تاريخيا بـ «ميزوبوتاميا».


إن هذه المكانة المتقدمة ـ بمعايير تلك المرحلة ـ التي بلغتها حضارة وادي الرافدين وتعقيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية تطلبت سن قوانين منظمة للعلاقات والتعاملات بين الناس فشهدت الألفية الثالثة قبل الميلاد صدور عدة قوانين سومرية، كما صدرت شريعة حمورابي قبل قانون موسى بعدة قرون، والتي كشفت موادها انتحال القانون العبري للكثير منها لتؤكد، كما يشير الباحث، ان العهد القديم كتاب وضعي مصدره الرئيس حضارة وادي الرافدين.


ومن الناحية الاجتماعية قام مجتمع هذه الحضارة على طبقتين رئيستين هما الأحرار والعبيد وجسد كل من القصر «رمز الحكم» والمعبد «رمز الدين» مركز الثقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ الديني فالملك ممثل الإله في حكم أرضه ومخلوقاته أما الكاهن فهو المفسر لإرادة الله والوسيط بينه وبين الناس، وقد شكلا معا «الملك والكاهن» مصدر السلطة والامتيازات.


وكان نظام الأسرة أبويا فالأب هو المسئول عن إعالة الأسرة وله حق بيع او رهن كل أفرادها، ويقر الباحث بان ضرب الزوجة كان عادة بابلية تبيحه القوانين الآشورية، وأولوية التفضيل في الإنجاب للذكور ـ كما هو الحال الآن ـ فالبكر الذكر فهو الوريث الشرعي وحامل اسم الأب والعائلة.


كما تماثلت نسبيا عادات الزواج والطلاق والتبني والإرث مع الكثير من القيم السائدة في المجتمع العراقي اليوم فجوانب عديدة من حياة المواطن اليومية في منطقة وادي الرافدين بقيت تقريبا كما هي حتى الوقت الحاضر الأمر الذي يؤكد مدى قوة هذه الحضارة وصوابية الكثير من معتقداتها وتقاليدها.


لكن وكما يلاحظ الباحث من خلال دراسته فان اكثر جوانب حضارة وادي الرافدين تأثيرا وفعالية على مدى الأجيال التالية ولغاية الوقت الحاضر هو ديانتها التي بنى أسسها وهياكلها المتكاملة السومريون وأعاد تجميعها وتطويرها البابليون


وكان للدين تأثير كبير في هذه الحضارة وثمة أساطير كثيرة في هذا المجال يذكرها الباحث ببعض التفصيل حول نشوء الكون والقوى الخارقة والطقوس الدينية من صلاة وأدعية وتراتيل واحتفالات وتقديم النذور والقرابين، ومسائل تتعلق بمهام الملك ودوره وواجب الرعية وحقوقها وكلها طقوس ومعتقدات ذات أصول ميثولوجية إذ اصبح الإنسان أسير ممارسات وهمية،


فرغم ان الكهنة عالجوا قضايا كثيرة شغلت الفلسفة اليونانية والفكر الحديث فيما بعد إلا ان معالجتهم جاءت خيالية وأسطورية ووفق أسس ميتافيزيقية غاب عنها المنهج العلمي الرصين،


ومع ذلك فان الباحث يحذر من الاستنتاج بان القوم كانوا بدائيين او متوحشين بل على العكس فهذه المعتقدات الدينية فرضت عليهم طاعة الإله والملك والقانون والنظام الاجتماعي وعلمتهم قيم الصدق والمودة وأبعدتهم عن الفتنة والاضطرابات وهذا ما يؤكده عالم السومريات الأميركي كريمر في كتابه المعنون «التاريخ يبدأ من سومر» الذي يقول فيه:


«كان السومريون يتمسكون بالقانون والنظام، بالعدل والحرية، بالاستقامة والصراحة، بالرحمة والشفقة، وكانوا يمقتون الشر والكذب، الفوضى والاضطراب»...


إن هذا الكتاب الذي ألفه الباحث العراقي عبد الوهاب حميد رشيد الحائز على بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة المستنصرية ببغداد سنة 1969 والدكتوراه في المجال نفسه من جامعة القاهرة سنة 1980 يعد مرجعا تاريخيا مهما يحاول تقديم عصارة الكثير من المراجع والمصادر والدراسات التاريخية التي تناولت حضارة وادي الرافدين،


يقدمها في قالب سردي هادئ ينأى به عن تلك اللغة الجافة التي تطغى على البحوث التاريخية والمعروف ان لرشيد دراسات عديدة في قضايا الاقتصاد والأمن الغذائي ومسائل التنمية ليشكل هذا الكتاب محور اهتمام آخر فرضته، ربما، ندرة الأبحاث العلمية الدقيقة في هذا المجال.


ابراهيم حاج عبدي


التعليقات