مخطوطات البحر الميت وضياع الحق العربي

مخطوطات البحر الميت وضياع الحق العربي
قبل سنوات قليلة توفي في أحد مخيمات التهجير الفلسطيني في الأردن محمد الذيب الذي عثر على مخطوطات البحر الميت في خربة قمران عام 1947، والتي عدّت حينها أهم كشف أثري من شأنه إعادة النظر في تاريخ البشرية، ومع ذلك توفي الرجل وهو يعاني من فقر مدقع ومرض لازمه سنوات طويلة، أما شريكه في الاكتشاف محمد حامد فما زال حيا يعيش الآن في جبل الخليفات ما بين مدينتي بيت ساحور وبيت لحم.


وذلك طبقا لما ذكره الإعلامي والقاص الفلسطيني أسامة العيسة في أول فصول كتابه «مخطوطات البحر الميت/قصة الاكتشاف» فما هي قصة هذه المخطوطات وما هو مصيرها ومن هم أصحابها، وما هي الحقائق الجديدة التي أتت بها ؟ كما أوردها المؤلف في كتابه هذا الذي بين أيدينا.


في التاسع من اغسطس عام 1947 كان صبيان من بدو التعامرة هما محمد الذيب «10 سنوات» ومحمد حامد «12 سنة» يرعيان الأغنام في خربة قمران، حين عثرا في إحدى المغر على لفائف من الجلد العتيق عليها كتابة ما، وهي المجموعة الأولى لما عُرف فيما بعد بمخطوطات البحر الميت، ولأن الصبيين لا يعرفا القراءة.


فقد ذهبا إلى شيخ مسلم في سوق بيت لحم أدرك أن الكتابة سريانية، وأشار إليهما بمراجعة التاجر خليل اسكندر شاهين الذي اتصل بدوره بالتاجر السرياني جورج شعيا الذي بادر بإعلام المطران مار أثناسيوس يشوع صموئيل في دير مار مرقص للسريان الأرثوذكس في البلدة القديمة بالقدس.


وقد أدرك يشوع صموئيل أن الكتابة عبرية واشتراها بمبلغ زهيد، ثم ترك القدس متوجها إلى الولايات المتحدة وفي أواسط الخمسينيات باعها تحت ضغوط عدة إلى أطراف إسرائيلية، وما إن ذاع نبأ اكتشاف هذه المخطوطات حتى بدأت أعمال التنقيب في سفوح التلال المكشوفة على البحر الميت عام 1949 واستمرت سبع سنوات.


وكانت شرعية ولا شرعية وفي عام 1960 تجمع في المتحف الفلسطيني جزء مهم من المخطوطات المكتشفة، وعكف على دراستها مجموعة مهمة من الباحثين منهم العالم الفرنسي الأب رولان ديفو الذي تُعتبر مؤلفاته حول الموضوع مرجعا أساسيا، وعالم الآثار الإسرائيلي أهارون كمبيسكي الذي قال: «إذا قبلنا بيهودية جماعة قمران، فهذا يعني بطلان اليهودية المعاصرة».


حسب الدكتور لويس حزبون تم اكتشاف مالا يقل عن 600 مخطوط، تقارب عدد صفحاته 40000 وثيقة معظمها باللغة العبرية القديمة وبعضها بالآرامية وجزء قليل باليونانية، وهي مكتوبة على أوراق البردى أو جلد الغزلان والماعز وبعضها محفور على لفائف نحاسية.


ويعود زمن تدوينها بين عامي «300 ق. م و70م» وهي تحوي على جميع أسفار العهد القديم القانونية ماعدا سفر أستير ولبعضها عدة نسخ مثل المزامير، ويبلغ طول الرق المكتوب عليه سفر أشعيا نحو سبعة أمتار وثلاثين سنتمترا، ويحتوي على 66 فصلا دُوّن في 54 عمودا بالخط المربع أو الحروف الآرامية، وهو أقدم نص للتوراة العبرية القديمة، ويشبه النص المعروف مع بعض الاختلافات.


كذلك تحوي المخطوطات على أسفار العهد القديم غير القانونية والثانوية مثل : أخنون وتهاليل ووصايا الآباء الاثني عشر ووصية لاوي المكتوبة نحو عام 100 ق. م وتُعد أقدم ترجمة يونانية، إضافة إلى كتب طائفة الإسينيين وهي «كتاب النظام» ويمثل عقائد هذه طائفة اليهودية، ولهذا السفر ملحقان : الأول بعنوان «الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلمة» ويحوي تشابها كبيرا بين صفات معلم الصلاح المفترض أنه المؤسس لهذه الطائفة وبين صفات السيد المسيح عليه السلام.


أما الملحق الثاني المسمى «وثيقة دمشق» فيتكلم عن شدائد معلم الصلاح، ويُضاف إلى ذلك سفر عن أناشيد الشكر، وتبلغ عشرين مزمورا تشبه مزامير العهد القديم، وكتب تفسيرية لسفر حيقوق وفيه ذكر للشدائد التي ستحل بالجيل الأخير نهاية العالم.


كذلك مخطوط «لاماك» والد نوح وهو مكتوب باللغة الآرامية في تسعة عشر عمودا تتضمن تعليمات إدارة الحرب بين أبناء النور والظلمة ويقدر خبراء الآثار عشرين عاما على الأقل للوصول إلى الترجمة الصحيحة لهذه المخطوطات التي تعود أهميتها إلى أنها تحتوي على أقدم نص مدون للتوراة، كشف عن اختلافات بينه والنصوص المعروفة حاليا، وهذا هو سر المخطوطات الذي جعل إسرائيل تعمل على إخفاء مضمونها.


في معرض بحثه يذكر المؤلف أسامة العيسة أنه إذا ما اختلف الباحثون حول طبيعة المخطوطات ومضمونها، فهم متفقون على أن أصحابها هم الإسينيون، وهم جماعة دينية فلسفية اجتماعية فكرية يراها البعض مستقلة، والآخرون يعتبرونها طائفة يهودية، وحسب الباحث جورج سمور: ترجع التأثيرات التي أدت إلى ظهور طائفة الإسينيين إلى القرن الخامس قبل الميلاد، عندما بدأ اليونانيون يؤثرون على حضارة ومعتقدات الأرض المقدسة، خصوصا بعد أن فتح الاسكندر ذو القرنين هذه الديار.


فانسحب المتدينون الذين عُرفوا بالإسينيين من القدس إلى قمران للحفاظ على نقائهم الروحي والديني، ونظموا المكان كمجتمع نسّاك من الكهنة والمتدينين، وكان دخول المريدين إلى هذه الجماعة يمر بمرحلة طويلة من التدريب والمراقبة، بعدها يتم القبول بعد أن يسلم المريد جميع ممتلكاته للجماعة، ومن الواضح أنهم كانوا يؤمنون بمجيء المخلص، ويُظن أنهم اختاروا قمران لقربها من البحر الميت، للإفادة من المياه المالحة في تصنيع الجلود وتعقيمها لتصبح صالحة للكتابة.


فقد تركزت الحياة عندهم على نسخ التوراة، وكانوا يعملون طوال ساعات النهار في مكتبة خاصة، فقد تم اكتشاف طاولات ومخابر وآلات كتابة عديدة، وبقي الإسينيون في قمران حتى عام 68 م، حين هجروها بعد أن خبأوا مخطوطاتهم في الكهوف المجاورة إثر اجتياح الجيش الروماني للمدينة، أما الباحث بنايوت زيدان فيرى أن الإسينيين ظهروا أصلا في مصر في عهد الفرعون أخناتون «1375-1350ق.م» وكانت لهم مراكز في الاسكندرية وفي هليبلس، وشعارهم الشمس المجنحة مازال منقوشا على بعض الهياكل الفرعونية ومن مصر خرجوا لينشروا الوعي والنور في العالم.


وقد عاشوا في مجتمعاتهم حياة تقشف وتواضع، إلى أن أحرق الإمبراطور الروماني هدريا مكتبتهم عام 132 م إلا ما استطاعوا إنقاذه، ومنذ ذلك التاريخ اختفى أثرهم من قمران والكرمل، أما نشاطهم فقد استمر في الخفاء عبر السنين في بلدان وبأسماء مختلفة، ومنهم خرج الكثير من العلماء والمفكرين والمصلحين.


انشغل كثير من الدارسين ببحث العلاقة التي تربط الإسينيين بالمسيح، ورأى البعض أن «معلم الصلاح» هو السيد المسيح، وأن الإسينيين هم المسيحيون الأوائل، وقد أورد العيسة في كتابه الكثير من الآراء ذات الصلة، منها ما سجّله بنايوت زيدان حول علاقة الإسينيين بالمياه مشيرا إلى أنهم: «كانوا مواظبين على النظافة الجسدية والنفسية، ما أدى ببعض الباحثين إلى إطلاق تسمية المغتسلين عليهم، وقد لاحظ العلماء وجود بركة ماء في قمران كان الإسينيون يتغطسون بها بما يشبه الاعتماد لدى الموعوظين من المسيحيين».


وكذلك أشار زيدان إلى : «انهم كانوا يرتبطون بقسم مقدس بأن لا يأتوا أية أعمال شريرة، وكان لهم دستور سري خاص بهم، وكانوا لدى اجتماعهم إلى المائدة يتناولون الخبز والخمر كرمز مقدس، وهو نفس الرمز المقدس الذي استخدمه المسيح على العشاء الأخير مع تلامذته» وقد أقام الإسينيين الكثير من المراكز بالقرب من حدود المدن التي يقيمون فيها لاستقبال الغرباء والمحتاجين والمسافرين، كانت تعرف لدى العامة بالمغارة.


وفي إحدى هذه المغر الإسينيية القريبة من بيت لحم، وُلد الطفل يسوع ومنذ ولادته كان تحت رعايتهم حتى نهاية قرازته العلنية واحتجابه عن العالم الخارجي، وكانوا يؤلفون الحلقة السرية أو الباطنية المعروفة بالأنبياء في وصايا الرسل الاثني عشر لكليمنس.


في ختام بحثه أكد المؤلف إجماع الدارسين وعلماء الآثار على أن تجارا ومسئولين ورجال دين قد اشتركوا جميعهم في تهريب الكثير من هذه المخطوطات إلى الإسرائيليين، وحين استكملت إسرائيل احتلالها لفلسطين سيطرت على كل محتويات المتحف الفلسطيني المعروف باسم رُكفلر، وهو متحف دولي أُسس في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان يضم علماء آثار من مختلف بقاع العالم أتوا للتنقيب والدراسات والحفريات.


وقد وجدوا مخطوطات البحر الميت في انتظارهم، وحين استولت إسرائيل على المخطوطات، ونقلتها إلى متحف إسرائيلي هو متحف الكتاب في القدس الغربية الذي يؤمه الناس من مختلف أنحاء العالم. قد خالفت بذلك أحكام اتفاقية لاهاي لعام 1954 المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وهنا يقول العيسة : كان هدفي من الكتاب ليس التذكير فقط بأهمية المخطوطات، وإنما أيضا التذكير بالحق العربي والفلسطيني الضائع الذي سلبته إسرائيل.

الكتاب: مخطوطات البحر الميت

الناشر: دار قدمس ـ دمشق 2003

الصفحات: 184 صفحة من القطع الكبير
(تهامة الجندي- عن "البيان")

التعليقات