"نساء نوبل": العبقرية رديفة العزلة والمرض/ شوقي بزيع

-

يحرص الكاتب المصري خالد غازي في مقدمة كتابه "نساء نوبل" على التوضيح بأنّ الغاية من الكتاب ليست مجرد التفرقة بين الرجال والنساء الذين فازوا بالجائزة، ولا رغبة في تقسيم الكتاب وفق جنسهم، بل هي محاولة الوقوف على القواسم المشتركة بين المبدعات اللواتي استطعن الحصول على هذه الجائزة العالمية الكبرى في مجال الأدب.

وحسنًا فعل المؤلف في ردّ الغاية من الكتاب إلى تتبع الخلفيات والظروف التي أتاحت لتسعٍ من كاتبات العالم أن يخرجن إلى الضوء ويشاطرنَ الرجالَ نعمة الاعتراف "الذكوري" بمواهبهنّ الأدبية، لا إلى أي شيء آخر. فالحديث عن كتابة نسوية وأخرى ذكورية يُخضع الأدب لاعتبارات خارجة عن طبيعته، ويفتح الباب أمام نوع من التمييز الذي قد يتعدى الجنسانية ليطاول العرق واللون والجغرافيا وغير ذلك من التقسيمات. ونحن نعلم أنّ الكتابة في جوهرها تتجاوز الفروق الجنسية والعرقية والطبقية بين البشر، لتصهر الجميع في مادة الخلق وأتون التجربة الإنسانية الواسعة.

أول ما يلفت في كتاب "نساء نوبل" هو عنوانه بالذات. فالمؤلف يدرك انشداد القارئ الفطري إلى كل ما يتصل بالأنوثة بوصفها مصدرًا للعطاء والإلهام وتجديد الحياة على الأرض. ولأنّ القارئ قد اعتاد فكرة كون المرأة مُلهمة للرجل ومحرضة له على الخلق والإبداع، لا خالقة ومبدعة بحدّ ذاتها، فإنّ العنوان يثير لديه الكثير من الفضول والرغبة في اكتشاف الجانب الفاعل والجريء من المرأة. فحصول المرأة على أعظم جوائز العالم المعاصر وأبعدها شهرة وتأثيرًا هو تأكيد تميّزها وقيمتها الإنسانية، وبخاصة في هذا الزمن الذي ينخره التسوّس والفساد وتثقله المنفعة المادية وقيم الاستهلاك، وتتحول المرأة فيه إلى سلعة جمالية محضة في بورصة العرض والطلب.

ومع ذلك فإنّ المؤلف يلاحظ عن حق أنّ عدد النساء اللواتي حصلنَ على نوبل للآداب هو أقل بكثير من عدد الرجال، بما يؤكد الطبيعة الذكورية لمانحي الجائزة والمقيمين عليها حتى لو كان هؤلاء ينتمون إلى الأكاديمية السويدية، أو إلى واحدة من أكثر دول العالم تطورًا وانفتاحًا. قد يكون المؤلف محقًا في ملاحظته تلك، ولكنه مع ذلك لم يقدم المسوّغات الكافية لتفنيد آرائه والوصول بها إلى نهايتها المقنعة، فالكل يعلم أن التمييز ضد المرأة لا يقتصر على الدول المتخلفة ومجتمعات العالم الثالث فحسب، بل يتعداه إلى الدول المتقدمة، حيث مشاركة المرأة في الحياة السياسية وقيادة المجتمع ليست على قدم المساواة مع الرجل، وإن كانت تتقدم باطراد وتحقق قفزات ملحوظة في هذا السياق.

وإذا كان الإبداع يتطلب مساحة هائلة من الحرية الفردية وكسرًا جذريًا للممنوعات و"المحرمات" المسبقة، وإخراجًا للاوعي من سراديبه وكهوفه، فإن المرأة بالتالي لم تنعم، على رغم كل المظاهر الخادعة، بالشروط الإنسانية المواتية للخلق والابتكار والنص التجاوزي. لذلك فإنّ اختلال التوازن في نسب الحصول على نوبل لا يمكن أن نرده إلى الأشخاص القيمين على الجائزة وحدهم، بل إلى الشروط الموضوعية المحيطة بالنساء، والتي تمنع مواهبهنّ من التفتح في أرض ملائمة.

لقد لاحظ خالد غازي من جهة أخرى أنّ معظم الحائزات على نوبل للآداب ينتمين إلى القارتين الأوروبية والأمريكية، وأنّ واحدة فقط هي نادين جورديمر تنتمي إلى جنوب أفريقيا، وهي بدورها تتحدر من أصل أوروبي، في حين أنّ أيًا من النساء الآسيويات والأستراليات لم تحظَ بنعمة الجائزة. وإذا كان المقصود من التساؤل هو الإشارة إلى الطبيعة الغربية، وغير المنصفة تمامًا للجائزة، فذلك الأمر يبدو واضحًا تمامًا للعيان، لأنّ السويد لا تقع على حدود اليمن أو نيبال، بل هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الغرب، ومركزيته الاستعلائية.

كما أن ألفرد نوبل لم يخرج بدوره من أدغال كينيا أو سواحل عمان بل هو سليل حضارة الفايكانغ الذين ينظرون باستعلاء لا إلى دول العالم الثالث فحسب، بل إلى جنوبي القارة الأوروبية التي ينتمون إليها. ثم إنّ المؤلف نفسه لم يُشِر إلى الأسماء النسائية الآسيوية والأفريقية التي حُرمت من الجائزة على رغم استحقاقها لها، كما فعل على سبيل المثال مع أسماء ذكورية من وزن نزار قباني وأدونيس والعقاد والجوهري وطه حسين.

ليست هذه المقالة دفاعًا عن جائزة نوبل بأيّ وجه، بل دعوة إلى المزيد من التأمل ومعرفة النفس، وإلى التخلي عن جلد الذات والشعور الدائم بالعجز والنقصان والميل الدائم إلى اتهام الآخر وتخوينه والظن به. فقد جهد المؤلف في إثبات النظرية القائلة بسيطرة اليهود على الجائزة استتباعًا لسيطرتهم على العالم. وقد يكون هذا الزعم مبررًا في العديد من الجوانب الاقتصادية والسياسية، ولكنه على المستوى الثقافي يحتاج إلى إثبات، خاصة وأنّ المؤلف لم يميّز بين اليهودية كدين سماوي معترف بقيمته الروحية والإنسانية، وبين الصهيونية كحركة سياسية عنصرية.

فاليهود الذي حصلوا على نوبل لم يحصلوا على الجائزة بوصفهم يهودَ، بل بوصفهم أدباء وعلماء منخرطين في الحضارة الغربية ومنصهرين في بوتقتها الواسعة. وإذا كان علينا أن نشكك بكل ما هو يهودي فالحريّ بنا أن نوسع الدائرة أكثر لنشكك بكارل ماركس وسيغموند فرويد وألبرت أنشتاين وغيرهم من عباقرة العالم وعلمائه ومبدعيه. كل ذلك بالطبع لا ينفي عن الجائزة وقوعها في الشطط والاستنسابية وسوء الاختيار، وهو ما دفع العديد من أعضائها إلى الاستقالة ومن الحائزين عليها إلى الامتناع عن قبولها.

على أنّ أهم ما في الكتاب، في رأيي، هو محاولة المؤلف الموفقة في إظهار العلاقة الخفية التي تجمع بين شخصيات كتابه النسائية وما عانينَه جميعهنَّ من أمراض نفسية وإحساس بالعزلة وشعور عارم بالقهر.

فالنوبلية الأولى سلمى لاجيرلوف، وهي من الجنسية السويدية، وقد حازت الجائزة عام 1909، وأصيبت منذ كانت في التاسعة من عمرها بشلل في الساقين أقعدها عن مزاولة أية حركة ودفعها إلى الشعور المضني بالوحدة والعجز؛ والإيطالية غراتسيا داليدا عاشت هي الأخرى حياة الكبت والعزلة والتقاليد البالية في جزيرة سردينيا، الأمر الذي دفعها إلى الزواج من الرجل الذي ارتضى أن ينقلها إلى روما ويفتح أمامها طريق الحرية؛ والنرويجية سيغريد أندسيت عانت منذ طفولتها من اليتم والفقر والعوز الشديديْن؛ والأمريكية بيرل بك لم يثمر زواجها الفاشل سوى عن ابنة وحيدة مصابة بالقصور العقلي، الأمر الذي أدى بها إلى الطلاق والعزلة؛ والتشيلية غابرييلا ميسترال ظلت تكتب لطفل لن يقدر لها أن تنجبه بعدما انتحر الشاب الذي وهبته حبها الوحيد دون طائل؛ والألمانية نيللي ساخس تأثرت هي الأخرى بوفاة خطيبها الشاب وتعرضت لاضطهاد من قبل النازية؛ والأمريكية توني موريسون عانت من التمييز ضد السود وعاشت، كما أبطالها، في ظل المناخات الكئيبة والمفتقرة إلى التوازن؛ والبولونية فيسلافا شيمبورسكا ظلت طوال عمرها وحيدة بلا زواج، ما ولّد في داخلها إحساسًا عارمًا بالتوحّد والنفي؛ والأفريقية نادين غوديمير لم تستطع وهي البيضاء أن تغفر لنظام الفصل العنصري إمعانه في قهر السود وإذلالهم.

إن السؤال الأهمّ الذي يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يستحضر نساء نوبل الأديبات هو ما إذا كانت الأكاديمية السويدية قد تعاطفت مع المعاناة الإنسانية المفجعة لهؤلاء النسوة، أم مع نتاجهنَّ الروائي والشعري. وهذا السؤال يكتسب مشروعية أكبر إذا ما عرفنا أن معظم الأسماء التي بين أيدينا قد آلت إلى النسيان، أو هي في طريقها إليه، باستثناء قلة قليلة من أمثال ميسترال وموريسون ونورديمير.

(بيروت)

التعليقات