حميد سعيد: يعيش بالشعر، وبه يرفع عاليا مجد انتمائه../ رشاد أبوشاور

مع حميد سعيد، وأنت تجالسه، أو تقرأ شعره، يحضر نخيل العراق، ودجلة والفرات، جلجامش وأنكيدو و..حمورابي، و أشور بانيبال، و..السيّاب...

حميد سعيد: يعيش بالشعر، وبه يرفع عاليا مجد انتمائه../ رشاد أبوشاور
هذه ليست مقدمة، فحميد سعيد الشاعر الكبير أكبر من أن يقدمه أحد.
هذه كلمة حب أتاحها لي الصديق هشام عودة، الشاعر والكاتب والإنسان النبيل الوفي، الذي شرب من مياه دجلة، وتنفس هواء بغداد، وتفيّا نخيل العراق، وقرأ أبجدية سومر. وإذا كان قد اضطر للرحيل عن بغداد عندما اقتحمها الأمريكان وعملاؤهم، فقد حمل في روحه حبّا لا يمكن للبعد عن بغداد أن يمحوه، هو العربي الفلسطيني الذي تداخلت فلسطينيّته وعراقيته في بحر عروبة لا حدود لها، ولا أفق يحدها، ذلك أنها أكبر من الزمن الطائفي، ومن حقبة الاحتلال التي رغم مرارتها ستكون عابرة في تاريخ العراق العظيم، فقد سبق واحتُّل العراق، ولكنه نفض الاحتلال، ونهض ليأخذ دوره من جديد، وليشكّل المدد لأمته ، قوّةً مادية ومعنوية وثقافيّة، وأصالة.
 
حميد سعيد، الصديق الذي استقر مؤقتا في عمان، بعد أن أحرق المحتلون الغزاة قلب بغداد، وسرقوا متاحفها، وتراثها، وسبوا أوابدها، يعيش مع العراق في كل لحظة، فتراه ساهما وأنت تجالسه، فتجد لزاما عليك أن تصمت، فلا تزعج تواصله الروحي مع العراق بناسه ونخيله وفراتيه، وشعره، وغنائه الجريح، ومقاوميه البواسل، وآله أجمعين الذين هم عائلته الكبيرة، هو الأكبر من الطوائف ثقافةً، وانتماءً، وعراقا.
 
منذ التقيته، لا أدري متى، ونحن أصدقاء. قرأته شاعرا، وناثرا، وقلبا نبيلاً، وكفين مفتوحين مرحبين بكّل عربي يؤم العراق مشاركا في ملتقى، مؤتمر، لقاء تضامني، قبل الحرب الإجراميّة التدميريّة، وإبّان الحصار الرهيب.
 
هو شاعر كبير قبل الاحتلال، وبعد الاحتلال، فلم يكبر بالوظيفة، ولا لأن الحزب الذي ينتمي له يقود العراق، فهو نأى بنفسه عن المناصب، وحين شغل بعضها كان يتركها في غرفة مكتبه، ويتركها لغيره حين يتخلّى عنها برغبته، فالشعر عنده هو الأبقى، به يحّب العراق، وينتمي للعروبة، وينشئ صداقة مع عرب ينتشرون من المحيط إلى الخليج، تجمعهم لغة الضاد، وهموم الأمّة، والهجس بسؤال حريّة فلسطين، ووحدة ونهوض أمة العرب.
 
حميد سعيد شاعر كبير، آمن بالشعر، وسخّر حياته للشعر، حتى وهو يكتب المقالات في الصحافة العراقيّة، والعربيّة، مشرقية ومغاربيّة.
 
راهن على شاعريته، ونمّاها، فهي جوهر حياته، ومعناها، وهو بالشعر رفع عاليا كل ما يؤمن به من قضايا كبيرة تستدعي شعرا كبيرا، عميقا، أصيلاً.
 
عرفته شاعرا على صفحات الآداب، وتابعت منجزه الشعري على مدى سنوات تمتّد حتى يومنا، وإلى زمن آت سنلتقي فيه ببغداد الحبيبة.. وفي القدس.. لم لا؟!
 
 كلما التقيته في بغداد، كنت أتيقن، في كل مرّة، أن حميد سعيد يشبه شعره تماما. إنه يتوغل في الصمت، وكأنه في مونولوغ داخلي، ثمّ بهدوء يدخل في الجلسة، يتواصل مع الحضور، وبهدوء ونبل يتحمّس لفكرة فتتوهج نظراته، فإن سفّ الكلام، اعتصم في نفسه، ونأى عمّا يسمع من كلام عديم الجدوى. حميد سعيد مترفّع عن السفاسف، والحرتقات، والتعصّب، وهو مُحّب، وهذه أخلاق المحبين الكريمة.
 
لمّا التقينا في عمّان بعد احتلال بغداد، وجدته أميل للصمت. لم يظهر عليه الانكسار، ولم يتحدث عن بغداد وكأنها مضت بعيدا. لأنه مؤمن ببغداد، والعراق، وبشعب العراق، ولذا فبغداد حيّة كالحلّة، كالبصرة، كالموصل، كبابل، كالفلّوجة.. وهي تحضر شعراء، قصاصين، روائيين، شخصيات مناضلة صلبة شريفة، وشخصيات شعبيّة، وحميد مترع النفس بأصالة أولئك الناس العراقيين في بغداد والحلّة مسقط رأسه، وكل جهات العراق.
 
مع حميد سعيد، وأنت تجالسه، أو تقرأ شعره، يحضر نخيل العراق، ودجلة والفرات، جلجامش وأنكيدو و..حمورابي، و أشور بانيبال، و..السيّاب...
 
التقيه بين وقت وآخر، فنكمل كلاما لا ينقطع، والكلام مع أبي بادية حوار، وتأمّل، ديالوغ بين نفوس تأتلف في حب الوطن، فلسطين والعراق ولبنان، و.. كل وطن عربي موجوع، مقاوم.
 
هو مسكون بالقصيدة التي لا تموت بعد المناسبة، ولذا فهو لا يكتب شعر مناسبة، وهو من أبعد شعراء جيله عن شعر المناسبة، وشعره أقرب إلى الهمس، ومراثيه بعد الاحتلال كأنما تأتينا من زمن سومر.
 
 حميد سعيد يحمل في داخله العراق العريق. منه يمتح شعرا دراميّا تراجيديّا، يليق بعظمة العراق، ومقاومته، وحتمية نهوضه.
 
إنه لا يكتب شعرا حماسيا مجانيا صاخبا، بل يكتب شعرا يجري كما يجري الفراتان، فيروي ظمأ النفس، ويقيها غائلة الجفاف، واليباس، والانكسار.
 
شعر حميد سعيد يسند الروح، ينهض بها، يشيلها من عثارها، ويلهمها، ويسندها وهي تمضي في الهاجرة، ولذا نتساءل: من أين للشاعر في ( غربته) - أحسب أنه لا يرى نفسه غريبا فعراقه في صميم روحه - في نأيه عن بغداده، وحلّته، وبصراه.. كل هذه الصلابة وقوّة الروح؟!
 
الثقافة، ثقافة العراق وعراقته، وثقافة حميد سعيد الأصيلة الواثقة التي ترى حركة الحياة في اندفاعات أمواج دجلة والفرات، وفي نهوض شعب العراق من كل كارثة على مدى القرون، وتجاوزه لكل المحن، فتموز الأسطوري عراقي، وهو يعود من الموت في كل عام، وهذا ما نسيه المُحتلون الغزاة، وأدواتهم الساقطة الجاهلة.
 
من قرأ حميد سعيد شاعرا، وقد قرأه كثيرون في بلاد العرب، في المشرق والمغرب، سيتعرف أكثر على حميد سعيد الشاعر، على رؤيته، وأسرار شاعريته، وعلى إنسانيته، وترفعه، وكبريائه، في هذا الحوار الممتّد الذي أجراه معه صديقه، وصديقنا، الشاعر والكاتب والصحفي هشام عودة.
 
هشام عودة بهذا الحوار الغني، يقدّم درسا لمحرري الصفحات الثقافية المستعجلين في بلاد العرب، والذين يوجهون أسئلة يفترضون أنها ( حوار) في حين أنها تدل على جهلهم، وخفّتهم، وسعيهم لتعبئة الصفحات بغثاء الكلام.
 
هشام عودة أجرى حواره الممتد مع شاعرنا الكبير على مدى جلسات، أخذت منه ساعات في الإعداد، والحوارات، وإعادة الكتابة، والمراجعة مع الشاعر الكبير.
 
المقهى الذي أدار في فصول الحوار، بيت القمح، أجلس فيه مع الصديق أبي بادية، وهو مكان أليف، ليس صدفة أن اختاره من بين مقاه كثيرة لبعده عن الضجيج، ولأنه يمنحه التواصل مع الأصدقاء، ويمكنه من قراءة صحف الصباح مع فنجان قهوته، و..التأمل والسرحان في عوالم ربما يكون هذا الحوار قد كشف بعض الجوانب منها.
 
استجاب أبوبادية للتحاور مع هشام عودة عن معرفة، وثقة، واحترام، وبهذا بُني الجسر الذي تواصلا عليه، وقدما بفضله حوارا يضيف لحميد، ولهشام.، ولنا معشر القرّاء، لجديته، وصدقه، وعمقه.
 
هذا الكتاب- الحوار، يأخذ القارئ إلى لقاء تعارف عميق مع واحد من ألمع شعرائنا العرب المعاصرين، فنخرج وقد ألفناه، وصادقناه، وتعرفنا بشعره، وفكره، وثقافته، وتجربته.
وأخيرا: لا بدّ من شكر صديقنا الشاعر والصحفي هشام عودة، فقد أضاء تجربة ورحلة الكبير حميد سعيد.
 
--------------------
 
 
* كتبت هذه الكلمة لكتاب ( الشمعة والدرويش: حميد سعيد يتحدّث)، وهو حوار مطوّل أجراه الشاعر والصحفي هشام عودة مع الشاعر العربي الكبير حميد سعيد.
* نُشرت في ( الدستور) الأردنية بتاريخ 15 نيسان 2011

التعليقات