الكتاب الخزري: الرد والدليل في الدين الذليل

تكمن أهمية هذا الكتاب القصوى في قضايا على صعد عدة: تاريخيًا - لمجرد الانتهاء من كتابته في العام 1140م وتأليفه في فترة عصيبة إسلاميًّا وحروب الفرنجة المتتالية؛ وعلى صعيد الجدل بين الدين والفلسفة - إذ يعتبر هذا المؤلَّف من أكثر الكتب اليهودية التي حاولت محاججة الفلسفة والعلوم الطبيعية واستخدامها لتعزيز العقيدة الدينية والإيمان اليهودي، من ناحية، ورفض فرض العقلانية القائمة على أسس الفلسفة والعلوم الطبيعية على الدين بعامة والشرع بصورة خاصة، من ناحية أخرى؛ ويهوديًا - وصفه أحد أهم حاخامات اليهود في العصر الحديث الملقب بـ"هغاؤون": "إنَّ كتاب الخزري يعتبر ركيزة من ركائز العقيدة اليهودية لا بل تستند العقيدة اليهودية إليه بصورة عظيمة"، إذ يجمع الكتاب ويوفق بين طرفي الهوية اليهودية، الطرف العلماني الإثني والطرف الديني، بحيث ينسجما معًا ولا يتناقضان البتة

الكتاب الخزري: الرد والدليل في الدين الذليل

نشرت منشورات الجمل في الأسابيع الأخيرة كتابًا كلاسيكيًا للشاعر اليهودي الأندلسي يهودا اللاوي (ت 1141م) يحمل العنوان: "الكتاب الخزري: الرد والدليل في الدين الذليل"، المكتوب بالأصل باللغة العربية بالحرف العبري، وقد نقله إلى الحرف العربي وهذّبه وعلّق عليه الباحث نبيه بشير بمساندة الشاعر والباحث عبد السَّلام موسى. 

يتكوّن الكتاب من 725 صفحة من القطع الكبير، يشمل إضافة إلى النص: مقدمة ومقالة للباحث إيهود كرينيس وفهارس مفصّلة وملاحق وقائمة بالمصادر.

يعتبر هذا المؤلَّف نصًّا في الفكر الديني الجدلي انتهى مؤلِّفه من كتابته في نهاية ثلاثينيات القرن الثاني عشر الميلادي. وردت في الكتاب العديد من الألفاظ العربية اليهودية والعربية المحكية المنتمية إلى لهجات معينة. 

يستند هذا المؤلَّف إلى هدف مركزي أساس وهو الردّ على المسيحية، التي لا تنفك مصادرة اليهودية ومكانة اليهود الرفيعة لاهوتيًا، وعلى الإسلام الذي ينسخ الشريعة اليهودية ويتّهم اليهود بتحريفها. وعلى ما يبدو، فإن أحد أهداف الكاتب المحورية التي تقف خلف ضرورة الكتابة بشأن الصفوة، كأحد المحاور الأساس لهذا المؤلَّف، هو توفير جواب ضدّ الادعاء المسيحي والإسلامي بشأن البداء والنسخ، كجزء من مسعى الكاتب إلى تعزيز العقيدة اليهودية ومكانة اليهود السامية، بوصفهم أفرادًا وجماعة إثنية، وإعلاء مكانة بلاد الشأم أرض النبوّة كموطن اليهود الحصري. 

احتل الّلاوي مكانة عظيمة في الوعي اليهودي منذ ظهوره على ساحة اليهود في الأندلس ومصر وبصورة خاصة بوصفه شاعرًا، ومتعصّبًا لانتمائه اليهودي ونشاطه الاجتماعي لخدمة الطائفة اليهودية، ثانيًا؛ وذاع صيته لاحقًا بفعل دفاعه الصريح عن فكرة أنَّ الشريعة اليهودية هي الحاملة للحقيقة الإلهية حصرًا، ثالثًا، وأنَّ شعب إسرائيل هو شعب الصفوة الذي يتمتّع بخصائص إلهية أو فوق طبيعية، أخيرًا، كما عبَّر عن ذلك في كتابه "الخزريّ" وأشعاره الدينية وغير الدينية. 

تكمن أهمية هذا الكتاب القصوى في قضايا على صعد عدة: تاريخيًا - لمجرد الانتهاء من كتابته في العام 1140م وتأليفه في فترة عصيبة إسلاميًّا وحروب الفرنجة المتتالية؛ وعلى صعيد الجدل بين الدين والفلسفة - إذ يعتبر هذا المؤلَّف من أكثر الكتب اليهودية التي حاولت محاججة الفلسفة والعلوم الطبيعية واستخدامها لتعزيز العقيدة الدينية والإيمان اليهودي، من ناحية، ورفض فرض العقلانية القائمة على أسس الفلسفة والعلوم الطبيعية على الدين بعامة والشرع بصورة خاصة، من ناحية أخرى؛ ويهوديًا - وصفه أحد أهم حاخامات اليهود في العصر الحديث الملقب بـ"هغاؤون": "إنَّ كتاب الخزري يعتبر ركيزة من ركائز العقيدة اليهودية لا بل تستند العقيدة اليهودية إليه بصورة عظيمة"، إذ يجمع الكتاب ويوفق بين طرفي الهوية اليهودية، الطرف العلماني الإثني والطرف الديني، بحيث ينسجما معًا ولا يتناقضان البتة بل ويكمّلان الواحد منهم الآخر.

أما مقالة الباحث كرينيس فتتقصّى التأثيرات الإسلامية وخاصة تلك الشيعية على فكر اللاوي؛ أما على صعيد الفكر الديني - يعتبر الكتاب من أهم المؤلَّفات اليهودية على الإطلاق الذي بنى بناءً اصطلاحيًا لتفسير اليهودية كدين حصري لفئة عرقية بعينها ومكانة اليهود بين الشعوب وتأويل النصّ الديني لخدمة الأهداف المعنوية والسياسية والثقافية اليهودية.

وبدون مبالغة نقول إنَّ جميع المؤلَّفات اليهودية التي ظهرت بعد العام 1140م، أي بعد انتشار هذا الكتاب إلى يومنا هذا، لم تنجح في الإفلات من قبضته وشدّة تأثيره البالغة. وعربيًا - فإنَّ قراءته بلغته العربية الأصلية تشير بصورة جلية إلى الانتحالات والاستعارات والتأثيرات الإسلامية عمومًا على صياغة العقيدة اليهودية التي يعتمدها الكاتب. ومن الجدير بالإشارة إلى أنَّ مثل هذا العمل، إلى جانب أعمال أخرى، يهودية ومسيحية، قد تناولت وحفظت بعض جوانب ذلك التعدّد والتناغم وعكسته بصورة كبيرة لعدم "مشاركتها" في حملة بعض علماء الدين ضدّ التعدّدية الثقافية التي حظيت بها الحضارة العربية الإسلامية على مدار قرون طويلة. وعربيًا - فبالرغم من نقل هذا المؤلَّف إلى لغات أوروبية عديدة منذ القرن السابع عشر وحتى يومنا إلاّ أنه لم يصدر قط بالحرف العربي.

إنَّ مجرد نقله من لغته الأصلية إلى لغة أخرى من شأنه أن يسلخه من التربة التي تغذّى منها ويعرضه بصورة مجرّدة أكثر أو منغمسة بثقافة اللغة المنقول إليها. ولكن قراءته باللغة العربية تعيده إلى مجاله الحيوي وتضفي عليه دلالات ومعان أصيلة منسجمة مع بيئتها وسياقاتها التاريخية والثقافية وتتناغم مع التراث الديني والفلسفي. وصهيونيًا - فقد نظر بعض اليهود المحدثين منذ نشوء الحركة الصهيونية إلى تأثّر مؤلِّف الكتاب بمفهوم "التاريخ" الجديد الذي أتى به الفرنجة (الصليبيّون)، ويتلخّص في تعبير "التاريخ المقدّس"، ذلك التاريخ القائم على يقين طائفة المؤمنين بشدّة معرفتهم بالخطط الإلهية وأنهم هم من أوكلت إليهم مهمة تنفيذها. ويعتقدون، وإن كان بصورة غير صريحة، أنَّ هذا المفهوم الجديد للتاريخ يقوم في صلب هذا المؤلَّف. ويقول حسن حنفي بهذا الصدد "كان يهودا اللاوي بحق المؤسّس الأول للصهيونية في العصر الوسيط الأوروبي".

وهناك من وازن بين أهمية ودور الفيلسوف هيردر في بلورة القومية الألمانية منذ نهاية القرن الثامن عشر وبين أهمية ودور الّلاوي في بلورة الصهيونية، إضافة إلى القول بأنه "الفيلسوف العرقي الأول في العصر الوسيط".

كذلك، تقع إحدى الترجمات الحديثة للكتاب ضمن منهاج التدريس في المدارس اليهودية في إسرائيل وخارجها، العلمانية منها والدينية على حد سواء، وحتّى للأطفال إذ تمّ كتابة قصّة قصيرة للأطفال مستوحاة منه، وفي الدراسات العليا في الجامعات، كدليل على أن الكتاب من الشواهد على أنَّ الفكر الصهيوني كان فكرًا كامنًا على الدوام وسائدًا بين اليهود في جميع العصور، وأنه يؤسّس لبناء الهُوية اليهودية والصهيونية ويفرض انسجامًا تامًّا بين طرفي الهوية اليهودية، الدينية والإثنية عبر تفسير التراث الديني من جهة، والتحليل التاريخي من جهة أخرى، ويفرض ربطًا وثيقًا بين الأرض والتراث الديني والشعب.

وأخيرًا شاعت أهمية الكتاب في الحركة الصهيونية، ونكتفي بذكر ما جاء على لسان "الشاعر القومي" الصهيوني اليهودي حاييم نحمان بياليك: "لقد كان الحبر يهودا الّلاوي الباحث الأول الذي أسّس الفكرة القومية حين شدَّ الوثاق بين المضمون القومي والصورة القومية، أي الأرض واللغة والفرائض، إذ لا يمكن تصوير الواحد من دون الآخر". 

ولا بدّ هنا من كلمة أخيرة لنصرة هذا المؤلَّف. إنَّ أكبر جناية ارتكبت بحقّه هو احتضان الحركة الصهيونية له ومصادرته وتأويله تأويلاً قوميًا حديثًا وتحويله إلى منشور عرقي وحجّة وشعار لتغذية نزعات سياسية شوفينية عرقية تدعو إلى التفوّق العرقي البيولوجي لفئات بشرية على أخرى، خصوصًا وأنَّ الحركة الصهيونية ظهرت في أجواء أوروبية لم تخجل من طروحاتها العرقية ومن تقسيم البشر إلى أعراق البتة.

وكما يبدو، فقد استشرف الكاتب بوقائع المستقبل وإن كان بعيدًا جدًا عن عصره حين وضع القول التالي في فم مُناظِرِه ردًّا على قول الحبر: "فنسبتنا من الله أقرب منها لو كان لنا ظهور في الدنيا"، فيجيبه الخزريّ: "ذلك كذلك لو كان تَواضُعكم اختيارًا، لكنّه اضطرار، وإذا أصبتم الظَّفَرة قتَلتم".

يتضمن الكتاب مقدمة ومقالة "المشارب العربيّة للكتاب الخزريّ" للباحث إيهود كرينيس وخمس مقالات للمؤلِّف تطرح مواضيع متعدّدة، تأتي جميعها لتعزيز العقيدة الدينية والإثنية اليهودية وتدافع عنها في وجه العقيدتين الإسلامية والمسيحية والفلسفة وعلومها الطبيعية وعلم الكلام الإسلامي وفئة القرّائين اليهودية.

يتبنّى الكتاب صورة الحوار الأفلاطوني ويستعين بالعديد من المفاهيم الفلسفية والإسلامية والعلمية التي كانت سائدة آنذاك. 

التعليقات