الشاعر كما هو: رامبو نموذجا/ خيري منصور

سامي مهدي في التمهيد لدراسته أن رامبو كالمتنبي، كلاهما ملأ الدنيا وشغل الناس، لكن من خلال بيئتين ثقافيتين واجتماعيتين، وهو محق في ذلك لأن مصرع المتنبي أدخله أيضا في ملكوت الأسطورة، وكذلك كبرياؤه الرُّواقي الذي لا يستقيم مع مديح كافور أو السّعي من أجل الولاية.

الشاعر كما هو: رامبو نموذجا/ خيري منصور

آرثر رامبو

ما كان لكتاب جديد صادر بالعربية عن الشاعر آرثور رامبو أن يستوقفنا بسبب ما عانيناه من التخمة المتعلقة بسيرة الشاعر والقرائن المصاحبة لحياته مقابل شح المقاربات الجمالية لولا أن مؤلف الكتاب هو شاعر عربي عرفته عن قرب وأعلم أنه مثقف عصامي تعلّم الإنجليزية والفرنسية بجهد ذاتي، وأصابتني منه عدوى الدّقة والمثابرة أو ما كان يسميه البُلَغاء العرب التحكيك.


سامي مهدي من بين عدد من شعرائنا الذين يستحقون إنصافا نقديا، لأنهم قُرِئوا في سياقات أيديولوجية أدى فيها التعميم السياسي إلى التعويم النقدي. فهو شاعر حديث بالرؤيا أولا، وليس على طريقة ما سمته الناقدة خالدة سعيد بعثرة العمود، وهو أيضا من أكثر شعراء جيله ميلا إلى التكثيف، إلى حدّ يتاخم التقشّف أحيانا، وسبق له أن قدّم دراسة عن الشعر العربي وبالتحديد عن رافده العراقي في السّتينات، ذلك العقد الفريد في القرن الماضي من حيث شهوة التجريب، التي شملت كل محاولات الحياة في العالم كلّه، وفي كتابه عن رامبو محاولة جادة لما يسميه فكّ الإشتباك بين رامبو الشاعر ورامبو الأسطورة، فما علق برامبو من الروايات يندرج في خانة ما يسمى أسطرة الواقع وإضافة أجنحة مُتِخِيّلة تجعل الشاعر خارج سطوة الجاذبية للواقع كما هو. وهذه مناسبة أيضا للقول أن فك مثل هذا الإشتباك بين الشاعر والأسطورة هو بمثابة تعليق جرس لا يخلو من مجازفة، لأن هناك العشرات غير رامبو تعرضوا لهذه الأسطرة ومنهم شعراء عرب لا يزال الاقتراب من الحدود الإقليمية لنصوصهم محظورا.


وسامي مهدي أعد لمحاولته هذه ما يليق بها من منهج وأدوات سواء من خلال أهم ما كُتب عن رامبو بالفرنسية أو من خلال قراءات أخرى متعلقة بالموضوع ذاته، لكن هذه المحاولة كما يشي بها عنوان الكتاب في إطار ثنائية حاسمة هي الحقيقة والأسطورة لا تنال من شعرية رامبو ومن موهبته اللتين يقر بهما الشاعر مهدي منذ السطر الأول، وجوهر المحاولة هو تقشير الأسطورة طبقة بعد أخرى بحثا عن اللب، وهو أن رامبو شاعرٌ ولا شيء آخر، وهذا ما عبّر عنه ذات يوم يوجين يفتشينكو حين قال إن الشاعر هو حاصل جمع نصوصه وذلك بعد أن كان يفتشينكو ذو القامة المسرحية والأداء التمثيلي في القائه قد أدرك أن نصوصه سوف تخسر الكثير إذا قُرئت عزلاء من هذه المَسْرَحَة لكن بالتأكيد هناك من يتضررون من مثل هذا التقشير سواء كان لطبقات الطلاء الإعلامي أو للأسطورة التي تنامت حول الشاعر، فمن كتبوا عن رامبو بالعربية ساهموا في إضافة قشور أخرى للأسطورة خصوصا من اعتنوا بالشاعر لا بشعره تماما كمن يعتني بالطائر ويكسر بيضه في العش، وإذا كان الناقد غراهام هيو يقول لا تثق بالقاص بل ثق بالقصة، فإن هذه المقولة قابلة للتأويل في الشعر أيضا، فلا تثق بالشاعر وثِق بالقصيدة، لأن ما يقوله الشعراء حول أنفسهم وخارج نصوصهم يبقى في نطاق آخر. إن رامبو كما هو شاعر أنجز قصائد باقية لكن منها ما هو مدين للأسطورة خصوصا تلك الروايات التي شاعت بعد موته ومنها روايات أخته ايزابيل، وهنا نتذكر للمثال فقط أن رامبو في لحظات احتضاره رفض الطقس الديني المتعلق بالاعتراف وقال لأخته أنه سيكون شأن كل الموتى عاجزا عن الدفاع عن نفسه، وما أراه هو أن تحليلا كالذي قدمه الشاعر مهدي هو في نهاية المطاف دفاع عن رامبو الشاعر وعزل منجزه الابداعي عن كل الشوائب الاجتماعية والسايكولوجية والجنسية بالتحديد، ففي معظم ما كتب عن رامبو بالعربية حظيت علاقته الشاذة بفيرلين بأضعاف ما حظي به أي نص من نصوصه الشعرية، لهذا عرف القارىء العربي عن رامبو وبودلير من حيث السيرة ومغامرة الحياة أكثر مما عرفوا من إبداعهما، ولعلّ هذا ما دفع ناقدا عراقيا هو يوسف نمر ذياب ذات يوم إلى إطلاق مقولة لا تخلو من طرافة، حين شاهد عددا من الشعراء الشباب يتقمصون سيرة رامبو ومنهم من قلّده في عدم الاغتسال أو ما كان يسميه رامبو تربية القمل في شعر الرأس، قال يوسف ذياب: “لكم الحق في أن تفعلوا بأنفسكم ما تشاؤون شأن رامبو أو بودلير أو حتى غنزبرغ، لكن اكتبوا شعرا”.


يقول سامي مهدي في التمهيد لدراسته أن رامبو كالمتنبي، كلاهما ملأ الدنيا وشغل الناس، لكن من خلال بيئتين ثقافيتين واجتماعيتين، وهو محق في ذلك لأن مصرع المتنبي أدخله أيضا في ملكوت الأسطورة، وكذلك كبرياؤه الرُّواقي الذي لا يستقيم مع مديح كافور أو السّعي من أجل الولاية، فالمتنبي رغم عمق موهبته وأهمية منجزه الشعري كان يرى أن فؤاده ينتسب إلى أفئدة الملوك وأن لسانه هو من عالم الشعراء، وتلك بالطبع حكاية لها مقام آخر، رامبو والمتنبي عبرا الأزمنة ومكثا بقوة في الذاكرة الثقافية للإنسانية لكن أسطورة رامبو من طراز آخر، فالشاعر ينتهي إلى نخّاس، وصمته بعد التوقف عن الكتابة وجد أيضا من يحاول ترجمته سواء من حيث استنطاقه وهو صامت أو من حيث استدعاء إحتياطي الموهبة التي وئدت في بواكيرها، لينوب هذا الفائض عن الصّمت.


إن محاولة الشاعر مهدي تفتح لنا الباب على مصراعيه وبلا أيّ مواربة أو خضوع لابتزاز إعلامي كي نعيد قراءة الكثير من الظواهر الثقافية في تاريخنا، حيث لم يكن كل ما يلمع ذهبا، فهناك مناطق مسيّجة ومحظور الاقتراب منها وتتسربل بقداسة ليست من صلبها ومن هذه الظواهر ما يشمل شعراء وفلاسفة ومفكرين، منهم الطاؤوس الذي إذا فقد الريش الملون انتهى إلى قطعة لحم صغيرة، ومنهم الشحم ومنهم الورم على حدّ تعبير أبي الطيب.


وحبّذا لو يكون المدخل إلى هذه المراجعة شعرنا الحديث بدءا من نهاية الأربعينيات من القرن الماضي حتى اليوم، رغم أن لدينا محاولات مبكرة في هذا السياق لكنها بقيت في نطاق التلميح منها على سبيل المثال ما كتبه حسين مردان عن البياتي وأُنسي الحاج عن عبد الصبور. فهل علّق الشاعر سامي مهدي الجرس أم أن الخلل في حالة الصمم الوبائية التي تحول دون سماع أي صوت مغاير.

*كاتب أردني
 

التعليقات