"سطوة النص": دراسة في عمق سلطوية الأزهر

يلاحظ أن الخطب والبيانات محل الدراسة أغلبها إن لم يكن جميعها، جاءت لتؤدي دروا سياسيا أو لتشارك في حدث سياسي أو تدعو إلى فعل سياسي، واضعة المؤسسة الدينية في دور اللاعب السياسي المؤثر في قليل من المرات والعاجز عن التأثير في مرات أخرى.

"سطوة النص": دراسة في عمق سلطوية الأزهر

على الرغم من جفاف موضوع كتاب 'سطوة النص... خطاب الأزهر وأزمة الحكم' فإن مؤلفته طبيبة الأمراض النفسية والعصبية والفنانة التشكيلة والأديبة والكاتبة الصحفية، نسمة عبد العزيز، اجتهدت لكي تلطف صياغته بما يجذب القراء غير المتخصصين وجعلهم يقرؤونه حتى النهاية.

فبدءا من الغلاف تتضح الفكرة الرئيسية للكتاب، وهي فرضية سعت الكاتبة لإثباتها، بتحليل خطاب الأزهر في فترة أزمة الحكم التي عانت منها مصر منذ ثورة 2011، التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، وحتى عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013.

فأسفل العنوان رسمت لافتتان تشيران لاتجاهين متعاكسين أحدهما كتب عليها 'الدين'، وكتب على الأخرى 'السياسة'. كما جعلت الكاتبة إهداء الكتاب 'إلى الساعين نحو تقويض أوجه السلطة المهيمنة، تلك التي تسيء إلى عقول البشر وتستخف بإرادتهم... إلى أصحاب الصوت النشاز في كل وقت وعصر'.

ولهذا الكتاب، الذي يقع في 296 صفحة من القطع الكبير، وصدرت طبعته الأولى مطلع 2016 عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، حكاية طويلة وإن كانت الفترة التي يتناولها بالتحليل والدراسة لا تتجاوز ثلاثة أشهر هي حزيران/يونيو وتموز/يوليو وآب/أغسطس 2013.

فالكتاب كان في الأصل دراسة تقدمت المؤلفة بها لنيل درجة الماجستير في علم الاجتماع، وكانت تقع في أكثر من 130 ألف كلمة، لكنها اضطرت بعد خلاف مع المشرف بشأن حساسية الموضوع وحساسية المرحلة التي تمر بها مصر إلى سحب الرسالة والتنازل عن الدرجة العلمية تجنبا لصراع 'لا طائل ولا فائدة من ورائه' مكتفية بتسجيل موقفها في هذا الكتاب.

ويضم الكتاب، بعد اختصار مؤلفته لرسالتها العلمية وإعادة صياغتها، ستة فصول تسبقها مقدمتان أولاهما لأستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة، عماد عبد اللطيف، والثانية للكاتبة.

وتحت عنوان 'مقدمة نظرية... الموضوع والمنهج والإجراءات' تحدثت المؤلفة في الفصل الأول من الكتاب عن المؤسسات الدينية الرسمية و'سلطتها الراسخة' في المجتمع المصري ومكانتها التاريخية لدى 'الجماهير'، ثم أوضحت اختيارها لمنهج التحليل النقدي للخطاب والأثر الخطابي وما يعنى به من تغيرات قيمية أو سلوكية يحفزها الخطاب، ثم تحدثت بعد ذلك عن المحاور الرئيسية للكتاب، مشيرة إلى تركيزها على محورين اثنين أولهما خاص بعملية إنشاء الهوية والثاني يتعلق بالكشف عن علاقات السلطة.

تعكس خطابات الإعلام والأزهر والسلطة السياسية تناقضات متعددة على مستوى البنية الداخلية أو بين بعضها بعضا

وتطرق الفصل الثاني من الكتاب، وعنوانه 'تأسيس السياق العام... لمحة عن الأوضاع العامة المحيطة بفترة إنتاج الخطب والبيانات'، للأوضاع في مصر إبان فترة الدراسة، مشددا على عدم إمكانية تجاهل أثر الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتراكم في منتج الخطاب 'الأزهر'، وعدم إمكانية النظر للنصوص بمعزل عن الظروف التي مهدت لها والمعطيات التي تفاعلت معها وأسهمت في تشكيلها وأدت إلى إخراجها على النحو الذي وصلت فيه إلى المتلقي.

وأوضحت الكاتبة سبب اختيارها لفترة دراسة خطاب الأزهر في الأشهر الثلاثة المشار إليها، لكونها اكتظت بأحداث جسام وحفلت بمواقف حاسمة لا يمكن تجاهلها لشيخ ومشيخة الأزهر.

وتخلص المؤلفة في هذا الفصل إلى أنه 'تبقى المعلومات المتاحة عن تلك الفترة غير مؤكدة، فيما تعكس خطابات الإعلام والأزهر والسلطة السياسية تناقضات متعددة على مستوى البنية الداخلية أو بين بعضها بعضا'.

وفي الفصل الثالث تتناول نسمة عبد العزيز 'الأدوات المستخدمة في تحليل الخطاب'، فتتحدث بشكل واضح عن الضمائر والأفعال ووصف الذات وتقديمها وتمثيل الآخرين وتسميات الحدث وأدوات التعريف والإشارات الزمنية والحجة، وكذلك أساليب الاستمالة والعلاقات النصية والحوارية والانتقاد الظاهر والمستتر والتضفير الخطابي وإعادة إنتاج السياق.

فيما يتعلق 'بالضمائر والأفعال'، تفيد المؤلفة بأن الضمائر أحد أهم الأدوات المستخدمة في عملية إنشاء الهوية، التي يتم تقديمها إلى المتلقي ومخاطبته من خلالها.

وتشير إلى ضمير المتكلم الذي يمثل شيخ الأزهر، وضمير الغائب الذي يمثل مشيخة الأزهر نفسها في أغلب البيانات والخطب، أما ضمير الجمع فأحيانا يشير لمجموع علماء الأزهر وأحيانا يبدو منسحبا على السلطة وأحيانا يبدو ملتبسا، بحيث يدعو للتساؤل حول ما إذا كان إدماجيا أو إقصائيا.

وفيما يتعلق بوصف الذات، تضرب الكاتبة مثلا بوصف الأزهر بالشريف وتقديم شيخه بمفردة 'فضيلة'، والتي يقدم الفاعل 'المؤسسة الدينية' من خلالها نفسه إلى المتلقي 'المواطنين'.

وبخصوص 'تسميات الحدث'، تتحدث الكاتبة عن التسميات والنعوت التي جاءت في الخطب والبيانات الصادرة عن الشيخ أحمد الطيب ومشيخة الأزهر، لتصف الموقف السياسي الرئيس المتعلق بأزمة الحكم، بتبعاته وتداعياته التي تضمنت وقائع عنف ودعوات مصالحة وحوار ومظاهر للنزاع بين الأطراف المتصارعة على السلطة، ويوضع في الاعتبار عند النظر إلى التسميات تبدل مواقع السلطة، حيث تحولت جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة إلى جماعة معارضة، بينما تحولت جماعات المعارضة التي ضمت أطيافا سياسية متنوعة إلى جماعات تأييد.

حدث هذا التبدل في مطلع الثلث الثاني من الدراسة، حيث مثل إلقاء وزير الدفاع شكل بيان الثالث من تموز/يوليو 2013، وعزله الرئيس محمد مرسي النقطة الفاصلة.

تمثل المؤسسة الدينية مؤسسة سلطوية، مثلها مثل مؤسسة الحكم

وتناول الفصل الرابع موضوع 'شواهد الخطاب وعملية إنشاء الهوية'، وفيه تحدثت الكاتبة تحت عنوان فرعي 'بين الأزهر وشيخه' عن تلقائية التوحد بين شيخ الأزهر والمشيخة في غالبية الأحيان، 'مع امتلاك السلطة الحاكمة ممثلة في الوالي العثماني ثم الملك وبعده رئيس الجمهورية حق اختيار رجل دين وتعيينه في منصب الشيخ'.

وتقول المؤلفة هنا 'تمثل المؤسسة الدينية مؤسسة سلطوية، مثلها مثل مؤسسة الحكم، لها لوائح وقوانين تحكمها وأدوار تؤديها وأجور ينالها العاملون فيها، كما أن لها أدوات سيطرة توظفها وتحالفات تدعمها ومبادرات تتخذها ومناوشات تدخل فيها، ومواقف قد تجلب إليها الاستحسان أو اللوم والتأنيب'.

وتخلص الباحثة إلى أن 'التسلطية السياسية أدت إلى إنتاج 'تسلطية دينية' مستندة إليها، وفي هذا الإطار بات الثناء على المشيخة منسحبا على الشيخ، وبات ذم الشيخ أمرا تنتفض له المشيخة، 'وفي الحالين كان الدين حاضرا وربما لعب دورا جوهريا كلما ظهر صراع في الأفق'.

وتضرب هنا مثلا بما كان من الشيخ الأزهر السابق الراحل محمد سيد طنطاوي، عندما لجأ في إحدى معاركه مع الصحافة إلى القضاء، متهما رئيس تحرير صحيفة مشهورة بسب الأزهر وقذفه وقوله 'لقد سبني وما دام سبني فقد سب المؤسسة كلها'، وتفيد الكاتبة أن رد الشيخ الراحل جاء ليكشف لا عن شخصنة المؤسسة الدينية مثلها مثل غالبية مؤسسات الدولة بل عن عملية تماه كاملة بين الهويات، تتلاشى فيها الحدود بين كينونة الفرد والدور الذي يؤديه والمكان الذي ينتمي إليه 'وتنسحب المكانة وربما القداسة الممنوحة لأحدهما على الآخر'.

وتضيف 'كان هدفي الكشف عن الطبيعة التي تدار بها المؤسسة الدينية، وعن آلية اتخاذ القرار، وهي أمور تسهم في تكوين صورة مقربة لا لهوية الشيخ والمشيخة وطبيعة الأدوار التي يؤديانها فقط، بل للأُطر التي تحكم مواقفهما'.

يلاحظ أن الخطب والبيانات محل الدراسة أغلبها إن لم يكن جميعها، جاءت لتؤدي دروا سياسيا أو لتشارك في حدث سياسي أو تدعو إلى فعل سياسي، واضعة المؤسسة الدينية في دور اللاعب السياسي المؤثر في قليل من المرات والعاجز عن التأثير في مرات أخرى

وفي آخر الفصل الرابع تقول 'ويلاحظ أن الخطب والبيانات محل الدراسة أغلبها إن لم يكن جميعها، جاءت لتؤدي دروا سياسيا أو لتشارك في حدث سياسي أو تدعو إلى فعل سياسي، واضعة المؤسسة الدينية في دور اللاعب السياسي المؤثر في قليل من المرات والعاجز عن التأثير في مرات أخرى، وعلى كل حال لا يزال السؤال مطروحا حول دور الأزهر غير الديني سواء وصف بكونه وطنيا أو سياسيا أو بغيرها من الأوصاف'.

وفي الفصل الخامس تتحدث الكاتبة، تحت عنوان 'شواهد الخطاب وعلاقات السلطة'، عن السلطة والعلاقة السلطوية، وتذكر شواهد على ما سمته 'شكلا من أشكال الإذعان' من جانب شيخ الأزهر، في التغير الفجائي الذي اعترى محتوى خطابه خلال يومين اثنين فقط.

فقد كان الأزهر أصدر بيانا تزامن مع تصاعد التوتر في المناخ السياسي بسبب استمرار اعتصام جماعات المعارضة الدينية في ميداني رابعة العدوية والنهضة بالقاهرة الكبرى، ودعا إلى التصالح والحوار دون إقصاء لأحد، وفي اليوم التالي دعا وزير الدفاع المواطنين إلى الخروج لتفويضه يوم الجمعة 26 تموز يوليو 2013، بما يعني نهاية مرحلية لدعوات ومبادرات الحوار والمصالحة ولمحاولات التفاوض التي كانت المؤسسة الدينية طرفا فيها.

واستجاب شيخ الأزهر أحمد الطيب، وألقى بدوره خطبة لم تحتو نهائيا على أية إشارة إلى مبادرة المصالحة، 'وكأنما لم يدع المواطنين سلفا إلى المشاركة والإسهام فيها'، وأطلق دعوة جديدة ذات مضمون مختلف حث من خلالها على الهبوب 'لإنقاذ مصر مما يتربص بها'.

وهنا تقول الكاتبة، إن 'تلفظات' خطاب شيخ الأزهر 'عكست وجود حوارية ظاهرة بينه وبين النص الذي ألقاه وزير الدفاع'.

وعليه 'بدت استجابة شيخ الأزهر شكلا من أشكال الإذعان'، نظرا للتغير الفجائي الذي اعترى محتوى الخطاب في يومين اثنين فقط، من دعوة إلى حوار ومصالحة إلى دعوة إلى تفويض ومواجهة عنف و'إرهاب' محتملين.

وتوضح أن العلاقة السلطوية في الأساس علاقة أدوار تراتبية أو هرمية، ولا شك أن السلطة تسعى دوما للحفاظ على شكل هذه العلاقة وعلى آليات عملها، 'بما يحفظ لها موقعها ويرسخ نمط وجودها'.

وفي ذات الفصل تتحدث المؤلفة أيضا تحت عنوان فرعي 'استجابة الممانعة' عما سمته مواقف إيجابية للسلطة الدينية، لرفضها تقديم الدعم للسلطة الحاكمة في فترات بدت حرجة على الصعيد السياسي، ولم تقتصر المؤسسة الدينية في مواقفها هذه على الامتناع عن المساندة والدعم، بل عمدت إلى مساءلة السلطة 'كما لو كانت تقف منها موقف الند'.

وتضرب مثالا لتلك المواقف باستنكار شيخ الأزهر سقوط قتلى في أحداث الحرس الجمهوري من خلال خطبته في الثامن من تموز/ يوليو 2013، والتي أدان فيها وقوع الحدث 'دون تسمية أو تحديد أشخاص بعينهم ودون ذكر صفات أو مناصب دالة على هويتهم أو مواقعهم الوظيفية بصورة مباشرة'.

 'ورغم غياب التسمية، لاح حديثه موجها إلى مؤسسة الحكم، عبر الصياغة التي استخدمها والتي وشت بوجود المخاطبين في موقع المسؤولية الرسمية'.

كما استنكر الأزهر في بيان يوم 27 تموز/يوليو 2013 سقوط أعداد من الضحايا في أحداث النصب التذكاري، وقال منتقدا وموبخا السلطة 'مقاومة العنف والخروج على القانون لا يكون إلا في حدود القانون'.

وتتناول الكاتبة في الفصل السادس، الذي أسمته 'أفكار حول الخطاب'، موضوعات الخطاب والحراك الثوري وما يتناوله الخطاب من استشهادات وسياق.

نحو فكر صحيح لا يخلط بين ما لقيصر وما لرب العالمين

وفي الختام، وبعد ما ذكرت من أدلة وشواهد على 'تناقض الخطاب الديني بسبب ارتباطه بالسلطة الحاكمة'، توصي الكاتبة بالسعي إلى استقلال الأزهر من خلال العودة لفكرة الوقف حتى لا يعتمد على تمويل الدولة، الأمر الذي 'ربما يسهم في تحجيم محاولات توظيف خطابه لصالح مؤسسة الحكم'.

وتطالب المؤلفة، على استحياء، بأن يقتصر دور الأزهر على الجانب الديني فقط، قائلة 'إن اقتصار دور الأزهر على الجانب الديني أمر ينظر له بعين الاعتبار'، متمنية أن يصبح كتابها ركيزة لدراسات أُخرى تتناول ذات الموضوع بمزيد من البحث والتحليل.

ويبدو أن الكاتبة، الحاصلة على دبلوم في علم الاجتماع عام 2010، مهمومة جدا بقضايا السلطة حيث سبق لها إصدار كتاب عنوانه 'إغراء السلطة المطلقة'، الذي فاز بجائزة أحمد بهاء الدين للباحثين الشباب في 2009.

اقرأ/ي أيضًا | إتمام عام قسنطينة 'عاصمة للثقافة العربية'

والمنطق يقول أنه ربما من المستحيل أن تتحقق دعوة الكاتبة إلا في إطار أكبر يتعلق بوعي المجتمع كله أو جله، فالأزهر أولا وأخيرا جزء من المجتمع واستقلاله مرهون بتحرير المجتمع بأسره من الأفكار السلطوية 'إن جاز التعبير'، وتأهيله بفكر صحيح لا يخلط بين ما لقيصر وما لرب العالمين.

التعليقات