"آل بودنبروك"... علامة فارقة في الأدب الألماني

وعلى الرغم من نشأة الأديب الألماني توماس مان في أسرة ثرية ومستقرة ماليا، إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، حيث توفي والد توماس مان ولم يكن عمر الأخير قد تجاوز الخامسة عشر عاما، فاضطربت أوضاع الأسرة المالية،

مشهد من فيلم "ىل برودنبروك"

رواية “آل بودنبروك” تعد واحدة من علامات الرواية والأدب الألماني الحديث، وصدرت هذه الرواية تحت أكثر من عنوان تبعا للغة المترجمة إليها، حيث صدرت تحت عناوين منها "آل بودنبروك"، و"أسرة بودنبروك" و"السقوط البطيء لعائلة بودنبروك".

ومؤلف الرواية هو الروائي الألماني توماس مان، ونُشرت للمرة الأولى عام 1901م، ولا تزال هذه الرواية تطبع بمختلف لغات العالم حتى اليوم.

وتوماس مان من مواليد 6 حزيران/يونيو عام 1875م، وتوفي في 6 آب/أغسطس سنة 1955م، وحصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1929م، ومن أشهر رواياته بخلاف "آل بودنبروك" رواية "موت في البندقية"، التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير بنفس الاسم في عام 1971م. ونشأ توماس مان في عائلة متعددة الثقافات مما أعطاه فرصة للثراء المعرفي والثقافي وصقل عنده موهبة الكتابة، فوالده كان من كبار تجار الغلال في مدينة لوبيك الألمانية، وشغل منصب عمدة المدينة مرتين، بالإضافة إلى عضويته بمجلس الشيوخ، أما والدته فهي من أسرة برتغالية ممتزجة بالدم الألماني، والأخ الأكبر لتوماس مان هو الروائي هاينريش مان.

وعلى الرغم من نشأة الأديب الألماني توماس مان في أسرة ثرية ومستقرة ماليا، إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، حيث توفي والد توماس مان ولم يكن عمر الأخير قد تجاوز الخامسة عشر عاما، فاضطربت أوضاع الأسرة المالية، لدرجة أن والدة توماس مان اضطرت لبيع منزل الأسرة بجميع قطع الأثاث التي بها، ثم عمل توماس مان في شركة للتأمين بمدينة ميونخ الألمانية، بعد أن استكمل دراسته في مدينة لوبيك، كما عمل لفترة بالصحافة قبل أن يترك ألمانيا إلى إيطاليا التي كتب فيها روايته “آل بودنبروك” والتي حققت نجاحا باهرا، لدرجة أنه تم بيع الملايين من النسخ عند صدور طبعتها باللغة الألمانية، بالإضافة إلى ترجمتها لأكثر من 40 لغة حول العالم.

ويعتقد كثير من النقاد أن هذه الرواية تصور ملامح من الحياة الشخصية لمؤلف الرواية نفسه، حيث تدور حول أسرة ألمانية ثرية تتعرض لأزمة مالية عاصفة تؤدي إلى انهيارها، وهو نفس ما حدث لأسرة توماس مان تقريبا.

وتحكي الرواية قصة أربعة أجيال متتابعة من “آل بودنبروك” وهم يتعرضون لمحنة مالية تعصف بمكانة أسرتهم المالية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها الأسرة في مدينة لوبوك شمال ألمانيا.

ومن المفارقات أن توماس مان عندما بدأ في كتابة هذه الرواية كان مدفوعا بهدف شخصي هو أن يتخطى النجاح الذي حققه شقيقه هاينريش مان، عندما كتب رواية “عائلية” تحت عنوان (في العائلة)، والتي تدور أحداثها حول عائلة برجوازية ألمانية، والصراعات التي تعصف بالعلاقات بين العائلات البرجوازية ورجال الأعمال.

ومن المفارقات أيضا أن توماس مان لم يكن يقصد في روايته أن يكتمل هذا النص الأدبي الفريد ليخرج في النهاية على شكل رواية، لكن ما حدث هو أن الأحداث تدافعت في ذهن توماس مان حيث لم يستطع التوقف عند الكتابة، فالقاعدة الأدبية الراسخة هي أن الأديب عندما يبدأ الكتابة لا يعرف متى وأين سوف يتوقف؟

وبعد أيام وليال من الكتابة المستمرة وجد توماس مان بين يديه رواية كاملة تتقاسم فيها الشخصيات الأدوار وتتبادل الأحاديث، فدفع بها للمطبعة لتنشر للمرة الأولى 1901م، بل إن الناشر الأول للرواية طلب من توماس مان اختصار عدد صفحاتها، وهو ما لم يحدث لحسن الحظ، فتصدر الرواية كاملة، ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف المطابع عن طباعة الرواية في ملايين النسخ وبعشرات اللغات التي تم ترجمة الرواية لها، بخلاف اللغة الأصلية التي كتبت بها وهي اللغة الألمانية.

تقوم أحداث الرواية حول الشخصية الرئيسية فيها وهو “هانو”، والذي يعتقد النقاد أنه مرادف لشخصية توماس مان نفسه، الطالب الصغير الذي يعاني من صعوبات مالية تسبب له مصاعب في دراسته، بالرغم من أن “هانو” نفسه ينحدر من عائلة من التجار الأثرياء الذين ينحدرون من أصول غامضة، في إشارة إلى أن أجداد توماس مان نفسه يجمعون في دمائهم بين أصول عرقيات أخرى بخلاف العرق الألماني.

وبخلاف شخصية البطل الرئيسي الذي تدور الرواية حوله وتتقارب الأحداث وتتباعد تبعا لموقف “هانو” نفسه من مركز هذه الأحداث، فتصور الرواية أربعة أجيال تبرز وتختفي، يتغيرون بفعل الزمن، ويعيش المرء حياته مع أسرته، ولو أنها ليست من أرقى أسر المدينة، بسقوطها وتلاشيها واندثارها، والمتبقون منها لا يتعدون طبقة متوسطة المستوى.

وتتضمن الرواية شخصيات من العائلة والأقارب والأصدقاء ومحيط العمل والسكن، والمدينة التي يعيش فيها “هانو”، وحيث حرص توماس مان على تصويره كشخص تعيس يمثل عائلة تحتضر وتختفي من الوجود، وهو ما كاد أن يحدث لعائلة توماس مان، لولا أن توماس مان فاز بنوبل فأحيا ذكرى عائلته لتصبح ذكرى خالدة، لكن لم يتحقق ذلك إلا بالمعاناة التي تلازم كل المبدعين وعانى منها توماس مان نفسه، وهي المعاناة التي ظهرت ضمن فصول الرواية ممثلة في شخص “هانو”، الذي حرص الكاتب طوال الوقت أن يبرز الآلام التي يتعرض لها ويعاني منها، بل إن توماس مان صورة شخصية لـ “هانو” الذي يكره الحياة من فرط ما تعرض له من آلام وصعوبات في هذه الحياة، وهو ما يعبر عما حدث لتوماس مان مؤلف الرواية في حياته المتقلبة والعصيبة، وأكثر من ذلك أن الشخصية الرئيسية كانت تعبر عن اليأس القاتل الذي كان يعيشه في هذه الحياة، ولعل هذه المشاعر هي نفسها ما كانت تشغل توماس مان نفسه وهو يعيش في إيطاليا بعيدا عن وطنه، على الرغم من أن أحداث الرواية كانت تدور في حقبة زمنية مختلفة، حيث دارت الأحداث بين عام 1835م ونهاية القرن التاسع عشر.

اقرأ/ي أيضًا| فرج في بلاد الأعارب

جدير بالإشارة ” آل بودنبروك ” للكاتب توماس مان، ترجمها عن الألمانية مصطفى أبو رحمة، وصدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وتقع في نحو 1000 صفحة متوسطة من القطع المتوسط .

التعليقات