31/10/2010 - 11:02

أدونيس: الثقافة في مجتمعنا جحيم هائل من الكلمات

أدونيس: الثقافة في مجتمعنا جحيم هائل من الكلمات
تحض القارئ على طرح الأسئلة، وبعض هذه الأسئلة، وسواها، هي مبرر هذا الحوار:


ـ إذا بدأنا الحوار من عنوان كتابك الجديد: «المحيط الأسود»، لاشك أن التسمية هنا تفعل فعلها، هل يطاول الاسم محيطاً عربياً، أم محيطاً أكبر يطاول أقاليم أخرى في عالم اليوم؟ وهل يخرج مبدأ التسمية من الجغرافيا إلى أقاليم معرفية أخرى تخص مسائل الدين


والهوية والتراث والحاضر..إلخ؟


ـ تتمحور دلالة التسمية على المحيط العربي. غير أن لها امتدادات في محيطات أخرى، تبعاً لمدى الهيمنة الخارجية، أو التفاعل والتواصل. والمبدأ في هذه التسمية نقديّ: تساؤل واستقصاء في مختلف الميادين الثقافية، وبخاصة الدينية والفنية، ماضياً وحاضراً.


ـ الملاحظ أن الكتاب يضع القارئ أمام موضوعات جديدة ذات جذور قديمة، مثل قراءة النص الديني، والعلاقة مع اللغة، والعلاقة مع الآخر، وأزمة الهوية، والذات، والإرهاب، والحجاب، واحتلال العراق، والتقنية، والعولمة، وعلاقات الشرق بالغرب، وغيرها كثير. ألا تعتقد أن تناول بعض هذه المسائل يعيدنا إلى أسئلة سبق تناولها منذ بداية القرن العشرين المنصرم ولم ننته بعد من إعادة طرحها إلى يومنا؟


ـ القضايا الأساسية لا تستنفد دائماً يُعاد طرحها، إلى أن تُحل نهائياً. وليست هناك حلول نهائية إلا في الدين، وصنوه الفكر الإيديولوجي ـ المذهبي.


كل ما هو كيانيّ كاللغة والهوية والتقنية والثقافة والطبيعة والحبّ والموت والفن..إلخ، لا ينتهي الفكر من طرحه وإعادة طرحه.


صحيح أن بعض هذه القضايا طرحت بكثرة، كما تشير. غير أنّ المسألة هي في أنها طرحت على نحو غير جذري يحل إيماناً محل آخر، أعني على نحو ديني، او إيديولوجي ـ سياسي. ولم تُطرح أبداً على نحو فكري ـ فلسفي.


لنأخذ المسألة الدينية، مثالاً، فهي لم تبحث إلا من ناحية عملية ـ سياسية، وأقصى ما وصلت إليه تجسّد في القول بفصل الدين عن الدولة. أما الدين ذاته، بوصفه شكلاً من أشكال المعرفة، أو الشكل الأعلى وفقاً لما يقوله بعضهم، أو بوصفه وحياً ونبوّة، فلم يُبحث أبداً.


البحث الفكري في الدين لا يقتصر عل تطبيقاته أو ممارساته. وإنما يتناول أساسيّاً أصله، ومعناه، والغاية منه، وكيفية الحاجة إليه ـ ضرورة، أو عرضاً. وهل هو فعلاً معرفة حقيقية. وما معنى النبوة..إلخ.


هذه كلها قضايا أساسية، بحثها، جزئياً، بعض أسلافنا القدامى. غير أن مفكرينا المعاصرين أهملوها، أو أرجأوها، أو تجنبوا إثارتها. ولهذا لم يكونوا في المحصلة، جميعاً ودون استثناء، إلا فقهاء جُدداً: قوام فكرهم هو أن الدين عظيم، غير أن تأويلاته السائدة سيئة. وها نحن نقدم التأويل الصحيح! فكر ليس فكراً، بقدر ما هو شرع أو فقه آخر. وما يقال عن الدين، في هذا الإطار الفكري ـ المعرفي، يمكن ان يقال عن اللغة، والهوية، والعلاقة بالآخر، ويمكن ان يقال حتى عن الشعر نفسه.


لا جذرية في الفكر العربي الراهن. وهو، إذاً، لا يقدم شيئاً جديداً. ولا يدخل في حركية الفكر الإنساني الخلاّق.


ـ تقول في الكتاب: «المشكلة الحقيقية تبدأ بقراءة ما اصطلح على تسميته ب«الأصول» قراءة نقدية، وليس بقراءة القراءات الماضية لهذه الأصول». إن مثل هذه القراءة التي تطالب بها محفوفة بالمخاطر، عربياً وإسلامياً، ولنا عليها أمثلة عديدة لا تبدأ من مصطفى عبد الرازق ولا تنتهي عند نصر حامد أبو زيد، لكن لماذا علينا ـ على الدوام ـ قراءة الأصول هل المشكلة في الاستمرارية أم في الأصول ذاتها أم في سلطة القراءة؟


ـ الفكر، الفن هما تحديداً. خطر. ذلك أنهما «يغيران» القيم، والأفكار، والمعتقدات، وعادات القراءة ...إلخ.


كل فكر أو فن يكون انسجاميّاّ، لا يثير أية مشكلة، ويرضي «الحس المشترك» أو «العقل» الذي يسمى «سليماً»، وهو ذروة المرض.


ليس فكراً أو فناً، وإنما هو «شرع» آخر .


علماً أن عبد الرزاق وأبو زيد اللذين تسمّيهما، هما ـ بما طرحاه ـ أقل جرأة وجذرية من بعض أسلافنا القدامى. ولم يبلغ أي شاعر ـ مفكر معاصر ما بلغه أبو العلاء المعري في نقده الدين والقيم الدينية.


لا فكر بدون خطر.


وفي هذا ما يفسر كون المجتمع العربي يعيش بدون فكر. فهو بسلطته الدينية ـ السياسية يحول دون أن نقرأ بحرية، ودون أن نفكر بحرية، ودون أن نكتب بحرية، ودون أن نتحاور بحرية. إنه مجتمع يفرض على الثقافة أن تعيش في مستنقع.


وهكذا تبدو الثقافة في هذا المجتمع ـ السجن، كأنها جحيم هائل من الكلمات والأصوات، أو كأنها صحراء لا واحة فيها.


ـ تنظر إلى الهوية بوصفها مشروعاً «يبنى في العمل، وفي الإبداع، وفي التفاعل والحوار»، بمعنى ما فإن الهوية ذات طابع كوني. ثم تخلص إلى القول: «ربما كان طموح الذات في الماضي أن تكون نفسها، لكن من المؤكد أن طموحها الأعلى اليوم هو أن تكون الآخر». ألا يصطدم قولك هذا بأفكار ومفاهيم التمركز بمختلف أقاليمه وألوانه، وأطروحات الصرام والصراع التي تفعل فعلها في عالم اليوم، وتعمل وتوجه سياسات إمبراطورية، وتنفذ مشاريع قديمة جديدة ؟


ـ التمركز؟ أعطني نموذجاً عن التمركز في العالم كله يفوق حسّ «التمركز» عند العرب: «السادة»، «المعلمين» .. إلخ.


نحن نخترع أوهاماً، بسبب عجزنا وضعفنا، ثم نصدقها. المسألة ليست في «التمركز» و«الصدام الحضاري».. الخ.


المسألة هي مسألة بشر يبدعون، ويبنون العالم، ويغيرونه، ويقودونه، وبشر آخرين لا يفعلون شيئاً. ينوحون، ويتأوهون، متكالبين على الرفاهية، لا أفق لهم. ولا طموح يحركهم غير تكديس الثروات. ليس هنالك مال في العالم أغبى وأكثر انحطاطاً، بالمعنى الثقافي ـ الإنساني، من المال بين أيدي العرب.


بدلا من الكلام على «شرور الآخرين» ـ علينا أن نعمل على اقتلاع شرورنا نحن. إن نسياننا «شرورنا» هو، بالضبط، مما يخدم الآخرين، ويعزز «هجومهم» علينا. المشكلة، أولاً وأخيراً، فينا ـ في سياستنا، وثقافتنا، وفي إنساننا ذاته.


لقد أصبحت مفردات كمثل «الاستعمار» و«الإمبريالية». و«صدام الحضارات»، و«المركزية الأوروبية»... إلخ، وسائل لتمويه انحطاطنا، وتخلفنا، وأميّتنا، وجهالتنا، وطغياننا.


وتكاد هذه المفردات أن ترسّخ عندنا «عقلية» الاقتناع، بالتخلف، وأن تشيع بيننا «ثقافة» العجز والتبعية. لا ، ليس «الأجنبي» هو العدو الأول للعربي، وإنما العربي هو العدو الأول للعربي.


ـ نعثر في الدراسات والمحاولات النقدية الحديثة، عربياً، على ثلاث أنماط من التناول النقدي للشعر بشكل عام، ولشعر أدونيس بشكل خاص، حيث انطلق محمد مفتاح في كتابه «مشكاة المفاهيم: النقد المعرفي والمثاقفة»، من ما اسماه «النقد المعرفي»، وانطلق عادل ضاهر في كتابه «الشعر والوجود» من التأويل الفلسفي، فيما انطلق عبد الله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي» من النقد الثقافي ومقولات النسق والفحولة.


هل تعكس هذه القراءات النقدية محاولة البحث عن مخرج من مدرسية الركام الطويل لسيل الدراسات النقدية التي تناولت الشعر في اللغة العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، أم أنها لم تخرج عن ذات الإطار؟


ـ يؤسفني كثيراً أنني لم أقرأ حتى الآن كتاب الأستاذ محمد مفتاح الذي أحترم كثيرا كتاباته. وهذا تقصير مني أعترف به. غير أنه في طليعة الكتب التي برمجت لقراءتها قريباً.


أما الأستاذ عبد الله الغذامي الذي أحترم أعماله كذلك، فإنني أختلف معه كلياً. في نظرته، وفي طريقة فهمه الشعر، بخاصة.


إن «نقده الثقافي» هو، في جوهره ، تسمية أخرى للنقد الماركسي التبسيطي، المؤدلج، المباشر، الذي لا يفهم الشعر بالشعر، بل بما حوله، وبما هو خارجه، والذي تجلى خصوصاً في الممارسات الجدانوفية ـ الستالينية. إنه نقد باسم «الخارج» : النحّن، الأمّة، الجمهور، الجماعة. نقد باسم «الأنا الخارجية» ـ الانتماء، الدين، السياسة، القومية... إلخ.


وهذه كلها ليست أكثر من إطار. ونقد الشعر ليس نقداً للإطار، وإنما هو استقصاء فني ومعرفي لحركته الداخلية، وأبعادها. كأن الأستاذ الغذامي لا يرى من الوردة عطرها، وإنما يكتفي برؤية وعائها وسمادها. فهو يبدأ أولاً بقتل الشعر والشعرية، محولاً النص الشعري إلى «وثيقة» اجتماعية.


ولهذا يخلط بين الذاتية والفردية ولا يربط بين الفحولة وسياقها القبلي ـ البدوي، مهملاً كل ما هو داخلي، حميم، ذاتي ـ أي كل ما لا قوام للشعر إلا به.


إنه نقد لا يعنى إلا بالأنا الخارجية، أنا المجتمع، أنا الانتماءات الإيديولوجية والقومية والاجتماعية . والشعر، جوهرياً، أنا داخلية. وهو إذاً يقف ويفكر في الطرف الآخر المناقض للشعر. إذا كان للحداثة الشعرية عند العرب من معنى، فهو يكمن في الثورة الذاتية (وهي غير الفردية ـ الفحولية) على «النحن»، «الأمة»، «الجماعة»، «الحزب»، «القبيلة»، «السلطة»، «العائلة» ـ وهذه كلها: تلغي الشخص وذاتيته. وتلغي من ثم الفن والشعر.


لا تريد إلا شعر «الحس المشترك» وشعر «العقل» الذي يسمى «سليماً»، وهو نفسه داؤنا العياء. أي أنها باختصار، لا تريد إلا الشعر «العاقل»، والمدافع عن «المجتمع» ومصالحه، والذي لا يثير أية مشكلة، وإنما على العكس يولد حوله «الإجماع»، الإجماع «الوطني»، خصوصاً.


إنه الشعر المبتذل لجمهور مبتذل لقضايا مبتذله. ولا يبدو الغذامي في هذا كله ناقداً شعرياً، ولا حتى ناقداً ثقافياً، بقدر ما يبدو «فقيهاً»، و«إمام جامع». هناك أشياء كثيرة أخرى تقال عن النقد الشعري، والنقد الثقافي كذلك عند الغذامي، خلاصتها، في ما يتعلق بالشعر، أنه يتكلم على الشعر بأدوات وطرق غير شعرية، ومن خارج الشعر. وهذا وحده دليل ساطع على فساد هذا النقد.


أما نقده الثقافي فأتركه إلى آخرين أكثر اختصاصاً وعلماً مني.


أما كتاب «الشعر والوجود» لعادل ضاهر، أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، فإنني أتردد في الكلام عليه، لأنه يدور حول تجربتي الشعرية. هكذا أعتذر مكتفياً بالإشارة إلى أنه نموذج فريد في نقد الشعر عند العرب؛ فهو عدا أنه يربط هذا النقد، في انفتاح أصيل، بحركات النقد الشعري في العالم الحديث، وبخاصة كما يتجلى عند هيدغر، يربط كذلك بتاريخه كما يتمثل في الفلسفة العربية (ابن سينا، الفارابي، ابن رشد) وكما يتمثل في التجربة الشعرية الفذّة عند المعري، حيث لا فصل بين الفكر والشعر وحيث ينظر إلى الشعر بوصفه التعبير الأجمل والأكمل عن الإنسان.


(عمر كوش- "البيان")

التعليقات