31/10/2010 - 11:02

المتعقبون في الظلام!!

*فيلم وثائقي يتصدى لشريحة إنسانية طال نسيانها... المكفوفون* بقلم: اليزابيت نصار

المتعقبون في الظلام!!
*تفانين- انتهى مؤخرا طاقم تصوير الفيلم "المتعقبون في الظلام" من تصوير المشاهد الأخيرة. يذكر أن التصوير دام أكثر من ثلاثة أشهر، واستغرق دراسات مستفيضة أجراها المخرج مع شخصيات فيلمه، لتقوم عدسة الكاميرا بعد ذلك بتعقبهم. المخرج مرعي مرعي يركز في فيلمه على أبطاله، يغوص بخبايا نفوسهم ويطلع بفضول عنيد على أفكارهم وأحلامهم وأحزانهم وأفراحهم فيأخذنا إلى عوالم كنا نحسب أنها غير قائمة لكنها تظهر وبقوة أمام أعيننا.
"المتعقبون في الظلام" فيلم وثائقي يتصدى لشريحة إنسانية طال نسيانها... يلتقط صورة تحليقية لما يدور في مجتمعنا العربي بما يتعلق بفقدان البصر عبر أبطال ثلاثة يمثل كل واحد منهم جيلا مختلفا فهنالك ابن الستين وابن الثلاثين وابن العشرين كل يسير في طريقه وكل له قصته المؤثرة لكن تجمعهم أمور كثيرة أولها فقدانهم البصر وما يترتب على ذلك من معيقات.
السؤال المركزي للفيلم – من هو الأعمى الحقيقي؟ "المتعقبون في الظلام" يحاول أن يهز الثابت من أفكارنا النمطية كأنما يحاول المخرج إيقاظنا من سباتنا ولا مبالاتنا فانه يسحب البساط من تحت أرجلنا بمحاولة ذكية منه تدفعنا لأن نخرج كمشاهدين بحقيقة، قد تكون مخالفة إلى حد بعيد، لما اعتدناه ونعرفه وهي أن ليس هناك من أعمى إلا نحن، أما هم وان لم يبصروا فهم لا يتعامون!
الفيلم من إنتاج وإخراج مرعي مرعي ابن قرية حرفيش الجليلية. درس السينما من أكثر من جانب، فهو ملم بالبحث وكتابة السيناريو والتصوير والمونتاج إلى جانب الإنتاج والإخراج. طاقم الفيلم مكون من مجموعة من المهنيين الذين اكتسبوا الخبرة عبر التعاطي مع أعمال عديدة شاركوا فيها ارتقت إلى مستوى العالمية بل وحصد الجوائز. المخرج أوكل مهمة التصوير إلى أمير رشفون وهو صاحب خبره عالميه في مجال التصوير السينمائي. الصوت: أسامة بواردي. مساعد إنتاج: ممدوح خير الدين. مساعدو التصوير وعامل الإضاءة: دانئيل كلوجسكي ، فلادمير بلنسكي ، ينيف روحكين ، جاي زلتسر، و يانا ميطنك .
وفي حديث قصير مع مصور الفيلم أمير رشفون وعن هذه التجربة الفيلمية تحديدا قال:" كان هذا العمل عبارة عن رحلة مثيرة وغير اعتيادية. تعرفت من خلالها على أمكنة جديدة وناس جدد. أثاروا فضولي من كونهم مكفوفين أولا وثانيا من كوني يهودي وهم عرب. كانت طريقة جيدة للالتقاء بهم والتعرف عليهم". وعن عمله مع مرعي، قال: " هذه أول مرة نلتقي في عمل. وجدته مخرجا صاحب مخيلة تجعله قادرا على الإخراج دون المس بصدق المشاهد وهو أمر صعب للغاية خصوصا عندما يكون الحديث عن فيلم وثائقي. برأيي مرعي برع في هذا الأمر".
مرعي أراد للفيلم أن يتم مونتاجه بيد خبيرة وعربية ووقع اختياره على المخرجة والمنتجة صاحبة الاسم العالمي ندى اليسير لتعمل على مونتاج الفيلم. اليسير أخرجت ومنتجت العديد من الأفلام كان آخرها بعنوان "ما تبقى لكم"، فيلم تصدى لواقع الأراضي العربية في النقب والسياسات الإسرائيلية تجاهها.
اليسير، أعربت عن سعادتها وافتخارها بالمادة الخام المصورة والتي تنم عن مهنية ودراية عالية للمخرج. وعن عملية المونتاج قالت: "المونتاج يعطي الوتيرة والإيقاع السليم للفيلم وعلى رأس ذلك الأحاسيس والمشاعر التي يثيرها في قلب المشاهد، بل وأبعد من ذلك، فالمخرج يعيد إخراج الفيلم بغرفة المونتاج"... " أما الرسالة الأقوى التي يراعيها مرعي ويصوب عدسة كاميرته نحوها بثبات هي: المكفوفون هم كغيرهم من الناس، يحلمون ويعملون ويعشقون وينجحون ويكبون، مرة ومرات، تماما مثلما يحدث مع كل واحد من"ا.
المكفوفون يقول مرعي "هم احد وجوه "الآخر والمختلف" الذين نفتقد الانتباه إليهم. فهم يعانون الصراع على المستوى العام والخاص. فمن ناحية هم يطالبون بمكانهم من موقع الندية داخل أسرهم ومن ناحية أخرى يكافحون من اجل حقهم في العلم والعمل والكرامة أسوة بالجميع. فمن خلال التحقيق الذي أجريته، اتضح لي أن الكفيف يعاني من الخجل والتشاؤم والخوف ويتصف بالانهزامية وسرعة الغضب ما يجعل ثقته بنفسه مهزوزة ومزعزعة. أجدني أحيانا أتساءل فيما بيني وبين نفسي هل يكتب للكفيف أن يحب وان يحب أم تمضي به الحياة جافة جوفاء! ارتأيت في فيلمي أن أوثق هذا النضال الفردي من جانب الشخصيات فهو بنظري يرمز إلى النضال الشمولي الذي يجب أن يتحقق على ارض الواقع. فالقصة ليست قصة فرد هنا أو آخر هناك، هنالك خمسة آلاف ضرير بين ظهرانينا، أين هم- ومن يطلق صرختهم!
مرعي قال معلقا في أعقاب الانتهاء من تصوير الفيلم، انه أحب مدينة الناصرة العريقة خصوصا أن التصوير تركز فيها غالبا. فالناصرة بناسها ومؤسساتها تعاملت معه برحابة صدر وبشاشة برغم كل ما يتبع التصوير من حجز للحرية أحيانا وعرقلة للسير. وعلى رأس هؤلاء مدرسة راهبات الناصرة والمركز الثقافي والمكتبة البلدية "أبو سلمى"، وفندق "جولدن كراون", وسينماتك الناصرة وملتقى "فرانك سينترا" حيث صورت مشاهد بالغة التأثير.
الأستاذ يوسف بنات، إحد الشخصيات المشاركة في الفيلم: "قناعتي بأن الفيلم يخدم قضية مهمة من خلال تسليط الضوء على الطاقة الكامنة في شريحة المكفوفين جعلتني أحب فكرة الفيلم. أنا لا أنكر انه راودتني الرهبة في البداية لكن الرغبة كما قال لي تمحو الرهبة. "في الواقع أنا لا أذكر انه جاء احد قبل اليوم واختار أن يجعل من المكفوفين عنوان فيلم يتطرق لقضاياهم".
الأستاذ يوسف بنات أحب أن يغتنم الفرصة ودعا المخرج إلى تسليط الضوء على البنات المكفوفات وما يعانينه، فمعاناتهن اشد وطأة من معاناة المكفوفين الذكور، إذ يتم التنكر إلى حاجتهن الطبيعية إلى العاطفة والى الشريك. وهكذا تجد أن 99% من الفتيات المكفوفات في مجتمعنا العربي غير متزوجات. قضية اجتماعية من النوع الجاري غض الطرف عنه. لكن مرعي يخرجه من الظلمة ويضعه تحت المجهر بل وتحت سكين الجراحة.
ليس من قبيل الصدفة أن تظهر نهال عكري في هذا الفيلم. نهال فتاة أنهت اللقب الثاني من دراستها في التربية الخاصة. كفيفة. لكنها في كامل أنوثتها وفي أمس الحاجة لأن تعيش حياتها كما تعيشها أي بنت. تقول: "عندما يتعلق الأمر بالدراسة والعمل الكل يقف من وراء البنت المكفوفة ويشجعها ولكن عندما يتعلق الأمر بحياتها العاطفية وبحقها في أن تقيم أسرة فتسمع ألف لا من كل جانب وكل أكف التشجيع والدعم تنقبض وتختفي". لم يغب عن بال نهال للحظة أنها تشارك مئات الآلاف بأمورها الشخصية، إلا أن حرقتها بسبب ما يحدث وما يسكت عنه دعتها للتغلب على حيائها وهكذا تغلب اعتبار الانتماء إلى المجموعة وواجب تمثيل آلامها وآمالها على الاعتبار الشخصي.
محمد دياب، شاب أنهى اللقب الأول في العلوم الإنسانية والاجتماعية أضف إلى إنهائه دورة توجيه مجموعات. تطوع على مدى ثلاث سنوات في جمعية المنارة لدعم المكفوفين في المجتمع العربي. ليحظى أخيرا بفرصة العمل فيها كمدير لمشروع التوعية الذي تطلقه المنارة في المدارس. ويرى انه من خلال هذا الفيلم يؤدي رسالة اجتماعية واضحة ويشدد مثل أستاذه (يوسف بنات الذي علمه حينما كان طالبا في مدرسة راهبات الناصرة للصم والمكفوفين) على أن الطاقة الكامنة بداخل أي إنسان يجب أن تحظى بالتحول إلى طاقة عاملة، فالعمل والعطاء أمران يتوق إليهما الكفيف قبل غيره.
محمد يرى بالفيلم فرصته كذلك لأن يصل إلى الشهرة فهو يحب هذا العالم. "أريد الشهرة ولكن بجدارة". عن الفيلم يقول: "هذه التجربة جعلتني أعيد تفكيري بالنسبة لعلاقاتي مع من حولي، جمعتني بأصدقاء من الماضي، كنت أتمنى أن يجمعني القدر بهم مرة أخرى وان تتوثق علاقاتي بهم، "المتعقبون في الظلام" أزال حجبا واهية وأضاف لي الكثير."
هدى زعبي، رسامة، ترسم بفمها تارة وبأصابع قدميها تارة أخرى. فهي فقدت يديها في حادث اليم، تذكره وكأنه حدث بالأمس ولكنه في الواقع حصل منذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها. "كنت شقية". دعاها مرعي لتشارك في الفيلم لأنه أدرك أنها تشعر بالوحدة ذاتها والإبعاد نفسه الذي يصدره المجتمع كالحكم على من يعاكسهم القدر ويصبح الحكم كالسيف ينخر بالعظم وما من شفيع. في الفيلم تلتقي بالشاب محمد. لتكون عدسة المخرج شاهد على ما يتطور من مشاعر وأحاسيس في قلوب لم يعرف احد قبل ذلك على أنها قد تنبض بالشوق والحاجة إلى شريك وما يتطور من سيروره بين صديقين يكمل احدهما الآخر حيث ترسم هدى بالكلمات لمحمد ما لا تبصره عيناه ويحمل محمد لهدى ما عجزت يداها عن حمله. هدى تتوق اليوم إلى أمرين اثنين: الأول قيادة سيارة بمفردها والثاني متابعة تعليمها، فهي حاصلة على اللقب الأول في موضوع علم النفس. والطريق أمامها.
تقول هدى:" تم تصوير مشهد في إحدى البحيرات في الشمال، محمد قام بالتجديف بساعديه الذين تحركا بتناسق وتتابع لم يعهداه قبلا، فهو لم يجدف بحياته قط! أما أنا فكنت بالنسبة له العينين الذين فقدهما في طفولته. الفيلم غير نظرتي الأولى عن المكفوفين وعلمني عن قدراتهم وأحسب أن هذه أعظم رسالة يقدمها الفيلم للعالم". أما عن انضمامها للطاقم فتقول:" لم اعرف ما الذي يحدث حولي ولم استوعب منذ البداية أني طرف وشريك في هذا الفيلم، كانت لحظات سعيدة ومؤثرة، جاءتني دون ترتيب مسبق، وكم أتمنى لهذا الفيلم أن ينجح وأن يحبه الناس. خصوصا أني شاهدت بعيني ولأول مرة كم هو شاق العمل في التصوير والإخراج والصوت وغيره. كانت فعلا تجربة فريدة من نوعها".
عباس عباس، مسك الختام. محام كفيف. يحصد الألقاب العلمية، الواحد تلو الآخر. حقق أمنيته في الالتحاق للقب الثاني في إدارة الأعمال، من أجلها. أي من أجل جمعية المنارة التي أسسها وانبثقت من وجعه الشخصي وتجربته الحياتية المريرة ككفيف. مل من الألقاب العلمية. أراد عملا. فخلق ببراعته ومهنيته اللافتة فرص عمل له ولمجموعة من المبصرين والمكفوفين. تعتلي المنارة المقام الأول في سلم أولوياته، لكنه آخر النهار يتذكر انه إنسان من لحم ودم وانه بحاجة إلى شريكة يبادلها الحب وتبادله الاحترام. فهل يجدها؟
عن تجربته بالفيلم، قال عباس: " وجدت أن هناك تقارب ما يجمعني بالمخرج فحماسته لموضوع الفيلم وتصوره المتمثل بطرح صورة مختلفة وجديدة لا يعرفها الناس عن المكفوفين، خلق نوع من الانسجام معي ككفيف وكصاحب رسالة". سألته عن التغييرات التي طرأت عليه في أعقاب التصوير فقال:" الفيلم مكنني فعلا من أن أعيد النظر في علاقاتي مع أهلي بل وخلق حيزا أوسع مكنني من الاقتراب أكثر من والدي. كما أنني توددت إلى الكاميرا وبذلك زالت خشيتي منها وسمحت لها بالاقتراب من عالمي الشخصي المكنون. أما على صعيد المنارة، مشروع العمر، فقد اكتشفت من خلال هذا الفيلم أن المنارة كبرت ونضجت، ولم تعد منارة عباس بل منارة المكفوفين العرب وهذا تجسد من خلال الفعاليات الني وثقها الفيلم".
يوسف ومحمد وهدى ونهال وعباس، كلهم شخصيات حقيقية، قد نصادفهم في طريقنا إلى العمل أو بالعودة منه. كل يسير في طريقه، بعضهم قد يلتقي بالآخر والبعض الآخر قد لا يفعل أبدا. لكن " المتعقبون في الظلام" جمعهم بحركة ذكية وغير متوقعة من المخرج مرعي مرعي. والقارئ مدعو لترقب الفيلم ومشاهدته.
يذكر أن مرعي يعمل حاليا على إخراج مسلسل وثائقي من أربع حلقات يوثق لحياة العرب الدروز وتاريخهم في البلاد منذ مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا، يتقصى مرعي أمورا كثيرة تتعلق بالعرب الدروز وتاريخهم ليعرض العمل صورة تختلف كثيرا عن تلك الشائعة والراسخة في الأذهان. هذا وقد حصل العمل على منحة من صندوق "جيشر" بالاشتراك مع السلطة الثانية للتلفزيون والراديو . مرعي تعاقد مع شركة "شبيغل" للإنتاج السينمائي والتلفزيوني لتشاركه في إنتاج المسلسل وعين طاقم يعمل لجانبه في إعداد التحقيق للمسلسل يضم كل من المخرجة أيل أيل الكسندر ألحائزه على جائزة الأوسكار الإسرائيلي وأمير طاوزنر مدير الإنتاج السينمائي بكلية السينما في جامعة تل أبيب.

التعليقات