31/10/2010 - 11:02

ثمانون على غياب الكاتب التشيكي فرانز كافكا

عـين الحـرّ المتـشـائـم ثابتـة على سـاعـة الجـدار تنتظـر الخـلاص

ثمانون على غياب الكاتب التشيكي فرانز كافكا
رغم أن لرواياته وقصصه، ظاهرياً، خصائص الحلم أو الهلوسة، إلا ان الكاتب التشيكي باللغة الالمانية فرانز كافكا لم يكن انساناً حالماً، ومن غير المبالغ حتى القول انه كان عاشقا للواقع وشغوفاً به. فالبصمة السحرية في مؤلفاته مستقاة من لدن الواقع المحسوس، ناهيك بأن يومياته ومراسلاته، التي نعيد اكتشافها اليوم في طبعة جديدة في ذكرى ثمانين رحيله، تعج بالملاحظات حول ما رآه في الشارع، كذلك حول طبيعة الوظيفة التي شغلها وعلاقته الملتبسة بها.

كُتب الكثير بلا ريب عن علاقة كافكا بعمله، وعن المعاناة التي تسبب بها له طغيان الواجبات. لكن هل كانت هناك حقا غربة مطلقة بين فرانز الموظف وكافكا الكاتب، أم ان الاخير توصل في شكل ما الى ردم الهوة مع وجهه الآخر، والى رتق المزق القدري بينهما؟ هل كان ثمة فصام بين الرجلين، أم انعقدت مصالحة سرية بين هذا وذاك؟ إنه التساؤل الذي تطرحه دراسة حديثة حول الوظيفة في حياة الكاتب (وحول حياة الكاتب في وظيفته) صدرت حديثاً في المانيا بقلم الباحث كلاوس فاغنباخ، وتسدّ النقص الفادح اللاحق بصورة كافكا على هذا المستوى.

مثيرة للاستغراب ضآلة اهتمام الباحثين بنشاطات كافكا الادارية، في حين أن دراسة يومياته في المكتب من شأنها ان تضيء منطقياً نواحي كثيرة من شخصيته وأن تشرّع على أعماله آفاقاً مجهولة الوجود. فالى حين المعرض الباريسي الضخم الذي نُظم له عام 1984 في مئوية ولادته، وكان تحت عنوان "قرن كافكا"، ومعرض آخر لاحق حول نشاطاته الوظيفية أُقيم في مارباخ العام الفائت، كان كيان الكاتب على هذا المستوى غامضاً الى حد ما، علماً ان هذا الكيان ليس حاسماً على مستوى تحديد الشروخ في حياته فحسب، بل بخاصة لإظهار كيفية استخلاص كافكا من إزدواجيته هذه، ومن وظيفته تحديداً، غنى روائياً لا يُستهان به وجزءاً كبيراً من معرفته بالكون والانسان.

بدأ كافكا مسيرته العملية في الرابعة والعشرين لدى نيله وظيفة في شركة تأمين بصفة مساعد إداري. بدايةً عانى الشاب المسكون بحمّى الحرية الكثير من الضغوط من جراء القيود الصارمة التي تفرضها طقوس العمل، هو الذي كان لا ينفك يتوق الى الهرب والى عيش المغامرات. لذلك فإن وطأة الدوام الخانق، والعين الثابتة على الساعة الجدارية في انتظار لحظة الخلاص، والملل المضني الذي كانت تثيره في نفسه التفاصيل البيروقراطية، كلها عوامل غذّت ميوله الفطرية الى التشاؤم وأظلمت رؤيته، المظلمة أصلا، الى الحياة. فالشاب الذي كان يطيّر نظراته من النافذة حالماً بالسفر الى بلدان بعيدة وغريبة، خضع في الوظيفة للآليات البسيكولوجية نفسها التي أرهبت اعوامه المدرسية. هنا أيضا واجه الخوف الذي كان يشعر به منذ الصغر إزاء الأب، وهنا أيضا البرودة التي كانت تطبع أجواء عائلته، وهنا الإحساس بالاختناق واللاانتماء. بذلك أصبح المكتب امتدادا لمنزل الطفولة غير المحبوب وغير المحبّ، مرادفا لغربة صاعقة، لانفصال شبه قدري عن نظرائه، تماما مثلما كان يتألم فرانز الطفل بسبب اختلافه عن مجموعة رفاقه في المدرسة وعدم انسجامه معهم. وعلق كافكا تدريجياً في حلقة مفرغة، وغدت الوظيفة نوعاً من انواع العبودية، حيث الحياة صراع مستمر، أكاد اصفه بـ"الراسيني"، بين الرغبة والواجب، بين الحقيقة المشتهاة وتوأمها البشعة، الحقيقة المفروضة فرضاً، بين التوق الساحق الى الكتابة وضرورة العمل الساحقة بدورها.

إلا ان هذا الإشمئزاز الذي كان يثيره المكتب في نفس كافكا لم يكن خاليا من بعض الدلال، ان صح التعبير، اذ لم يكن ناتجا من أحكام الوظيفة في ذاتها بقدر ما كان ناتجا من هجس الكاتب بالكتابة. كان فرانز محبوبا من زملائه ومقدّرا من رؤسائه، وكان يُظهر في مزاولة عمله شغفاً وحماسة وتفانيا لا تتطابق مع شكواه الدائمة منه. لم يكن كافكا إذن ضحية الوظيفة بقدر ما كانت الوظيفة مجرد عائق مزعج امام ترف لطالما حلم به كل كاتب. ترف يجدر أن يكون حقا، وهو تكريس كامل الوقت للكتابة. ويتقاسم كافكا هذه الميزة مع عدد كبير من زملائه المبدعين الذين علقوا في دوامة "المعاناة الوظيفية"، على غرار الايطالي إيتالو سفيفو واليوناني قسطنطين كفافيس او البرتغالي فرناندو بيسوا. ويتقاسمها أيضاً وخاصة مع عدد كبير من كتّاب عالمنا العربي، حيث من النادر ان يعيش الكاتب من عرق كتابته، كما هي الحال في الغرب، بل غالبا ما يضطر الى مزاولة أعمال موازية لها.

لهذا السبب، وحتى اذا كان كافكا يؤكد وجود فاصل نهائي بين مورد الرزق والادب، وحتى لو كنا نصدّقه حين يزعم انه عانى الامرين من جراء متطلبات الوظيفة، الا أن خياله لم يخضع لتلك المتطلبات ولا استسلم لجبروت قيودها. فالمكاتب الكئيبة وقاعات الاجتماع المكتظة وغرف المصانع الصاخبة وجبال الملفات المهملة حضرت كلها في أعماله، ومثلها صوت اندلاع الماكينات المفترسة وبلادة الموظفين الكسالى وتجهّم العمال التعساء. جميع هؤلاء وجدوا لأنفسهم طريقا الى قلمه، يدعمهم في ذلك ميله الشديد الى ميدان التقنيات، وهو ميل يتضح لنا عندما نطالع رسائله الى صديقته ميلينا او الى فيليس باور التي كانت تعمل في شركة للهاتف. وهذا الفضول حيال التفاصيل الحية، والاندفاع نحو تحويل الحياة ميدان تجارب، يمكن رصدهما في كل كتاباته تقريبا.

ان النزاع بين الكاتب والموظف هو إذن النواة الجوهرية التي تدور حولها أعمال كافكا. فبسبب هذا النزاع تحديداً يفسح كافكا في كتاباته للتعبير عن مشاعر يمكن وصفها بالميكروسكوبية. أليس كاتب "المسخ" هو القائل: "تاريخ العالم كامن في غرف المنازل. ليس من الضروري ان تخرج من بيتك. إلزم كرسيك واصغ. كلا، لا تصغ، إنتظر فحسب. كلا، لا تنتظر، يكفي ان تكون صامتا ووحيدا، إذ سيجيء العالم ليرتمي عند قدميك ويرجوك ان تخلع له أقنعته. لا يسعه ان يفعل غير ذلك. سوف يتلوى منتشياً أمامك". كان كافكا مقتنعا بأن تاريخ العالم مرتبط بما يحصل في روح إنسانية واحدة، وبأن شحنة الحياة كامنة، لا في تراكم التجارب العظيمة والاستثنائية، بل على العكس من ذلك في عيش التجارب البسيطة والعادية، تلك التي يصفها بعض المتعالين بـ"التافهة" ويغضّون النظر عنها. لذا غاص الكاتب في وحول التجربة الانسانية حتى أدرك ذرتها الصغرى، ذرتها الاولى، أي المنبع أو الاصل. دربه لم تكن صعوباً بل حفراً في الاعماق، حفراً دؤوبا حتى "أندر غراوند" اللغة والانسان، لتحلّ الصرخة مكان الكلمة، والصفير مكان الهمس، والتأتأة مكان البلاغة الخطابية. النجومية لا تكمن في الشمولي لدى كافكا بل في الحميم، وليس الذاتي ما يختصر العام، بل هما الخاص والفردي اللذان يتضخمان حتى يصيران عالما عاما في ذاته. وليست الأنا لديه استبطاناً بل انعكاس، لذلك فإن هدفه لم يكن ان يرتقي بل ان ينبش، ان ينقب، ان يهرب الى اسفل، نحو ذاك الهجين الحيواني والبدائي الغامض الذي يشكل قاعدة الغرائز الانسانية. أي أن حركة قلمه هي مثل نزول نحو سلطان الظلمات، نحو أمكنة العناق الملتبسة، وهي الامكنة التي يشكل استكشافها علامة فارقة لدى الكتّاب الكبار.

"الكاتب يجب أن يكون الفأس التي تكسر بحر الجليد فينا"، يقول كافكا. فلتقرّ عين الموظف والكاتب معاً. ليس أفضل من الفأس نصف بها كتابتهما.

التعليقات