31/10/2010 - 11:02

صور عربية / الياس خوري

فلسطين، فغائبة ـ حاضرة في فيلم عطش . توفيق ابو وائل اخذنا الي سحر العوالم المغلقة لعائلة تعيش القمع والغربة. يصنعون الفحم، ويعيشون بعيدا عن القرية

صور عربية / الياس خوري
توج مهرجان السينما العربية في باريس ثلاثة افلام روائية لمخرجين من لبنان وفلسطين والمغرب، واللافت ان الاعمال الثلاثة هي الاعمال الاولي لمخرجيها، اي ان المهرجان كرس افلاما شابة تتميز بالجدة والحداثة والقدرة علي التعبير عن تلاوين التناقضات الداخلية في الحكايات التي تسردها.

معارك حب للبنانية دانيال عربيد، عطش للفلسطيني توفيق ابو وائل و الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء للمغربي محمد عسلي، نالت الجوائز الكبري الثلاث التي قدمها مهرجان السينما العربية في دورته السابعة.

افلام تعددت اساليبها ومقترباتها الفنية والاخراجية، لكنها تقدم نفحة جديدة لسينما عربية تبحث عن تجديد اساليبها السردية، وتقترب من المعيش عبر صوغ حكاياته.

السؤال الاول الذي يطرحه هذا الفوز الثلاثي آت من كون هذه الافلام اعمالا اولي. هل هذا دليل حيوية ام دليل البقاء في انتظار تفجر لحظات اولي، تأتي لتسدّ عدم قدرة السينمائيين العرب علي الاستمرار في ظل ظروف انتاجية بالغة الصعوبة؟
غير ان ميزة هذه الافلام الثلاثة، والي جانبها فيلم سهر الليالي للمصري هاني خليفة، سيناريو تامر حبيب، الذي حصد جوائز التمثيل لممثليه الثمانية الرئيسيين، (وهو ايضا فيلم اول) هو نضجها الفني، الذي يحررها من صفة الفيلم الاول.

قدرة علي تركيب الاحداث، ورؤية مليئة بالفروقات الصغيرة، وحبك درامي يصل الي لحظات مدهشة في فيلم عطش ، وعيون جديدة تكتشف الواقع، كما في فيلم معارك حب ، وحكايات تتداخل كي ترسم لوحة علاقة الريف بالمدينة، كما في فيلم الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء .

اي اننا امام افلام اولي استطاعت ان تستبطن التجربة السينمائية العربية والعالمية، وان تقدم رؤية يمتزج فيها النضج، بالتماعات التجربة التعبيرية الاولي.

السؤال الثاني يرتبط بالانتاج. فباستثناء سهر الليالي فان هذه الافلام هي حصيلة انتاج مشترك. ولقد اصبح هذا احدي السمات الاساسية للسينما العربية الجديدة. فأوروبا تقدم الجزء الاكبر من الانتاج السينمائي الجديد، الذي من دونه صار من الصعب علي الكثير من المخرجين تحقيق افلامهم.
الانتاج المشترك صار المخرج الوحيد لانهيار الانتاج المحلي او ضموره، وهو يشكل اليوم الباب الذي تستطيع السينما العربية فتحه.

انا لا اوافق علي الرأي الذي ينظر الي هذا الواقع الانتاجي في شكل سلبي. انه علامة ايجابية شرط ان يحسن السينمائيون العرب استغلالها وتحويلها الي محفز لوزارات الثقافة العربية (العاطلة عن العمل) كي تتحمل مسؤولياتها في دعم القطاع السينمائي، والي اطار يسمح للقطاع الخاص بالدخول في الانتاج السينمائي، كما في لبنان علي سبيل المثال.

غير ان المسائل الهامة التي يجب التوقف عندها في الافلام الثلاثة، هي قدرتها علي التحرر من النمطية والمتوقع والجاهز.
بيروت في فيلم عربيد، تعيش الحرب، لكن الحكاية ليست عن الحرب، بل عن طفلة في الثانية عشرة من عمرها، تكتشف من خلال صداقتها مع خادمة تكبرها بستة اعوام، الحب والعنف والحياة. الخادمة تأخذ الطفلة معها في مغامراتها العاطفية مع المقاتلين في الحي، والطفلة التي تعيش في عائلة يفككها القمار تجد في الخادمة الملجأ الي اكتشاف الحياة. في علاقة يمتزج فيها الحنان بالقسوة، والحب بالقمع، ندخل عالم الصداقة بين فتاتين، بقيتا اسيرتي واقعهما الطبقي، لكنهما صنعتا مغامرة من العلاقات التي سمحت لهما باكتشاف اوجه مختلفة من الحياة.

عينا الفتاة الصغيرة كانتا تنبضان دهشة وخوفا ورغبة. هذا الاشتباك لمجموعة من المشاعر المعقدة والمتناقضة، صنع من فيلم عربيد شهادة جديدة ومؤثرة عن قدرة الحياة علي الاستمرار والتوالد داخل العيون.

اما فلسطين، فغائبة ـ حاضرة في فيلم عطش . توفيق ابو وائل اخذنا الي سحر العوالم المغلقة لعائلة تعيش القمع والغربة. يصنعون الفحم، ويعيشون بعيدا عن القرية، ويختفون داخل الغبار والدخان والحرائق المشتعلة.

أب متسلط يأخذ عائلته بعيدا عن القرية، بعد فضيحة احدي بناته، يعيش مع زوجته وابنتيه وابنه، في عالم غرائبي، تسوده العلاقات البدائية، ويهيمن عليه العطش.

نحن في مكان فلسطيني صار جزءا من دولة اسرائيل عام 1948، لكن المكان ليس مهما، لانه قد يكون كل الامكنة. هذه هي قوة الاستعارة التي صنعها ابو وائل في عمله الرائع. شعرت بالعطش وانا اشاهد هذا الفيلم، وحين مدت المواسير وتفجرت الماء، انفجرت العائلة، وانحل اطار القمع الذي يصنعه الصمت.
الفيلم كان رماديا او هكذا اتذكره الان. لون رمادي يغطي الناس ويصنع فيلما محبوكا وقادرا علي ان يأخذنا اليه.

محمد علي قدم فيلما هجائيا للمدينة التي تجسدها الدار البيضاء.. لكنه هجاء شاعري صيغ باللغة الامازيغية، وهي لغة القرية التي يخرج منها ابطال الفيلم الثلاثة للعمل في المدينة. حكاية امرأة تموت وسط الثلج، وحصان يفلت كالمجنون في شوارع المدينة، وهذا يذكرنا بحكايات غوغول.

اخذنا هذا المزج المركب الي عوالمه الشاعرية، واستطاع رغم بعض التفكك، ان يكون رحلة كاملة الي الريف المغربي، والي يوميات المعاناة والفقر والحلم.

ثلاثة افلام لا يجمع بينها سوي انها تقدم لنا صورا عربية عن واقع الحياة، كأن الكاميرا تبحث تحت اللغة السائدة عن الحاضر وتستخرجه ثم ترسمه في عيني تلك الفتاة الصغيرة التي قادت دانيال عربيد الي اكتشاف بيروت.


_______________________________
عن القدس العربي

التعليقات