نكبة إندور وفكرة الترحيل

كم كان مؤلمًا منظر آلاف اللاجئين على الحدود اللبنانية، واليهود من ورائهم والجيش اللبناني أمامهم، والفقر والبؤس والشقاء والألم والإعياء يرفرف فوق رؤوسهم...

نكبة إندور وفكرة الترحيل

(أرشيف النكبة)

تُعتبر قرية إندور من أقدم القُرى التي ظلت مأهولة بالسكان على مدى فترات تاريخية مختلفة، على الرغم من كل ما حلّ بها من كوارث طبيعية أو بفعل الإنسان. إذ يُستدل من المصادر التاريخية والآثار التي عُثر عليها في مواقع مختلفة أنها كانت مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري والبرونزي والفارسي والبيزنطي والإسلامي والعثماني وحتى عام النكبة 1948، التي تم بها عمليات التطهير العرقي والتهجير السكاني القسري.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

تقع قرية إندور على السفوح الشمالية الشرقية لجبل الدحي، التابع لقضاء جنين، لواء نابلس والملحق بمتصرفية القدس الشريف منذ عام 1858م وحتى عام 1868. وكانت تتبع ناحية بني حارثة الشمالية والتابعة إلى قضاء جنين حتى عام 1918، ثم ألحقت بقضاء الناصرة عام 1919 بعد احتلال بريطانيا للقضاء، واستمرت حتى عام 1948.

تبعد قرية إندور عن مدينة الناصرة عشرة كيلومترات باتجاه الجنوب الشرقي مشرفة على أراضي مرج بني عامر، وترتفع عن سطح البحر بنحو مئة وخمسة وسبعين مترًا. مساحتها تسعة وعشرون دونمًا. ومساحة أراضيها 12,444 دونمًا. بلغ عدد سكان القرية عام النكبة 1948 نحو 719 نسمة.

قرية إندور (فلسطين في الذاكرة)

ونكبة إندور هي الحالة المأساوية التي مرت على سكان القرية منذ سقوطها في 24 أيار عام 1948، من قتل وطرد وتهجير وتشريد وتشتت وترحيل (ترانسفير) وهدم القرية بالكامل، وتحويل سكانها إلى لاجئين، وبعضهم لاجئون في وطنهم والقسم الأكبر لاجئون في الدول العربية المجاورة والشتات. وقيام الحكومة الإسرائيلية بمنع سكانها من العودة إلى أراضيهم وبيوتهم واعتقال وقتل كل من يحاول أن يتسلل إلى داخل القرية.

نصت الأوامر التنفيذية لعملية "ديكل" "النخلة" التي قادها لواء من قوات كرملي يدعى "حاييم لاسكوب" بالإضافة إلى الكتيبتين 79 و71 من اللواء السابع بقيادة "بن دونكلمان" على مهاجمة قوات جيش الإنقاذ في محيط الناصرة وتدميرها بالكامل. فقد أصدر مركز قيادة جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، تعليمات لكل سكان قرى قضاء الناصرة – من ضمنها قرية إندور – بقضاء الليل خارج القرى، تخوفًا من هجمات قوات الهاغانا عل قرى قضاء الناصرة. وقد حثّ أقارب سكان إندور الذين كانوا قد انتقلوا بالفعل إلى الناصرة قبل سقوطها، أقاربهم على أن ينهوا الحصاد على الفور ويرحلوا إلى الناصرة.

بعد أحداث مذبحة دير ياسين يوم 9 نيسان 1948، من قتل وذبح الأطفال والنساء والشيوخ، شَعَرَ أهل إندور بالخوف بعد سماعهم هذه الأخبار، التي ارتكبتها قوات الأرغون واشترن يتزعمها رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يتسحاق شمير. وتم تشكيل لجنة للدفاع عن القرية، التي باشرت بجمع الأموال لشراء البنادق، وقررت اللجنة ترحيل الأطفال والنساء والشيوخ إلى الناصرة، حيث أقاربهم، ولم يبق في القرية سوى عدد قليل من العائلات والشباب والرجال القادرين على حمل السلاح البالغ عددهم ثلاثين رجلًا. وقد قام بتدريبهم ماكس الألماني، الذي استقر في القرية مدة ثلاث سنوات، وكان صديق السيد محمد أحمد الحايك- من أهالي إندور-.

سقطت إندور بيد قوات الهاغاناه في 24 أيار 1948، أي بعد مرور تسعة أيام على موعد نهاية عهد الانتداب البريطاني على فلسطين في 15 أيار 1948، حيث قامت قوات الهاغاناه من خلال عملية "ديكل" بقيادة "حاييم لاسكوف"، وبعد فشل جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي من احتلال كيبوتس مشمار هعيمك. قامت قوات الهاغاناه باحتلال عدة قرى في مرج بني عامر من بينها قرية أندور، فقامت بإحكام الطوق عليها من الجهة الشمالية والجنوبية، الساعة الرابعة صباحًا، وقاموا بضرب القرية بالمدفعية. وقد استشهد من أبناء القرية كل من: خليل قاسم محمد زيادنة (ابن 20 عامًا)، بقذيفة دبابة أصابته في الرأس. وصبحة المرعي من إكسال زوجة محمد العبد الله، استشهدت تحت شجرة السدرة على بيادر القرية، كما استشهد سليمان يوسف صوالحة وذلك عندما غادر القرية باتجاه طمرة الزعبية، فقد أصابته طلقة من رشاش قتلته وهو على ظهر الفرس. كما جُرح الشيخ صبري محمد أحمد الحايك.

قرية إندور (فلسطين في الذاكرة)

ثم قامت القوات اليهودية بهجوم عسكري من الجهة الجنوبية للقرية، واستخدموا أساليب وحشية في ترويع السكان من أجل دفعهم وطردهم وإجبارهم على الخروج من القرية، مما اضطر قسم من السكان إلى مغادرة القرية متجهين نحو شرق الأردن، أما القسم الآخر، فاتجه نحو الناصرة، ولجأوا إلى عمارة الكازانوفا والأديرة - مقابل كنيسة اللاتين – عند مدخل الناصرة الجنوبي، والتي كانت تختنق باللاجئين الذين أُرغموا على ترك بيوتهم وقريتهم.

هذه السياسة التي اتبعتها قوات الهاغاناه عرفت بـسياسة "التطهير العرقي"، وهي تقوم على طرد وترحيل العرب بالإكراه للحصول على مساحات واسعة من الأراضي وأخذ مكانهم لإقامة الدولة اليهودية. وقد أشار إيلان بابه في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين"، " أن التطهير العرقي هو طرد السكان بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أراضي يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل".

بعد عملية الهجوم بقي عدد من السكان في القرية، يقدر عددهم نحو 300 شخص، كانوا مختبئين في المُغُر والكهوف والعرقان، وقد تم إخراجهم قسرًا من القرية. بعضهم كانوا يعودون متسللين إلى بيوتهم، وكان ثمة قناصة اختصوا بمطارتهم، ومن أُلقي القبض عليه حُمِلَ في شاحنات وألقى به على الحدود الأردنية. ثم قام الجيش الإسرائيلي بتفجير ونسف بيوت القرية بالكامل، لمنع سكانها من العودة إليها، وفي بعض الحالات تم تلغيم هذه البيوت بهدف قتل من يعود. وهكذا تم تدمير بيوت القرية جميعها. ولم يبق في القرية سوى البيوت المنهارة والأشجار المثمرة وأشجار النخيل والدوم والتين، والزيتون، واللوز، والسماق.

أشار السيد محمد أحمد الحايك – من سكان إندور الذين دافعوا عن القرية- أن الثوار انسحبوا من القرية بعد دخول قوات الهاغانا القرية باتجاه نهر الشرّار، ثم اتجهوا نحو قرية دبورية حتى وصلوا إلى الناصرة، وأقاموا فيها مدة ثلاثة أشهر، حتى سقطت في 16 تموز 1948، بعد انسحاب جيش الإنقاذ والجهاد المقدس من المدينة باتجاه الشمال إلى سوريا، قبل سقوطها بيوم واحد.

وأضاف، رحلنا من الناصرة إلى عرابة البطّوف، ثم تابعنا سيرنا إلى أن وصلنا "بنت جبيل" جنوب لبنان، حيث تدفق آلاف اللاجئين الفلسطينيين على الحدود اللبنانية من مناطق شمال فلسطين وقرى الناصرة. كان معظمهم يقيم في العراء وتحت أشجار الزيتون، فيما استطاع عدد قليل منهم استئجار بيت تأوي فيه العائلة.

كم كان مؤلمًا منظر آلاف اللاجئين على الحدود اللبنانية، واليهود من ورائهم والجيش اللبناني أمامهم، والفقر والبؤس والشقاء والألم والإعياء يرفرف فوق رؤوسهم. وكانت السلطات اللبنانية تمنع دخولهم إلى لبنان إلا إذا كان الشخص منهم حائزًا على مبلغ لا يقل عن مئة جنيه فلسطيني لإنفاقه في لبنان، حتى الماء بيع للاجئين بأثمان باهظة، وثمن رطل الخبز يعادل ثمن بندقية.

استغرقت الرحلة من إندور حتى الوصول لقرية "بنت جبيل" سيرًا على الأقدام حوالي 16 ساعة مع قليل من الماء والطعام. وأقمنا – محمد أحمد الحايك- في بنت جبيل مدة 15 يومًا في حالة يُرثى لها تحت الأشجار. ويضيف قائلًا: بعد ذلك استأجرنا حافلة للذهاب إلى بيروت، ومنها إلى دمشق، وشاهدنا حالة اللاجئين التي يدني لها الجبين. معظمهم من الجليل، ولم تكن السلطات السورية على استعداد لاستقبالهم.

وتم استيعابهم في مخيمات كبيرة بظروف حياتية قاسية جدًا، كان الرجال والنساء والأطفال يعيشون في خيام مهلهلة ممزقة أو أكواخ قذرة غير صحية أو في المغاور والكهوف. الماء لديهم شحيح غير نظيف، وما ينالون من الرعاية الصحية والغذائية ضئيل لا يناسب حياة الإنسان. وبسبب هذه الظروف الصعبة، لم نستطع الاستمرار في الإقامة بسورية، لذا قررنا السفر إلى الأردن، بعد إجراءات شاقة ومواقف ذل واحتقار أمام الموظفين والمسؤولين السوريين، حتى دخلنا الأراضي الأردنية، ووصلنا مدينة إربد شمال الأردن، ورأينا أعدادا كبيرة جدًا من اللاجئين اللذين رُحَّلوا قسرًا عن بيوتهم وقراهم ومدنهم، وقد بلغوا نحو 400,000 لاجئ، معظمهم من الفقراء والمعدمين، وصلوا إلى شرق الأردن سيرًا على الأقدام. عاشوا بين الأوحال وتحت المطر والشتاء، وفي وسط الغبار بين القاذورات وتحت أشعة الشمس في أيام الصيف.

كانت قوافل اللاجئين من المدن والقرى الفلسطينية قد خرجت من بيوتها قسرًا، وعن ديارها التي غدت منهوبة مسلوبة، والدمع يجري من عيونها على ولد شهيد ومال عديد وعيش رغيد وعز تليد. تشكو الألم من خصم عنيد شديد، تتضرع إلى الله أن يُهلك الهيئات العليا، وينتقم من اللجان الدنيا، أساس العذاب وركن الخراب. ونتيجة النكبة فقد اللاجئون كل شيء، ولم يبق لهم إلا الآمال المعقودة في الجيوش العربية، وأحلام ذهبية، أنها ستنقذ البلاد، وتعيد العباد ويعود الحق إلى نصابه وذويه.

التعليقات