31/10/2010 - 11:02

فلسفة الموت والحياة- دراسة في شعر السياب

فلسفة الموت والحياة- دراسة في شعر السياب
كما هو واضح من العنوان، يتأسس هذا الكتاب لمؤلفه د. عبد الرحمن محمود على ثنائية الموت والحياة في شعر السياب، هذه الثنائية التي اشتغل عليها الإبداع البشري مذ عرفت الحياة، فراكم نتاجه على شكل طبقات استقرت في الذاكرة الجمعية الإنسانية، نظراً لما في الموت من قسوة التغييب،


ولما في الحياة من بشرى الاستمرارية، وعلى غرار الآداب جميعاً تجذرت هذه الثنائية في الأدب العربي شعراً ونثراً، إلاّ أن دلالاتها على مرور الأزمنة والحقب تنوّعت وتغيرت من الخوف إلى المواجهة وممكنات الولادة من جديد على النحو التموزي أو الأدونيسي في تراثنا الأسطوري والرمزي.


ومن هذه الثنائية ستتكاثف رؤية الباحث كأطروحة فلسفية خلال دراسته لشعرية السياب، التي رأى أنها تنطلق من أن شعر السياب يعكس تجربتين اثنتين:


إحداهما ذاتية تجسد تجربة السياب الخاصة، والثانية موضوعية ترصد بإشعاعها الشعري الواقع الوطني والعربي والإنساني، وما يمور به في حقبة زمنية تتسم بالغليان والصراع بين متناقضات شتى أو أيديولوجيات متباينة. حيث في التجربتين كلتاهما يبدو الموت بدلالته الواسعة هو المعلم الرئيس الذي يشكل التجارب ويدفع بها إلى الوجود الشعري، وبذلك فإنه سوف يعيد اكتشاف ما سماه عبد الكريم حسن بـ «الفعل المحرك» بتسمية جديدة «الرؤية المركزية المولدة»


ويقصد بها جدلية السكون والحركة أو الهدم والبناء أو الموت والميلاد في نسقها التتابعي الذي يتناسل بعضه من بعض في دورات متعاقبة تخلق التجارب وتفرز الإبداع الشعري في تجربة السياب.


وسوف يؤكّد ذلك فيما سيقوله لاحقاً عن أن شعر السياب تتمركز فيه رؤية شعرية ثابتة تنتج شعره في سياقات متعددة يمكن وضعها تحت مسميات عدة، إلاّ أن الأمر الأهم هو القدرة على ممارسة الإجراءات النقدية للبرهنة عملياً على ما تمّ اكتشافه وإثبات صحة الفرض النقدي.


ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول وخاتمة بدأه بتمهيد هو عبارة عن عرض سريع للخطوط العامة لحياة السياب، والإشارة إلى التغيرات التي طرأت عليه فنقلته من مرحلة إلى أخرى.


ليأتي بعدها الفصل الأول بعنوان «البحث عن السراب» وقد رصد فيه علاقة السياب بالمرأة في سياقاتها المختلفة وحسب تطورها الزمني مع الشاعر، راصداً دلالات الموت وصفات السياب الخاصة، وصدمة اللقاء الأول مع المرأة ألم والموت الذي اختطفها مبكراً، وأثر هذا اللقاء المؤلم في حياة السياب، وإلى ذلك درس الشاعر والمرأة في مدار الحبّ، ورصد علاقاته العاطفية في سياقها التتابعي وصولاً بها إلى مرحلة الزواج والاستقرار.


مبيناً أن إخفاق السياب في كل تجربة كان نوعاً من الموت يدفعه إلى حتمية البحث عن ولادته الجديدة في علاقة عاطفية ثانية يختلق السياب حيثياتها، وإلى ذلك سيدرس الباحث في جانب آخر علاقة السياب بالمرأة في مدار الوطن منوّهاً أنها المرحلة التي تخلى فيها السياب عن ذاتيته الرومانسية وأصبح لشعره مضمون إيديولوجي لتغدو المرأة رمزاً للحبيبة والوطن معاً،


أما في مدار الذكرى والمكاشف، فقد درس علاقة السياب في سياق المرض وجدلية الزمن حيث باتت الذكرى ملجأ السياب الذي ينأى به عن عذاب الألم ويحور علاقته بالزمن لصالح الشاعر، بينما في المكاشفة سيرصد لحظة الصدق والاعتراف التي عرّى فيها السياب ذاته تماماً في علاقته بالمرأة لتتكشف في نهايتها عن سراب بحث عنه السياب طويلاً ولم ينل منه غير القليل.


وفي الفصل الثاني الذي عنونه بـ «بين القرية والمدينة» رصد تجربة السياب بالمدينة وأثرها في تطوير رؤيته الشعرية، وضيق السياب ذرعاً بها وحنينه إلى العودة إلى القرية وذلك في عدة مباحث هي: بين المدينة والشاعر الحديث، الموت في دروب المدينة، الحنين إلى الرحم وحلم الميلاد.


حيث رصد في مسألة الحنين إلى الرحم نوازعه للعودة إلى جيكور وحلمه بالاستشفاء من مرضه وتجدد ولادته وكيف أنه في هذا الحلم قد صدم عندما رأى معالم الحياة في جيكور تغيرت وأيقن أن شفاءه بالحياة فيها غير وارد فندّت عنه صرخة الحسرة والألم. بينما سيركز في الفصل الثالث على «الأيديولوجيا والخلاص» وسيرصد من خلاله تجربة السياب السياسية وأثر ذلك في تكوين رؤيته الشعرية وتطويرها من مرحلة إلى أخرى،


وقد تابع خلال هذا الفصل تاريخ انتساب السياب إلى الحزب الشيوعي العراقي والدوافع التي دفعته إلى ذلك، ثم تابع دراسة جدلية الموت والميلاد في شعره وخصوصاً موت الحياة في العراق وما تغصّ به من جهل ومرض وفقر ثم موت الحب وارتباطه بالسياق الطبقي والاجتماعي والواقع السياسي معاً وتعبيره عن النضال والرفض والتمرّد، ثمّ أثر هذا الاغتراب بدلالتيه المكانية والفكرية في نفس السياب.


بينما في مبحث الثورة وحلم الميلاد سيرصد الوسيلة التي وضعها السياب للخلاص من هذا الموت، ألا وهو الثورة والتطهّر. وفي مبحث خلاص الذات المفردة، درس الباحث التحوّل في رؤية السياب للخلاص من الموت ونزوعه إلى خلاصه الفردي ليأسه من ثورة الجماهير المستكينة والمستسلمة للواقع المتردي، وذلك من خلال رصده نماذج الحفار والمخبر والمومس،


وكانت هذه المرحلة هي بداية الانفلات من الإيديولوجية الشيوعية ودخوله مرحلة الالتزام القومي بحسب ما أورده الباحث من آراء إضافية حول أهم العوامل التي دفعت السياب للاتجاه هذه الوجهة معتبراً أن التزامه الجديد مدفوع أصلاً بخصائص السياب التكوينية وظرفه التاريخي مما جعله اقرب إلى التعويض منه إلى الاختيار الحر الموضوعي،


وإلى ذلك فإن الباحث سوف يرصد أشعار السياب الذاهبة نحو موت الحياة العربية من خلال القضية الفلسطينية وواقع اللاجئين وتخاذل عرب المشرق عن النضال والثورة والتضحية بما يجعل من الواقع العربي المشرقي مقبرة وكهفاً مظلماً حيث تموت فيه الحياة العربية.


أما في إيديولوجية تموز والمسح، فقد درس الباحث التغير الذي طرأ على رؤية السياب والتزامه الإيديولوجي والسياسي والتقائه بالأسطورة التموزية، حيث رأى أن الموت الفردي والتضحية بالذات هي وسيلة الخلاص لا الثورة والنضال الجماعي، بعد خيبة أمله في الثورة بعد اندلاعها حيث إنها لم تلد الحياة وإنما عمّقت الموت. ومن ثمّ كان التقاؤه برمزيه الرئيسيين: تموز والمسيح، ليعبرا عن رؤيته في هذه المرحلة.


وينوّه الباحث انه بعد وضع التصور النقدي لأشعار هذه المرحلة واظب على دراسة الموت والجفاف وعمومهما في العراق وخارجه وانتظار السياب للخلاص وانهمار المطر.إلا أنه في جملة هذه الإخفاقات والاغتراب والمرض وخيبة الأمل في كل شيء بات الموت هو الحقيقة الموضوعية الوحيدة في الوجود فأسلم نفسه للموت.


بينما جاء الفصل الرابع ليتناول مرحلة المرض والموت فقد رصد الباحث صراع الشاعر مع الموت وإحساسه المبكر به وسيطرة هذا الإحساس عليه بما يشبه الهوس، ثم وصف صراعه مع المرض بوصفه قناعاً للموت وأثر ذلك في حياة السياب وتغير رؤيته الشعرية والارتداد إلى الذاتية والرومانسية وصلته برموز بذاتها مثل: السندباد وأيوب ورحلته إلى الاستشفاء من الداء وتعلّقه بذكرى الطفولة دفعاً لجبروت الموت والألم.


وفي مبحث الموت والميلاد من الفصل ذاته رصد الباحث حلم السياب الأخير في إطاره الرومانسي بأن يولد في فضاء القبر من خلال الموت ذاته لينعم بالحياة في أحضان الأم والحبيبة ويتم له الخلاص الأخير من قسوة الواقع وجفاف الحياة فيه تحت وطأة الظلم والقهر والفساد السياسي والاجتماعي وآلام مرضه المبرحة.


أما الفصل الخامس الذي ذهب نحو البناء الفني في النصّ السيابي، فقد درس الباحث تجربة السياب من منظورها الفني، وقدر التجديد الذي أضافه السياب إلى تجربة الشعر الحديث، وذلك من خلال اللغة والمعجم الشعري وتوظيف الطاقات الصوتية للمفردة اللغوية ودلالاتها ، هذا بالإضافة إلى أثر البيئة في إثراء معجمه، وعلاقة هذا المعجم بالتراث العربي واستلهام السياب للرموز التراثية التاريخية، واقتباسه من تراثه الشعبي والمحلي.


وفي تجربة الإيقاع، درس الباحث مفهوم الإيقاع وتجاوزه للوزن العروضي مع اشتماله عليه. أما في مبحث البناء الصوري الأسطوري، فقد درس مفهوم الصورة في الشعر الحديث واحتوائها الصور البيانية الجزئية كالاستعارة والكناية، ثمّ درس الصورة في شعر السياب في مراحله المتعاقبة وبين قدرته على التصوير وامتلاك ناصيته وقدرته على تكثيف العناصر الزمانية


والمكانية وجرأته على طرح الرؤية الشعرية من خلال الأضداد والمتناقضات وكيف ارتقى في بنائه الصوري إلى الرمز والأسطورة محققاً بهما في كثير من قصائده مستوى تصويرياً عالياً وإن شابه القصور في بعض تجاربه.


ثمّ درس قضية تأثر السياب بالشعراء الآخرين عرباً وأجانب، وكيف كانت علاقته بهم علاقة دفاعية تحصينية أثرت جذرياً في بناء رؤيته ونموها تصاعدياً


وتأتي الخاتمة في النهاية لتلخّص أهم نتائج بحثه حيث وضّح فرضيته النقدية وحاول من خلالها كيفية إنتاج شعر السياب في مراحله المتتابعة ومستوياته المختلفة، حيث تحرك الشاعر طوال حياته بين قطبي جدلية الموت والولادة كرؤية مركزية مولدة للشعر.


كتاب أكاديمي مشغول بدقة وعناية، ومرجع مهم للباحثين والدارسين والطلبة، ننصح باقتنائه ومطالعته.


عزت عمر


الكتاب: فلسفة الموت والميلاد


دراسة في شعر السياب


الناشر: المجمع الثقافي ـ أبو ظبي2003


التعليقات