31/10/2010 - 11:02

لأول مرة تُمنح جائزة اتحاد أدباء مصر الى كاتب عربي..إلى حنا مينه

-

لأول مرة تُمنح جائزة اتحاد أدباء مصر الى كاتب عربي..إلى حنا مينه
تعد التجربة الروائية الواسعة للروائي السوري «حنا مينه» من أغنى التجارب العربية المخصبة للرواية العربية، إضافة الى معالجته لمختلف القضايا، والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، وتشابكات الشخصية العربية في لحظتها الراهنة، فهو من الكتّاب الذين عالجوا مسألة العلاقة مع الآخر، ووعي الذات في أعمال روائية معروفة طغى عليها الاتجاه الواقعي، نهجاً فنياً عبّر الكاتب من خلاله عن فلسفته، وآرائه في مختلف أسئلة الوجود والحياة ومظاهرها.

ولعل هذا يعود الى عاملين حسب رأي الناقد المغربي «صدوق نور الدين» العامل الأول: غنى التجربة والثقافة، مما يؤهل لإنتاج تجارب روائية تؤسس للذاتي فيما هي تغتني بالمعرفي والإنساني، ولكأن أحد مفاهيم الكتابة لدى «حنا مينه» اعتبارها مجال الإفصاح عن معاناة الذات. وفي ذلك يتقاطع السيري والروائي، علماً أن الرواية لديه هي النص الثقافة.. حيث تستدعي المرجعيات الفكرية والأدبية والسياسية بهدف إغناء النص الروائي. العامل الثاني: عامل الرهان على الإنساني وعبر أغلب الروايات، تبدو أسئلة الحياة، الموت، الخير، الشر، إشكالات قضايا شغلت الحقل الفلسفي، وفي الآن ذاته يستوعبها الروائي ليقولها مجدداً في نوع من التأمل والخيال. ‏

يمثل «البحر» موضوعاً أثيراً لدى حنا مينه، إذ على مدار أعماله الروائية (حكاية بحار، المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الربيع والخريف، الرحيل عند الغروب، الثلج يأتي من النافذة، النجوم تحاكم القمر، نهاية رجل شجاع...) تتوالى، وتتعدد مفردات البحر، أسماء، وشخوصاً وعناوين.. ويظهر البحر رمزاً، وكوناً واقعياً مضاداً لحالة الجذب، والخواء التي تضرب بأطنابها في هذا المكان العربي.

‏ إن القلق الذي يتسرب من وجدان الكاتب، وعقله الى أبطاله في أعماله الروائية قد يدفع هؤلاء الأبطال، أحياناً، الى التمرد على مبدعهم، فتتخذ حالة الصراع بين الذات، والعالم بُعداً مزدوجاً يشي بالدوافع الخفية المحركة لهذه الذات، كاتباً أوشخوصاً، بوصفها كائناً يتحرك في داخل تكوين اجتماعي تاريخي يخضع لتأثير لحظة مضطربة، فينشأ عند ذلك الخلاف، والجدل حول: (القيمة والمحدودية والنموذج والتكرار)، شخصية «فارس» في (المصابيح الزرق) و«الطروسي» في (الشراع والعاصفة) وشخصية «كرم» في (الربيع والخريف). ‏

إن الرهان على الإنسان والإفصاح عن معاناة الذات، والتقاطع بين السيري والروائي، وسواها من ميزات الكتابة الروائية لدى حنا مينه، تمنح هذا الكاتب امتياز التمثيل الحق لوجوده بكل مرجعيات هذا الوجود، وتداخلاته المعقدة، ونحسب أن هذا الامتياز المشرِّف يجعله دائم التجدد متواصلاً مع الأجيال حتى زمن قادم بعيد. ‏

هذه القواسم المشتركة في كتابات حنا مينه الروائية جعلته يرتقي بها الى مصاف الآداب العالمية، الأمر الذي مكّنه أخيراً من الحصول على العديد من الجوائز الأدبية والإبداعية، وأخيراً حصوله على جائزة الكاتب العربي من اتحاد الكتّاب في مصر، وكان لنا شرف اللقاء به ليحدثنا عن أهمية الجائزة ليس بالنسبة له شخصياً فقط، بل لأنها جائزة عربية وتُمنح لأول مرة لكاتب سوري، وبدأ حديثه بقول الشاعر: ‏

كم قد قتلت، وكم قدمت، إن عندهم ثم انتفضت فزال القبر والكفن ‏

إنني أموت في المساء وأحيا في الصباح، وقد بلغت الآن الواحدة والثمانين من عمري، ولاتزال الورقة البيضاء، الأفعى البيضاء، على مكتبي تعذبني، وأنا أجرّ ورائي خيطاً من الدم يمتد منذ طفولتي حتى الآن. ‏

لقد عرفت السجون والمنافي، نضالاً ضد الفرنسيين الذين كانوا يحتلون سورية، وضد الإقطاع، وقد عملت في طفولتي أجيراً وأجيراً.. وأجيراً... ثم بحاراً على المراكب الشراعية، وحلاقاً في حارة القلعة في مدينة اللاذقية، لكنني كنت دائماً مسافراً بلا حقيبة، حقيبتي التي هي قلبي فيها الوطن الغالي، «سورية» وكان الدفاع عن البؤساء والفقراء والمعذبين في الأرض هو شغلي الشاغل.

‏ وإني أغتنم مناسبة هذا الحديث لأوجّه الشكر، جزيلاً وجميلاً الى السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد الذي منحني وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة في الدفعة الأولى، وقد قلت في مناسبة تقليد الوسام ما يليق بكاتب أن يقوله للسيد رئيس الجمهورية العربية السورية، مانح هذا الوسام، وقلت عبارتين «القلق هو المحرض على الحب والإبداع، والطمأنينة قاتلة الحب والإبداع». ‏

ماكنت، وقد ولدت مريضاً عليلاً ناحلاً، أحسب أنني سأصبح كاتباً، وأكثر من ذلك كاتباً عالمياً ترجمت كتبه الى سبع عشرة لغة عالمية، وأعرّف القرّاء الكرام أنني ولدت بالخطأ، وسأموت بالخطأ وكتبت بالخطأ أيضاً.... وأنا أبحث عن هذا الموت فلا أجده، فالموت جبان، وأخشى ألا أموت، فتكون هناك الطامّة الكبرى... ‏

لقد ذهبت في آخر رحلة لي الى الخارج، الى القاهرة، والقاهرة في هذه الأيام تمور بالمشكلات والقضايا الداخلية. ‏

لقد أضعت طفولتي بالشقاء، وشبابي بالسياسة، وعندما وصلت القاهرة كنت أعرف ما عليَّ أن أفعل حيال وطني وشعبي العزيزين على قلبي، لذلك قلت: إن سورية مُستهدفة، وإن سورية ذات التقاليد الكفاحية، تعرف كيف تدفع عنها الشرور والنائبات، وكيف تتغلب على المصائب التي تواجهها، عند تكريمي بمنح الجائزة ككاتب عالمي «مصر هي بيت الثقافة العربية» وأنا قادم إليكم من دمشق العاصمة الكبرى والطريق المستقيم حيث التاريخ عاجزاً كان، وعاجزاً، يبقى عن معرفة سر بدايتها، وسر لانهائيتها،وسر اللهب القدسي المنطلق منها، وطبعاً كان هناك كما كتبت الصحف الكثير من المقالات، والكثير من التكريم، وكثير من وسائل الإعلام، وكان عليَّ أن أشرح وضع سورية في هذه الظروف الصعبة، وأن أؤكد: ‏

وما عشت بعد الأحبة سلوةً ولكنني للنائبات حمول ‏

وإن سورية تواجه النائبات، لكنها تناضل لدفع هذه النائبات، ولي ثقة أنها ستنتصر عليها. ‏

إن قاسيون لايُصرُّ بمنديل، والغوطة، في الدمسقي المعري، عوسجة مكللة بشرانق القزّ التي تُحمل بالكف، وبردى الذي قال عنه العبقري المجنون سعيد عقل: «أنا صوتي منك يابردى» لاسبيل الى نقله، في سيالة هندام، وبستان هشام في الرصافة، صار معلماً أثرياً، وظاهرة نزار قباني، صاحب «أيظن» قد لاتتكرر في ألف من الأعوام، ولم يكن في وسعي أن أحمل إليكم ملِداً من تراب ضريحه، وحنا مينه الذي كرّمه الأستاذ نجيب محفوظ مشكوراً، ورشّـحه من بعده لنيل جائزة نوبل، يأتي إليكم محملاً بالتحيات، والمودات، فتقبلوه نصف مجنون، ونصف عاقل، وهو يفضّل نصفه المجنون على نصفه العاقل، لأننا في هذا الوطن العربي الكبير، كلّنا عقلاء، وكلّنا مبُتلون لأننا عقلاء، ورحم الله المتنبي العظيم الذي قال: ‏

أتى الزمان بنوه في شبيبته .....فسرّهم، وأتيناه على الهرم ‏

تقلدتني الليالي وهي مدبرة .... كأنني صارم في كف منهزم ‏

والحقيقة، إن الوطن العربي الكبير بعامة، وسورية بخاصة، تتعرض للضغوط الأميركية والإسرائيلية في الأصباح والأماسي، وذلك بسبب من أنها العقبة الكأداء في وجه مشروع «الشرق الأوسط الكبير». ‏

وقد لقيت كلماتي التي ارتجلتها، وهي لاتخرج عما أقوله الآن، وعما نشرته الصحف في سورية ومصر، والبلدان العربية، وقد أنشدت، فالشعر يُنشد ولايُقرأ، لشاعرنا الكبير صائغ الذهب «بدوي الجبل» أبياتاً أورد منها: ‏

لاتسلها فلن تجيب الطيور المغاوير مُثخن أو قتيل ‏

والمغاوير هم في فلسطين الجريحة التي أبناؤها يدوسون على جراحاتهم بأقدام ثابتة ويواصلون الكفاح، والمغاوير هم المناضلون الشرفاء في العراق الذين غزاهم هذا المغرور الذي اسمه /بوش/ كما هدّد المناضلين في فلسطين مجرم الحرب والسفاح /شارون/، ولن يتوقف عن قتل أشقائنا الأعزاء في فلسطين. ‏

ثم تحدثت، كما أسلفت، عن سورية، ووضعها الصعب، مناشداً الحاضرين وهم كثيرون جداً أن يساندوا سورية في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها وأن يرفعوا الصوت في كل وسائل الإعلام تضامناً معها، ودفعاً للأذى عنها، وقد استجاب الكتّاب والمثقفون وأصدروا بياناً، يرون فيه ضرورة تشكيل جبهة ثقافية أدبية فكرية لمقاومة المخططات التي تستهدف الوجود العربي وثقافته وهويته القومية. ‏

ولم أكن في كلمتي مهتماً بالجوائز أو غير الجوائز، لكنني فوجئت بتكريمين الأول: هو ما قاله الناقد الكبير «صلاح فضل» قبل تسليمي الجائزة، وبنهوض الممثل العربي الكبير «عادل إمام» وتقدم نحوي معانقاً، وقلت له وأنا دهشٌ من هذه المبادرة «أنت الامبراطور كما يدعونك». فأجابني: «الامبراطور هو بمكان آخر، أما هنا فأنت أستاذي، ومن كتبك في التمرد، وفي التحدي وفي الارتفاع على الشدائد، فسيكون هناك فيلم مقبل، مأخوذ من إحدى رواياتك بالاسم الصريح، المؤلف حنا مينه، والممثل عادل إمام». ثم أضاف عندما ودعته «لقد كنت أرغب وأتمنى أن أكرمك، التكريم اللائق، أنا الذي لم أصدق عيني أني أراك جالساً في هذه القاعة، ولكن الظروف.. وصمت عن الكلام»، لم يكمل فعانقته وأنا أرد له التحية وقال لي: «كل ماقلته ارتجالاً، من شعر ونثر، قد كنت فيه المبعوث الأمين لسورية العزيزة» وماقلته كان مفهوماً من الجميع، وكان محط اهتمام من الجميع في مساندة سورية، وفي الوقوف الى جانبها. ‏

لقد كانت القاهرة تعيش ظروفاً قاسية بسبب الانتخابات التي تجري فيها، لديها من المشكلات تفوق وجودي فيها واهتمامها بيّ وتكريمي على هذا النحو. ‏

وكان صعباً على لجنة التحكيم والضغوط كثيرة أن تستقر على رأي موحّد في منح جائزة اتحاد أدباء مصر وللمرة الأولى الى كاتب عربي، وقد تخطينا الصعاب وتجاوزنا الكثير من الكلام حول هذا الاستحقاق الذي فزت به، وفي تصريح لجريدة الحياة قال صلاح فضل مختصراً: «هذه التي هي أشبه بالمعركة، لكنني أفضل أن أسميها منافسة» وعندما قرأ الدكتور فضل رئيس لجنة التحكيم قرار اللجنة في منحي الجائزة، كان أعذب وقعاً في نفسي من الجائزة نفسها، وهي جائزة، بالنسبة لعالمنا العربي، ليست قليلة لأنها تبلغ (10)آلاف مع دروع كثيرة من وزير الخارجية المصرية، ومن الأستاذ عمرو موسى، ومن وزير الثقافة، ومن كل المسؤولين المصريين الذين جاؤوا وقالوا: «إننا نعرفك ونقدّرك، ونقدّر سورية، ومبدعي سورية الكثيرين، لذلك جئنا إليك من غير أن تذهب إلينا كالآخرين». ‏

باختصار أقول: إنني ابن سورية العزيزة، وسورية ملزم إبداعي، وقد شكرت وأنشدت شعر هذا الكبير «بدوي الجبل»، وكان تقرير لجنة التحكيم يستند على شرط لم يتوفر في غيري وهو أنني عالمي الشهرة، وهذه الشهرة كنت أعرفها لكنني كما هي عادتي أعيش ببساطة وبغير غرور أو استكبار، وأعرف حق زملائي الذين كانوا يستحقون هذه الجائزة مثلي. أو ربما أكثر.



"تشرين"‏

التعليقات