04/01/2017 - 15:41

المبدعون العرب ووزارات التهميش الثقافية...

"صمت شعر العامية، ورحل شعراؤه أحياءً وأمواتًا، وعلى ما يبدو، أنّ هذا النوع من الشعر، معلق بمصائر الكون ومفارقاته، وتربطه بتلك المصائر أواصر". هذا ما كتبه الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي حول مختاراته الشعرية وكأنّه يرثي نفسه.

المبدعون العرب ووزارات التهميش الثقافية...

'صمت شعر العامية، ورحل شعراؤه أحياءً وأمواتًا، وعلى ما يبدو، أنّ هذا النوع من الشعر، معلق بمصائر الكون ومفارقاته، وتربطه بتلك المصائر أواصر'. هذا ما كتبه الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي حول مختاراته الشعرية وكأنّه يرثي نفسه.

مات الأبنودي وبقي شعره حاضرًا، لكن ليس بالنسبة للدولة المصرية التي ما زالت تحاول إخفاء هذا الإرث وإبعاده عن نظام التعليم المصري، فخلال الأيّام الأخيرة من عام 2016، نظمت وزارة الثقافة المصرية، الدورة الرابعة لملتقى الشعر، والذي اختارت له عنوان 'ضرورة الشعر'، ولكن النتائج كانت مربكة بعض الشيء، إذ رفضت الوزارة إدراج قصائد الأبنودي في المناهج المصرية، وذلك بحجة عدم توافق شعره مع 'سياساتها'.

بعد هذا الإعلان الذي حظي بانتقادات كثيرة، وإرباك لوزارة الثقافة، اعتذر عدد من الشعراء عن حضور الملتقى، والبعض الآخر منهم لم تتخط كلماتهم المجاملات الكاذبة في مداهنتهم للوزارة.

وكانت عائلة الشاعر الراحل قد تقدمت بخطاب رسمي لوزير الثقافة المصري حلمي النمنم، مطالبة فيه بإدراج أشعاره ونصوصه في المناهج المصرية، وجاء في الخطاب الموقع بيد زوجته 'نظرًا لما لمسنا في الفترة الماضية من رغبة القيادة السياسية في تطوير منظومة التعليم، وإعادة النظر في المناهج التعليمية وتطويرها ومواكبتها للعصر (...)، فإننا نتقدم إليكم بصفتكم المسؤول الأول عن الثقافة المصرية، أن يتم تدريس إرث الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، شعره ونثره، على طلاب أقسام اللغة العربية في الكليات والجامعات المصرية، وأن تكون قصائده باللغة العامية دليلًا دامغًا على ما وصل إليه من تطور في مصر، خاصة أنه أول شاعر يحصل على جائزة الدولة التقديرية في شعر العامية'.

مناهج مترهلة

هذه المناهج البالية بالطبع ينقصها شعر الأبنودي، ولكن للوزارة ذائقتها الباهتة التي 'تحتقر الشعر' بشكل عام، خاصة وأنّ الوزارة واللجنة يعتبران شعر العامية 'شعر الزجل'، وجميعنا نعرف مدى الفرق بين هذين النوعين من الشعر.

بعد هذه التصريحات التي انتشرت مؤخرًا، أعلن الشاعر عبد المنعم رمضان، وجمال القصاص، وفاطمة قنديل اعتذارهم عن حضور الملتقى، خاصة وأنّه تمّ رفض البحث المقدم من قبل قنديل في 'جماليات قصيدة النثر عند الشاعر عماد أبو صالح'.

أما الشاعر عبد المنعم رمضان، فقد كان واضحًا منذ البداية، مختلفًا بذلك عن زملائه الذين أبدو اعتذارًا خجولًا لا يعبّر عن حجم التهميش الذي تمارسه الوزارة بشكل يومي بحق المثقفين والمبدعين المصريين، حيث قال إنّ هذه المؤسسة تصرّ على إغلاق أبواب الرؤية في وجوهنا، بإغلاق السماء وحتى الأرض (...) لأنّها محض جهاز من أجهزة الدولة الأيدلوجية'.

لم يكن الأبنودي غريبًا عن كلّ هذا، فقد كان واعيًا منذ البداية لمآل الشعر عند دخوله إلى أروقة الوزارات والمؤسسات، ولكنه في المقابل استطاع نزع اعتراف من الدولة وإقرارها بشاعريته، وليس فقط الدولة، بل نجح في نزع الاعتراف من القرّاء الذين أحبّوا شعره 'العامي' من مختلف البلاد العربية.

الأبنودي ليس وحيدًا، ووجهات نظر مختلفة

لا يزال الشعر العامي يعاني من التهميش وقلة الإهمال من قبل المؤسسات الرسمية للدولة، ليس في مصر فحسب، وإنّما في غالبية الدول العربيّة، وصدر في هذا الشأن كتاب 'المهمشون في المشهد الأدبي' للدكتور أسامة أبو طالب، حيث اشتمل الكتاب على قضية التهميش في الواقع الأدبي المصري، والذي ناقش عدة شعراء مثل أحمد فؤاد نجم والأبنودي وشعراء الصعيد وغيرهم الكثير. ومع كلّ هذه النقاشات الكثيرة، يتعين علينا طرح السؤال، وهو هل يحتاج الشاعر حقًّا لاهتمام 'المؤسسات المؤدلجة؟'.

كان الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش له رأي مختلف في هذا الشأن، إذ حاول الابتعاد قدر المستطاع عن إدراج قصائده داخل المناهج الدراسيّة، مبرّرًا ذلك بأنّ هذه المؤسسات ومناهجها المهترئة من شأنها قتل الإبداع أكثر من إحيائه.

استطاع أحمد فؤاد نجم كذلك نزع اعتراف العامة بشعره، وهو الذي كان على خلاف دائم مع فكرة 'المؤسسة'، فبالنسبة لشاعر مثل نجم، قضى نصف حياته متنقّلًا بين سجون الأنظمة المختلفة التي مرّت على مصر، من عبد الناصر والسادات ومبارك، لم تعد تعنيه مسألة اعتراف المؤسسة أيًّا كانت بشعره.

وزارات التهميش في الوطن العربي

في الحقيقة ليست وزارة الثقافة هي الوحيدة التي تمارس التهميش، إذ يمتد هذا 'المنطق' إلى معظم مؤسساتنا في الوطن العربي، من الصحف ووسائل الإعلام ودور النشر، حيث تحوّل أصحابها إلى تجّار ذوي كروش منتفخة، مما أجبر الكثير من المبدعين العرب إلى التخلي عنها، وإيجاد بدائل 'فردية' تخطت هذه الوزارات، وعلى سبيل المثال ساقية الصاوي في مصر، التي أظهرت عجز وزارة الثقافة عن اللحاق بها في العروض المقدمة ودعم الفنانين، ولكن على كلّ الأحوال، حوّلت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة 'وزارة الثقافة' إلى قزم مضحك ومترهل أمام كمية الإبداعات الفردية الكبيرة، لكن السؤال الأساسي الذي علينا طرحه، من الذي يقرر؟، ومن الذي يسمح ومن الذي يمنع؟، وكيف يمكن أن يتحكم 'موظف' هدفه 'معاش آخر الشهر' بنشر الفن، وأن يقول لنا ما هو الشعر؟.

بالفعل يوجد إهمال ولامبالاة بشأن العلم والثقافة على حد سواء في وطننا العربي، من طرف المؤسسات الرسمية والإعلام وحتى العامة، ولكن هذا الإهمال يندرج تحت سياق أكثر تعقيدًا مما نعتقد، فالأمر ليس متعلّقًأ بالشعر فقط، ولكنه متعلق بتقزيم مكانة البحث العلمي والمعرفة بشكل عام، والذي يزيد في تعقيد هذه الصورة العامة 'المخجلة' إلى حدّ كبير.

التعليقات