13/09/2023 - 19:17

النشر الذاتيّ في عصر الإنترنت: انقلاب على المؤسّسة التقليديّة

في حين أنّ النشر الذاتيّ قطع شوطًا طويلًا في اكتساب المصداقيّة، إلّا أنّه لا يزال هناك وصمة عار مرتبطة به في بعض الأوساط الأدبيّة

النشر الذاتيّ في عصر الإنترنت: انقلاب على المؤسّسة التقليديّة

(Getty)

خلال عقود خلت، كان على الكتّاب أن يدخلوا متاهة عالم النشر التقليديّ ويتنقّلوا فيه، على أمل الحصول على وكيل أدبيّ والحصول على فرصة لنشر أعمالهم مع دور ومؤسّسات النشر، لكن بعد دخول الإنترنت، أحدث ظهور النشر الذاتيّ ثورة في الطريقة الّتي يشارك بها الكتّاب قصصهم مع العالم، حيث استطاع العديد من الكتّاب التحرّر من قيود دور النشر وتعقيداتها، ما فتح الفرصة والمجال أمامهم لعرض نتاجاتهم الأدبيّة والفكريّة.

وبشّر العصر الرقميّ بعصر من الوصول غير المسبوق إلى المعلومات والتكنولوجيا، ومع ظهور الكتب الإلكترونيّة، والأسواق عبر الإنترنت، وخدمات الطباعة حسب الطلب، أصبح النشر الذاتيّ خيارًا قابلًا للتطبيق وجذّابًا للكتّاب، لّم يعد يتعيّن على المؤلّفين الاعتماد فقط على دور النشر التقليديّة لإيصال أعمالهم إلى الجماهير، حيث يسمح النشر الذاتيّ للكتاب بالتحكّم في "مصائرهم الإبداعيّة".

وإحدى أهمّ مزايا النشر الذاتيّ هي السرعة الّتي يمكن بها للكتاب وضع أعمالهم في أيدي القرّاء، حيث يمكن أن يكون النشر التقليديّ عمليّة طويلة وغير أكيدة النتائج في كثير من الأحيان، حتّى بعد الحصول على عقد نشر، قد يستغرق الأمر أشهرًا أو حتّى سنوات حتّى يصل الكتّاب إلى الرفوف، لكن في المقابل، يمكن للمؤلّفين الّذين ينشرون أعمالهم ذاتيًّا أن ينشروا أعمالهم بسرعة وكفاءة، ليصلوا إلى جمهورهم على الفور تقريبًا.

وأحد أكثر جوانب النشر الذاتيّ تحرّرًا هو مستوى التحكّم الإبداعيّ الّذي يوفّره للكتاب، فعند العمل مع دور النشر التقليديّة، غالبًا ما يتعيّن على المؤلّفين تقديم تنازلات وتسويات لتناسب رؤية الناشر ومعايير التسويق، وقد تؤدّي هذه التنازلات أحيانًا إلى إضعاف صوت المؤلّف ورؤيته الفريدة، ومع النشر الذاتيّ، يكون للكتاب القول الفصل في كلّ جانب من جوانب إنتاج كتبهم، بدءًا من تصميم الغلاف وحتّى التنسيق والتحرير، ويسمح هذا المستوى من التحكّم للمؤلّفين بالبقاء صادقين مع رؤيتهم الفنّيّة وإنتاج كتاب يمثّل تمثيلًا حقيقيًّا لإبداعهم، وفي عصر تحظى فيه الفرديّة والأصالة بتقدير كبير، يوفّر النشر الذاتيّ للكتاب منصّة للتعبير عن أنفسهم بشكل كامل.

وتتضمّن عقود النشر التقليديّة عادة سلفًا وإتاوات، لكنّ هذه المكافآت الماليّة غالبًا ما تأتي مصحوبة بشروط، وقد يحصل الكتّاب على دفعة مقدّمة، ولكن يجب استعادتها من خلال مبيعات الكتب قبل أن يروا أيّ دخل إضافيّ، بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يحصل المؤلّفون على جزء صغير فقط من الأرباح من كلّ عمليّة بيع في شكل إتاوات.

في المقابل، يحتفظ المؤلّفون الّذين ينشرون أعمالهم ذاتيًّا بجزء أكبر من أرباح كتبهم، وفي حين أنّه قد يكون لديهم تكاليف أوّليّة مرتبطة بالتحرير وتصميم الغلاف والتسويق، فإنّ غالبيّة الإيرادات من مبيعات الكتب تذهب مباشرة إلى جيوبهم، ويمكن أن تكون هذه الحرّيّة الماليّة جذّابة بشكل خاصّ للكتّاب الّذين يتطلّعون إلى كسب لقمة العيش من حرفتهم أو أولئك الّذين يرغبون في الاستثمار في حياتهم المهنيّة في الكتابة.

والنشر الذاتيّ لا يقيّد الكتّاب بتنسيق أو منصّة واحدة، ففي العصر الحديث، أصبح لدى المؤلّفين العديد من خيارات النشر في متناول أيديهم، إذ يمكنهم إصدار الكتب الإلكترونيّة والكتب المطبوعة وحتّى الكتب الصوتيّة، وتسمح هذه المرونة للكتاب بتلبية مجموعة واسعة من تفضيلات القرّاء وتوسيع نطاق وصولهم إلى جمهور عالميّ، وعلاوة على ذلك، يمكن للمؤلّفين الّذين يقومون بالنشر الذاتيّ اختيار توزيع كتبهم من خلال منصّات مختلفة عبر الإنترنت، حيث توفّر هذه المنصّات الوصول إلى عدد كبير من القرّاء، ممّا يسهّل على المؤلّفين التواصل مع جمهورهم المستهدف، ويمكن للكتّاب أيضًا الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعيّ وأدوات ترويج الكتب لزيادة ظهورهم وإمكانات مبيعاتهم.

وغالبًا ما تركّز دور النشر التقليديّة على الكتب ذات الجاذبيّة التجاريّة الواسعة، وفي حين أنّ هذه الاستراتيجيّة يمكن أن تؤدّي إلى الكتب الأكثر مبيعًا، إلّا أنّها تترك العديد من الأسواق المتخصّصة تعاني من نقص الخدمات، ومن ناحية أخرى، يتمتّع المؤلّفون الّذين ينشرون أعمالهم ذاتيًّا بحرّيّة الاستكشاف وتلبية احتياجات الجماهير المتخصّصة.

على سبيل المثال، يمكن للكاتب الشغوف بنوع فرعيّ معيّن من الخيال العلميّ أو جانب معيّن من التاريخ إنشاء كتب مصمّمة خصّيصًا لتلك الاهتمامات، وقد تكون هذه الأسواق المتخصّصة صغيرة مقارنة بجمهور السوق الشامل، لكنّها يمكن أن تكون مخلصة بشكل لا يصدّق ومستعدّة لدعم المؤلّف الّذي يتحدّث مباشرة عن شغفه، وتعدّ هذه القدرة على الاستفادة من الأسواق المتخصّصة ميزة كبيرة للمؤلّفين الّذين ينشرون أعمالهم ذاتيًّا.

والنشر الذاتيّ لا يقتصر فقط على كتابة كتاب؛ إذ يتعلّق الأمر أيضًا بتعلّم خصوصيّات وعموميّات صناعة النشر، وغالبًا ما يكتسب المؤلّفون الّذين يختارون طريق النشر الذاتيّ خبرة قيّمة في مجالات مثل التسويق وتصميم الغلاف والتنسيق والتوزيع، حيث يمكن تطبيق هذه المهارات على المشاريع المستقبليّة وحتّى تؤدّي إلى فرص في صناعة النشر أو المجالات ذات الصلة.

وغالبًا ما يصبح المؤلّفون الناجحون الّذين ينشرون أعمالهم ذاتيًّا أكثر من مجرّد كتاب؛ تصبح علامات تجاريّة شخصيّة، ومن خلال إنشاء اتّصال مباشر مع القرّاء من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ، والنشرات الإخباريّة، ومواقع المؤلّفين، يمكن للكتاب بناء قاعدة جماهيريّة مخلصة، حيث يمكن أن تكون قاعدة المعجبين هذه مفيدة في زيادة مبيعات الكتب والتسويق الشفهيّ والنجاح على المدى الطويل.

وحقّق مؤلّفون مثل هيو هويّ (مؤلّف كتاب "Wool") والروائيّة أماندا هوكينج شعبيّة هائلة ونجاحًا ماليًّا من خلال النشر الذاتيّ، حيث استفادوا من تواجدهم عبر الإنترنت وتفاعلوا مع قرّائهم لبناء علامة تجاريّة شخصيّة قويّة ودائمة.

وفي حين أنّ النشر الذاتيّ قطع شوطًا طويلًا في اكتساب المصداقيّة، إلّا أنّه لا يزال هناك وصمة عار مرتبطة به في بعض الأوساط الأدبيّة، حيث يجادل بعض النقّاد بأنّ الأعمال المنشورة ذاتيًّا تفتقر إلى مراقبة الجودة ومعايير التحرير الصارمة لدور النشر التقليديّة، ومع ذلك، فإنّ هذا التصوّر يتغيّر مع قيام المزيد من المؤلّفين الّذين ينشرون أعمالهم بأنفسهم بالاستثمار في التحرير الاحترافيّ وإنتاج كتب عالية الجودة.

وحصل العديد من المؤلّفين الّذين نشروا أعمالهم ذاتيًّا على إشادة من النقّاد وجوائز أدبيّة، ممّا يتحدّى فكرة أنّ النشر الذاتيّ هو طريق أقلّ للاعتراف، مع إعطاء القرّاء الأولويّة بشكل متزايد للمحتوى على ختم الناشر، فإنّ وصمة العار المحيطة بالنشر الذاتيّ تتلاشى تدريجيًّا.

التعليقات